بعد إتفاق فقهاء وأعيان غرناطة على عزل ( أبو الحسن ) وإبنه ( أبو عبد الله الصغير ) من الحكم وتولية ( محمد الزَغْل ) مكانهم عاشت المدينة فترة من التوتر الحذر .. أبو عبد الله الصغير قاعد فى قصر البَيَّازين ورافض قرار الفقهاء والزغل قاعد فى قصر الحمراء وحاسس إن عرش المملكة لازال غير مستقر .. كل يوم والتوتر بين الفرقتين عمال يزيد وكان وارد جداً الحرب الأهلية تقوم فى أى لحظة ..
الوضع ده خلى محمد الزغل يعرض على ابن أخوه فكرة تقاسم السلطة وإن هما الإتنين يحكموا البلاد بالشورى .. وافق أبو عبد الله الصغير ظاهرياً لكنه من جواه كان رافض الإقتراح ده وعشان كده بعت لفرناندو يطلب مساعدته فى التخلص من عمه على أمل إنه يحكم الإمارة لوحده .. من ناحية تانية الزغل راسل والى مدينة قادش المؤيد ليه وكمان راسل ابن أخوه والى مدينة ألميريا عشان يتجهزوا لنصرته لو حصل صدام عسكرى فى أى وقت .. غرناطة كانت ممزقة حرفياً وقتها ..
أول نتايج الوضع المزرى ده كانت إستيلاء فرناندو على مدينة ( رُندة – Ronda ) سنة 1486 ميلادياً .. عندها أعيان المدينة اتجمعوا تانى وحاولوا يصلحوا بين الزغل وأبو عبد الله الصغير فاصطلحوا على مضض وحتى لما اصطلحوا متجمعوش فى جيش واحد .. لأ .. ده كل واحد منهم بقى يحارب لوحده .. الزغل راح يفك الحصار عن مدينة ( بِلش – Vélez ) وأبو عبد الله الصغير راح يفك الحصار عن مدينة ( لوشة – Loja )
طبعاً فرناندو الثانى غضب جداً بسبب التحركات دى وعلى طول راسل أبو عبد الله الصغير وفكره بمعاهدة إطلاق سراحه لما كان فى الأسر واللى بتجبره على التبعية ليه وكمان فكره بإبنه اللى كان مأسور فى قشتاله كضمان لتنفيذه للمعاهدة وعلى ما يبدو فالمراسلات دى جابت أثر سريع لإن جيش أبو عبد الله الصغير تراجع لغرناطة بسرعة وده سمح لفرناندو بالإستيلاء على حصنين مهمين جداً فى المنطقة دى هما حصنى ( الجورة – Illora ) و ( الموكلين – Moclin )
ـــــ
بعد فشل حملته رجع أبو عبد الله الصغير على غرناطة الأول وبدخوله للمدينة قفل أبوابها فى وش عمه فى تكرار للى عمله مع أبوه قبل كده .. الموقف ده كان المسمار الأخير فى نعش العلاقة بين الطرفين ومعاه انقسمت المملكة تماماً وضعفت قدراتها العسكرية بحكم حالة الشقاق اللى حصلت .. للأسف الشديد بسبب الحالة دى بدأت المدن الكبرى فى غرناطة تسقط واحدة ورا التانية .. سقطت ( ملقا – Málaga ) فى أغسطس سنة 1487 وتم القبض على كل المسيحيين اللى تركوا مملكة إسبانيا من فترة وعاشوا فيها وتم تحويلهم لمحاكم التفتيش اللى أمرت بحرقهم أحياء وتم حرقهم بالفعل فى إحتفال رسمى حضره كبار رجال الدولة ..
بالمناسبة محاكم التفتيش كانت موجودة بالفعل فى إسبانيا من عشرات السنين وهدفها الأساسى كان التأكد من نقاء العقيدة الكاثوليكية وبمقاييس زمانهم فأى حد لجأ لأراضى المسلمين تعتبر عقيدته غير سليمة ومع حالة التطرف اللى كانت موجودة وقتها كان عادى جداً إن يتحكم عليهم بالقتل حرقاً كعقاب على اللى عملوه .. يعنى بإختصار محاكم التفتيش مكانتش موجهة بالأساس للمسلمين ولكن مع توسع إسبانيا فى حربها ضد المسلمين توسعت كمان سلطات المحاكم دى وشملت المسلمين واليهود وأى حد مخالف للعقيدة الكاثوليكية ..
الوضع المأساوى ده سرع وتيرة الإنهيار والمدن اللى كانت بتحتاج لشهور عشان تستسلم بقت بتقع فى قبضة الإسبان فى أسابيع .. خلال سنتين بس سقطت ( قادش – Cádiz ) .. ( ألميريا – Almería ) .. ( طبرنة – Tabernas ) .. ( وادى آش – Guadix ) .. ( بسطة – Baza ) .. ( مورسية – Murcia ) .. ( البيضاء – Pueblos Blancos ) .. بالإضافة لكافة القرى والحصون الخاضعة لسلطة محمد الزغل .. أكتر من 400 قرية بسكانهم المسلمين فجأة بقوا تحت رحمة فرناندو الثانى .. خلال سنتين بس إتحول محمد الزغل من حاكم على المتبقى من دولة الإسلام فى الأندلس لمجرد جندى من جنود فرناندو بل إنه شارك بنفسه فى صفوف الإسبان فى إحدى معارك الإستيلاء على غرناطة ..
ـــــ
فى أوائل سنة 1490 وصلت رسالة فرناندو وإيزابيلا لبلاط أبو عبد الله الصغير ..
( سلم إلينا قصر الحمراء ولك أن تعيش فى طاعتنا وتحت رعايتنا فى غرناطة أو أى مكان أخر تختاره )
الرسالة دى تم إرسالها من فرناندو وهو على يقين من قبول أبو عبد الله الصغير ليها لإن ده كان من ضمن شروط الإفراج عنه لما كان فى الأسر .. تسليم غرناطة إذا ما استسلمت مدن بسطة وقادش ووادى آش .. العجيب فى الموضوع إن أبو عبد الله الصغير رفض تسليم غرناطة .. رفضها رغم إن المراسلات بينه وبين فرناندو وإيزابيلا تكررت أكتر من مرة وفى كل مرة كان بيرفض ..
سبب الرفض إنه إكتشف متأخر أوى إن هدف الإسبان مش الطمع فى ثروات غرناطة أو ضواحيها .. هدفهم الأساسى كان السيطرة على المسلمين وإنهاء أى سلطة لهم فى إسبانيا .. فى الوقت ده مكانش فى أندلس خلاص .. حتى غرناطة مكانتش تعتبر مملكة أو حتى إمارة .. غرناطة كانت مجرد رمز إسلامى أخير فى بلاد أصبحت كلها نصرانية والمسلمين اللى هناك إما ماتوا أو تنصروا حفاظاً على مصالحهم أو بقوا ( مُدَجنين – Mudéjares ) .. يعنى مسلمين بلا أى مطامع فى عودة الأندلس مرة تانية تحت راية الإسلام .. شوية صناع مهرة أو مزارعين عايشين عشان ياكلوا ويشربوا وبس .. حتى إسمهم كان له دلالة مهينة فى وصفهم .. مدجنين ..
من أسباب الرفض برضه إن غرناطة وقتها كانت الملاذ الأخير لمسلمى الأندلس .. كل ما الإسبان كانوا بيستولوا على مدينة إسلامية كان أهلها بيعملوا حاجة من ثلاثة :
1 – يعيشوا كمدجنين فى مكانهم
2 – يسيبوا الأندلس كله ويهاجروا على شمال إفريقيا أو الدولة العثمانية
3 – يروحوا على غرناطة
الشريحة التالتة دى كانت هى الشريحة اللى بتضم الشباب التواق للجهاد .. الشباب اللى الموت أهون عنده من التدجين .. اللى الهروب من وطنه مش إختيار مطروح أساساً .. الشريحة دى هى اللى شجعت أبو عبد الله على رفض تسليم البلد .. منقدرش ننكر برضه إن كبرياء الملوك وشهوة السلطة لعبت دور فى رفضه التسليم بسهولة .. لو هسلم يبقى أدافع عن سلطانى قدر الإمكان وطالما عندى القوة البشرية اللى تخلينى أعطل التسليم ده فيبقى ليه لأ ..
ـــــ
غضب فرناندو وإيزابيلا من الرفض ده وتحركوا بجيشهم على غرناطة وفى يوليو سنة 1490 حصلت معركة بين الطرفين قرب أسوار المدينة انتصر فيها المسلمين وقدروا إنهم يصدوا جيش الإسبان .. إنتصار شجع جيش غرناطة على الإستمرار فى الهجوم وبالفعل استردوا عدد كبير من القرى والحصون المحيطة بالمدينة .. الإنتصارات السريعة دى شجعت المسلمين اللى كانوا خارج غرناطة على الثورة ضد حكامهم الجدد وبدأت روح المقاومة تدب فيهم من جديد ..
من ضمن الأماكن اللى دبت فيها الثورة مدينة إسمها ( أندريش – Láujar de Andarax ) كانت من أوائل المدن اللى راحلها أبو عبد الله الصغير .. مين اللى كان فى حصن المدينة دى ؟ .. عمه محمد الزغل .. اللى أول ما عرف إن جيش المسلمين جاى على المدينة راح جمع أصحابه وفلوسه واتحرك على ألميرية ومنها عدى البحر واستقر فى المغرب – وقيل الجزائر – وفضل عايش هناك لحد ما مات ..
خلال شهر ونص تقريباً وجيش المسلمين بيحقق إنتصارات سريعة وقوية جداً .. إسترجاع ( قرية همدان – Pueblo de Hamedan ) .. إقتحام (حصن شلوبينية – Salobreña ) .. محاولة فتح ثغر المنكب لتسهيل الإتصال ببلاد المغرب عن طريق البحر .. صحوة عظيمة بصراحة لكنها للأسف كانت أشبه بصحوة الموت .. فرناندو استغل شهور الشتاء كلها فى تجهيز جيشه بأفضل تجهيز ممكن وفى أوائل سنة 1491 قرر حصار غرناطة بصفتها مركز المقاومة وإذا سقطت سقط معها أى رغبة فى الثورة .. قرابة ال 80 ألف جندى وفارس .. مدافع حديثة .. ذخائر لا حدود لها .. أدوات حصار .. مؤن تكفى لشهور مع سهولة حركة الإمداد .. فرناندو وإيزابيلا كانوا ناويين المرة دى بجد على إجبار غرناطة على الإستسلام ..
ـــــ
فى إبريل سنة 1491 ميلادياً عسكر الجيش القشتالى على بعد حوالى 12 كيلو من غرناطة .. تحديداً على ( نهر شنيل – Singilis ) .. وبدأت سرايا الجيش فى قطع الموارد عن غرناطة .. خربوا كل الحقول المحيطة بالمدينة وهجروا أهل القرى القريبة منها وضربوا عليها حصار قوى جداً وضاعفوا دوريات الحراسة فمكانش فى حد يقدر يدخل غرناطة أو يخرج منها .. وإمعاناً فى التأثير المعنوى أمر فرناندو فى بناء مدينة فى جنوب غرب غرناطة وسورها بسور لحماية الجيش إذا ما طال الحصار ودخل عليهم فصل الشتاء .. مدينة سمتها إيزابيلا ( سانتا فى – Santa fe ) أو الإيمان المقدس .. صبغة دينية واضحة لحرب صليبية على أخر ما تبقى للمسلمين فى الأندلس ..
مع الوقت جاع أهل غرناطة بسبب شح الموارد .. العدد اللى كان داخل أسوار المدينة كان أكتر من 400 ألف إنسان .. ومع نقص الموارد فالعدد الكبير بيتحول لنقمة .. 7 شهور من الصبر والمعاناة والجلد والإستبسال فى القتال .. الروايات الإسبانية والعربية إتفقوا تماماً فى الجزئية دى .. فرسان المسلمين أبدوا براعة واستبسال غير طبيعى فى الدفاع عن غرناطة كأنه إعتذار إلى الله سبحانه وتعالى عن تقصيرهم السابق وإنهم مستسلموش بإرادتهم ..
ـــــ
مع دخول الشتاء أصبح الإستمرار فى الدفاع مستحيل .. مات خيرة الفرسان وضعفت القوى وحل البلاء على أهل غرناطة فمال أهل الحل والعقد فى المدينة للإستسلام ومكانش فيهم غير فارس واحد بس هو اللى كان عاوز يكمل قتال حتى لو مات كل أهل المدينة هو ( موسى بن أبى غسان ) .. ورغم إن كلامه كل مرة كان بيشحذ همم قادة الجيش إلا إنها مأثرتش فى مجلس الحكم المرة دى واتفق الجميع فى أواخر أكتوبر سنة 1491 على التفاوض للإستسلام حفاظاً على أرواح عامة المسلمين خاصة النساء والأطفال ..
بعد شهر تقريباً من المفاوضات وتحديداً فى 25 نوفمبر سنة 1491 ميلادياً بيتفق الطرفين على بنود الإستسلام وبيتم توقيع المعاهدة رسمياً من فرناندو وإيزابيلا ملوك إسبانيا ومن ( أبو القاسم عبد الملك ) حاكم غرناطة والمفاوض الرسمى لأبو عبد الله الصغير ملك غرناطة ..
وثيقة ضياع الأندلس رسمياً من المسلمين ..
ـــــ