الفترة ما بعد استسلام غرناطة كانت سهلة وميسرة .. فرناندو وإيزابيلا كانوا عاوزين يضمنوا تحقيق أكبر مكاسب من تنفيذ المعاهدة بأقل تكاليف ممكنة .. مشيوا فى كل الطرق فى نفس الوقت .. عاوز تسيب الأندلس وتمشى .. براحتك .. عاوز تقعد .. براحتك .. عاوز تمشى وتبيع ممتلكاتك لمسلمين أو لمسيحيين .. براحتك ومفيش إجبار .. عاوز تشارك فى الحياة السياسية .. تمام .. هنعملك مجلس محلى للمدينة وهيبقى ليك الحق فى إنتخاب مرشحينك زى ما تحب .. عاوز معاملة طيبة من السلطات فى غرناطة .. بسيطة .. هنعينلك واحد من النبلاء المعروف باللين حاكم على المدينة هو ( إنييجو لوبيز دى مندوثا – Íñigo López de Mendoza ) المشهور بإسم ( كونت دى تندليا – Conde de Tendilla ) .. هنعينلك كمان أسقف للمدينة بينتهج سياسة النصح والإرشاد هو ( هرناندو دى تالافيرا – Hernando de Talavera ) .. نفسك فى إيه تانى يا مسلم ؟
طب كل ده كان هدفه إيه ؟
* تشجيع المسلمين المتشككين فى ملوك إسبانيا على الرحيل من البلاد وبالتالى تقليل الكتلة المعارضة لهم
* شراء ممتلكاتهم بأسعار زهيدة بسبب رغبتهم فى الرحيل
* توفير مناخ سياسى عادل للمسلمين لإقناعهم بملائكية حكامهم الجدد
* معاملتهم بالحسنى لضمان إنصياعهم وعدم حنينهم لدولتهم السابقة
* إستخدام سياسة الإرشاد والتوعية بالعقيدة الكاثوليكية على أمل تغيير ديانتهم طواعية
ـــــ
خلال شهور بسيطة كان عدد كبير جداً من مسلمى الأندلس إنتقلوا لمدن شمال إفريقيا لدرجة إن سكان مدن كاملة فى الأندلس بقوا يتفقوا مع بعض على إختيار مدينة واحدة للهجرة ليها .. باديس وطنجة وتطوان وسلا وآسفى وأزمور فى المغرب .. وهران وتلمسان وبجاية فى الجزائر .. قابس وصفاقس وسوسة فى تونس .. والأقلية منهم إتجه لليبيا ومصر والدولة العثمانية .. خلال شهور فقد الأندلس جزء كبير من أهله ورؤوس أمواله وأراضيه لصالح نبلاء وقادة قشتالة وأراجون ..
الكنيسة الكاثوليكية وقتها كانت وصلت لمرحلة مرعبة من النفوذ والسطوة .. كلمة البابا وكبار الأحبار والأساقفة كانت مسموعة ومعتبرة بشكل يفوق تخيلك .. من وقت إستلام إسبانيا لغرناطة وإنتهاء الوجود الإسلامى على المستوى السياسى وهما عاوزين ينهوه على المستوى الإجتماعى كمان إما بالترحيل أو بالتنصير ولكن زى ما قلنا ففرناندو وإيزابيلا كان رأيهم إن الإصطدام السريع مع المسلمين ممكن يخليهم يلجأوا للثورة وده مكانش مطلوب لإن سلاحهم وقتها مكانش تم نزعه بشكل كامل .. عشان كده طالبوا الأحبار إنهم يصبروا شوية ويدوهم فرصة لتسوية الموضوع بطريقتهم ..
ـــــ
الإنقلاب على المعاهدة طبعاً محصلش مرة واحدة .. الموضوع مر بمراحل وكانت له شواهد .. الشاهد الأول لكده حصل يوم إستلام المدينة .. الإسبان لما استلموا غرناطة رفعوا صليب فضى كبير على أحد أبراج قصر الحمراء إسمه ( برج الحراسة – Torre de la Vela ) .. رفعوا كمان علم مملكة قشتالة ورفعوا جنبه علم القديس يعقوب اللى إتبنى على إسمه أقدس كاتدرائية فى إسبانيا وهى ( كاتدرائية شنت ياقب – Catedral de Santiago de Compostela ) .. ضربوا المدافع إبتهاجاً وصلى الكهنة صلاة معروفة عندهم إسمها ” صلاة الحمد لله ” .. لكن إجمالاً دى مكانتش مشكلة كبيرة على إعتبار إن ده حصل فى قصر الحمراء اللى يعتبر مقر للحكم والرمز السياسى لغرناطة الإسلامية .. يعنى الموضوع كان مجرد تأكيد على الهوية النصرانية الجديدة للمدينة مش أكتر ..
الشاهد التانى للإنقلاب على المعاهدة حصل لما فرناندو وإيزابيلا خافوا من وجود أبو عبد الله الصغير فى الأندلس لإن الناس ممكن تتجمع حواليه من تانى إذا حسوا بأى خطر يهددهم .. أصل فكر فيها .. طول ما رمز الأندلسيين لسه موجود فى البلد فالخطر هيفضل موجود .. ودى بالمناسبة عادة متوارثة من قديم الأجل .. الملك المهزوم إما يتقتل أو يتنفى .. ولو إتنفى ووجوده لسه بيمثل خطر يبقى يتقتل حتى وهو فى منفاه ..
أبو عبد الله الصغير وتنفيذاً لبنود المعاهدة إختار إنه يقعد فى مدينة إسمها ” أندريش ” ودى إحدى مدن منطقة البُشرات وهناك عاش لمدة سنة فى ترف وسعادة .. بعدها بدأت المفاوضات بين مبعوث ملكى إسبانيا وبين وزراء أبو عبد الله الصغير .. مفاوضات سرية مكانش يعرف عنها حاجة أصلاً وبعد الإتفاق على كل بنودها تم عرضها عليه عشان يطلع عليها .. طبعاً غضب جداً فى الأول وإن ده يعتبر ضد بنود المعاهدة ولكن زى ما قلنا قبل كده .. مين اللى يضمن للمسلمين تنفيذ البنود دى أصلاً ؟
بعد مناقشات وحوارات قدر الوزير إبن كماشة إنه يأثر عليه وزين له فكرة العبور للمغرب بحكم إنها ديار إسلام وإن هناك هيلاقى الرعاية الكاملة ليه ولأسرته وهيحس بالأمان اللى مكانش متوفر ليه فى إسبانيا لإن ملوك قشتالة كانوا بيراقبوا كل خطواته وحركاته فى المدينة .. المهم إن الوزير أقنعه بالعبور للمغرب وبالفعل وافق على إنه يبيع كل ممتلكاته لفرناندو وإيزابيلا مقابل 21 ألف جنيه قشتالى ذهبى تدفع له قبل 8 أيام من مغادرته للأندلس مع توفير كافة وسائل النقل من عربات وسفن لنقل كل ما يخصه بالبلاد .. الإتفاق كمان تم على بيع كل ممتلكات أسرة أبو عبد الله ووزراءه وقادته وخاصته من الفرسان والجند .. محدش من المقربين للملك المعزول إستمر فى الأندلس أو كان له قشاية فى البلد قبل ما يمشى .. ملوك إسبانيا كانوا حريصين جداً إنهم ميسيبوش ليه أى منفذ للمطالبة بشبر واحد من مملكته فى المستقبل ..
ـــــ
الشاهد الثالث والأخير للإنقلاب على بنود المعاهدة حصل بعد سبع سنين من توقيع المعاهدة .. أصوات المعارضين لبقاء المسلمين فى الأندلس كانت بتعلى كل يوم أكتر من اللى قبله وصبر أحبار الكنيسة نفد تماماً بعد سنين من إنتهاج سياسة النصح والإرشاد اللى تزعمها الأسقف تالافيرا .. سياسة الرفق لم تثمر عن شيء تقريباً والمسلمين إستمروا على دينهم ولم يقبل على إعتناق المسيحية إلا عدد صغير جداً كانت له مصالح مع رجال التاج الإسبانى فكان إعتناقها وسيلة أسرع لتسيير أمورهم ومصالحهم ..
الدكتور محمد عبد الله عنان نقل فى كتابه ” دولة الإسلام فى الأندلس ” فقرة كتبها المؤرخ الإسبانى ( لويس ديل مارمول كارباخال – Luis del Marmol Carvajal ) اللى عاش فترة الإضطهاد الكاثوليكى للمسلمين واصفاً تصرفات رجال الكنيسة وقتها فقال :
( إنه منذ استولى فرناندو على غرناطة كان الأحبار يطلبون إليه بإلحاح أن يعمل على سحق طائفة محمد من إسبانيا .. وأن يطلب إلى المسلمين الذين يودون البقاء إما التنصير أو بيع أملاكهم والعبور إلى المغرب .. وأنه ليس فى ذلك خرق للعهود المقطوعة لهم .. بل فيه إنقاذ لأرواحهم وحفظ لسلام المملكة لأنه من المستحيل أن يعيش المسلمون فى صفاء وسلام مع النصارى أو يحافظون على ولائهم للملوك ما بقوا على الإسلام وهو يحثهم على مقت النصارى أعداء دينهم )
طبعاً الرأى ده كان متطرف جداً لإن فى نماذج كتير للتعايش السلمى بين المسلمين وغيرهم من أصحاب الشرائع الأخرى سواء قديماً أو حديثاً ولكن الكاتب هنا كان بيشرح مدى التشدد اللى كان مسيطر على تفكير أحبار الكنيسة وقتها .. الضغط ده للأسف نجح فى الوصول لهدفه وأسفر عن سماح ملكى إسبانيا بإنشاء مقرات لمحاكم التفتيش فى غرناطة مع تولى رجل دين متشدد إدارة الشئون الدينية فيها وتحجيم دور الأسقف ( هرناندو تالافيرا )
إسبانيا بعتت لغرناطة رئيس أساقفة طليطلة الكاردينال ( فرانسيسكو خيمينيز دى سيسنيروس – Francisco Jiménez de Cisneros )
ـــــ
الكاردينال سيسنيروس كان عكس تالافيرا تماماً .. راجل متطرف جداً كان مقتنع إن المسلمين لازم يخرجوا من إسبانيا أو يتم تنصيرهم بالإجبار .. من شدة تطرفه شبه سياسة تالافيرا فى إقناع المسلمين بالكاثوليكية سلمياً بإعطاء اللؤلؤ للخنازير .. فالمسيحية من وجهة نظره لؤلؤ لا يجب إعطاؤه للخنازير اللى هما المسلمين حسب إعتقاده ..
الراجل ده وصل غرناطة فى يوليو سنة 1499 وعلى الفور بدأ بالمعاهدة نفسها لإيجاد ثغرة يبتدى منها .. المعاهدة كانت تمنع إخضاع المسلمين لسلطة محاكم التفتيش لكنها كانت بتسمح بإستجواب المسلمين من أصول مسيحية .. يعنى اللى كانوا مسيحيين وأسلموا .. طبعاً اللى كان مكتوب فى المعاهدة إن الإستجواب ده هدفه النصح والإرشاد بهدف العودة للمسيحية مرة تانية لكن اللى حصل على أرض الواقع إن اللى كان بتستدعيه محاكم التفتيش مكانش بيرجع تانى أبداً .. أغلب النماذج دى كانت بتبقى زوجات نصرانيات لمسلمين فكانت الست ببتاخد من بيتها ومن زوجها ومن أولادها وتختفى لفترة طويلة وبيتقال إنها رجعت تانى للمسيحية .. فى الحالة دى مبيبقاش قدام الأسرة إلا التنصر عشان يقدروا يجتمعوا تانى مع بعض .. ده كان أول مسار سلكه الكاردينال سيسنيروس ..
المسار التانى كان عملى أكثر .. الراجل حب يجيب من الأخر .. جمع الأعيان وكبار التجار وأصحاب الأموال .. ليه ؟ .. لإنهم أصحاب مصالح .. دى ناس ليها فلوس وممتلكات وزادت ثرواتهم بعد ما اشتروا ممتلكات المسلمين اللى هاجروا على شمال إفريقيا .. يعنى عندهم اللى يخسروه .. تعالى يا عم الحج إنت وهو .. خدوا هدايا وتحف وكل اللى إنتوا عاوزينه .. طب إيه المقابل ؟ .. تتنصروا .. بعضهم وافق وبعضهم رفض .. اللى رفض تم تهديده فى ماله وأهله لحد ما أُجبر على القبول .. طب وافقوا ليه ؟ .. ما كانوا خرجوا على المغرب هما كمان .. دى سقطة منهم طبعاً لكن أقرب التصورات إنهم رفضوا الخروج لإرتباطهم بمكان نشأتهم ومحل تجارتهم وبشبكة مصالحهم المتوارثة من سنين طويلة ..
وافقوا كمان لإن سبقهم شريحة كبيرة من أمراء الأسرة المالكة وبعض الوزراء اللى رفضوا العبور للمغرب .. يكفى أقولك إن من ضمن اللى تنصروا ولاد الملك أبو الحسن من زوجته الإسبانية .. إبن عم القائد محمد الزغل وحاكم ألميرية .. الوزير أبو القاسم بن رضوان .. الوزير يوسف بن كماشة وغيرهم من كبار رجال السياسة وقتها .. فإذا كانوا دول تنصروا فيبقى ليه التجار والأعيان ميتنصروش هما كمان إما طوعاً أو كرهاً ..
دى كانت بس البداية ..
ولسه الإجراءات كتير وللأسف مع الوقت بتبقى أصعب وأقسى على أهل الأندلس ..
ـــــ