سيرة صلاح الدين الأيوبى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الجزء السابع :
ـــــــــــــــــــــــ
إنتهت خطبة البابا أوربانوس و على الفور بدأ صداها فى الإنتشار تدريجياً .. البابا .. ممثل الله على الأرض يدعوكم لقتال المسلمين .. ماذا تنتظرون إذاً ؟!! .. إما الحياة الكريمة و إما الجنة فى الحياة الأبدية .. ذلك ما دارت حوله أحاديث الناس فى ذلك الوقت ..
و على الرغم من نشأة الحرب كحرب عقائدية هدفها الدفاع عن حق الحجيج المسيحيين فى زيارة بيت المقدس إلا أن دوافع المشاركين بها كانت مختلفة و متباينة بشدة .. فالبابا رغب فى بسط نفوذه الروحى لمناطق كان الوصول إليها يعد حلماً و الملوك و الأمراء رغبوا فى توسيع ملكهم و السيطرة على ممالك و إمارات جديدة و رجال التجارة رغبوا فى إنهاء سيطرة النفوذ الإقتصادى الإسلامى و فتح أسواق جديدة لهم أما الفقراء فقد رغبوا فى الهروب من الجوع و الفقر المدقع الذى عانوا منه فى أوروبا ..
على أى حال فالحرب آتية لا محالة ..
لكن من سيبدأها ؟
ـــــ
بطرس الناسك و والتر المفلس .. إثنان من رهبان مدينة إميان فى الشمال الفرنسى ما أن إنتهت الخطبة إلا و قررا السفر عبر أوروبا بهدف إشعال حماس الناس و تشجيعهم للخروج ضمن الجيش الصليبى و قيل أن تحركهم جاء بأمر مباشر من البابا شخصياً .. جولة الرحلان كانت ناجحة بكل المقاييس و إلتف حولهم عشرات الآلاف من الأوروبيين و لكن بحكم أن الجيوش النظامية تأخذ وقتاً أطول لتجهيزها فلم يستجب لهما إلا الفقراء و الفلاحين المدقعين كونهم وجدوا الخروج فرصة للهروب السريع من واقعهم المعيشى المؤلم .. خروج تلك الفئة من المجتمع هو أكسب للحمله إسمها لاحقاً .. حملة الفقراء أو حملة الرعاع ..
إستطاع والتر المفلس أن يحشد الناس بشكل أسرع من بطرس الناسك و بينما أراد بطرس إنتظار المزيد من المنضمين للحملة من ألمانيا بدأ الفرنسيين فى حشد والتر فى التململ .. فرنسا فى ذلك الوقت كانت أكثر الشعوب الأوروبية تديناً و هو ما جعل الفرق الفرنسية أكثر حماساً وو أشد رغبة فى الخروج السريع .. بدأ والتر حملته من شمال فرنسا ماراً بألمانيا و المجر و بلغاريا و صربيا جامعاً فى طريقه قرابة العشرين ألف جندى حتى وصل بهم إلى القسطنطينية .. أبرز أحداث تلك المسيرة هو ما حدث فى مايو عام 1096 قرب مدينة بلجراد الصربية و تحديداً فى حى سيملين – يطلق عليه حالياً إسم زيمون – حيث رفض حاكمها السماح لهم بالدخول بسبب عدم وصول تعليمات بخصوصهم فما كان من جيش الفلاحين إلا أن اقتحموا المدينة عنوة و بدأوا فى افتعال المشكلات مع سكانها ثم وصل الأمر ذروته حين حاول ستة عشر رجلاً من رجال والتر أن ينهبوا سوق المدينة فقبض عليهم و عوقبوا و نزعت ملابسهم و علقت على أسوارها ..
على الجانب الأخر إنتظر بطرس الناسك فترة حتى تجمع له عدد مقبول فخرج به ماراً بألمانيا و المجر حتى وصلوا إلى بلجراد فى يونيو عام 1096 لينضموا إلى حملة والتر المفلس .. ما أن وصلوا حتى علموا بأخبار القبض على زملاؤهم و كيف أن حاكم المدينة منعهم من الدخول حتى كادوا يهلكوا من الجوع فغضبوا و أقسموا على الإنتقام .. إفتعل رجال بطرس إضطرابات جديدة فى السوق تسببت فى إشتعال الوضع مجدداً أفضى إلى هجوم شامل على المدينة أسفر عن مقتل أربعة آلاف شخص من أهلها ..
بعد إستباحة المدينة هرب جيش الفلاحين ناحية مملكة بلغاريا ناهبين عدداً من المدن و المزارع فى طريقهم حتى صار وجودهم فى أى مدينة عبئاً عليها و أصبح غير مرحباً بهم طوال مسيرتهم .. وصل الأمر بحامية مدينة نيش لإخراج فرقتها العسكرية لمواجهتهم و حدثت بالفعل مواجهة عسكرية بينهما ما أسفر عن مقتل ربع أعضاء الحملة و إجمالاً فقد خسر بطرس الناسك أكثر من نصف حملته لأسباب متعددة منها المواجهات العسكرية و أيضاً بسبب الجوع و أخيراً بسبب عودة البعض إلى موطنه ..
ـــــ
مسمى حملة الرعاع لم يأتى من فراغ .. الأمر لا علاقة له بالفقر إطلاقاً .. القوام الأعظم لتلك الحشود كان من رعاع المجتمع حرفياً .. المجرمين و الخارجين على القانون و أصحاب المهن القذرة كانوا هم عماد الحملة .. عدوانيتهم الشديدة تجاه المدن التى عبروا خلالها و إنتهاك أسواقها و إقتحام أسوارها و إستيلاؤهم على كل ما تطاله أيديهم جميعها مظاهر تبرهن على نوعية أعضاء تلك الحملة .. من مظاهر جهلهم إعتقادهم بأن كل مدينة إستولوا عليها عبر مسيرتهم هى مدينة القدس فكانوا كلما دخلوا مدينة سرت الإشاعات بينهم أن تلك المدينة هى مهد المسيح و أنهم بهذا قد أنجزوا مهمتهم .. ألكسيوس كومنينوس إمبراطور الروم عندما استغاث بأوروبا لم يطلب تلك النوعية من المقاتلين .. تلك الحملة يمكن أن تزيد أزمات الإمبراطورية لا أن تنقذها .. كان لدى الرجل شكوك و لن يمر وقت طويل حتى تتحقق شكوكه ..
بعد وصول الحملة إلى القسطنطينية حدث ما كان يخشاه الإمبراطور حيث توجب عليه أن يرعى تلك الحشود لعدة أشهر حتى تأتى باقى الجيوش النظامية و رغم التكلفة المادية لأمر مثل هذا إلا أن ذلك لم يكن أكثر ما أرَّق الإمبراطور فالإضطرابات اليومية و حوادث السرقة و إزدياد العنف جعل الإمبراطور يخشى أن تتطور الأمور لمواجهات دموية مثل التى حدثت فى بلجراد فقرر أن ينقل أفراد الحملة بالسفن إلى أراضى السلاجقة عبر مضيق البوسفور فيتخلص من أذاهم ..
فى السادس من أغسطس عام 1096 توجهت السفن بالحملة إلى الأراضى التركية و كانت خطة الإمبراطور تقضى بإنتظار وصول الجيوش الصليبية و عدم الإشتباك مع السلاجقة تحت أى ظرف و يُروى أنه حذر بطرس الناسك كثيراً من هذا الإشتباك بسبب ضعف قدرات حملته مقارنة بقوة الأتراك العسكرية .. رست السفن على مسافة حوالى 20 ميل من مدينة نيقية عاصمة السلاجقة و معها بدأت الخلافات تدب بين صفوف الحملة .. فريق يرى تنفيذ توجيهات الإمبراطور بإنتظار باقى الجيوش و فريق يرغب فى الإغارة على القرى الصغيرة المحيطة بهم فانقسمت الحملة نصفين و نفذ اكل فريق منهم ما أراد ..
النصف الذى قام بالإغارة على القرى تمكن من السيطرة عليها فى وقت قصير و هو ما استفز النصف الآخر فقرروا الإنضمام إليهم خشية ألا يبقى لهم نصيب من الغنائم و بالفعل استمر نهبهم حتى وجد فريق منهم نفسه على حدود مدينة نيقية فقرروا الإستيلاء على أحد الحصون إسمه حصن زيريجوردون ..
ـــــ
فى المقابل كان الأتراك يتابعون ما يحدث عن طريق جواسيسهم و أدركوا أن هذا الحشد ليس جيشاً نظامياً و إنما هم مجموعة أقرب للعصابات و أنهم لا يتحركون وفق خطة عسكرية واضحة .. علموا أن أغلبهم مجتمع فى معسكر خارج المدينة و أن فريق منهم يحتمى فى حصن زيريجوردون و بعض الفرق الصغيرة لازالت تغير على القرى المجاورة .. بعد دراسة تلك المعطيات قرر قلج أرسلان قائد السلاجقة أن يحاصر المجموعة الموجودة فى الحصن أولاً فحاصرهم بعد أن قطع عنهم مصدر المياه الوحيد و هو خطأ تكتيكى ساذج لم تكن لتقع فيه أى فرقة عسكرية محترفة .. بعد ثمانية أيام من المعاناة قام الصليبيين بالإستسلام .. بعضهم أسلم و بعضهم إختار القتال فقتلهم السلاجقة بسهولة ..
الجزء الثانى من الخطة كان عبارة عن نشر إشاعة فى معسكر الصليبيين مفادها أن السلاجقة هزموا فى نيقية و أن فرقة حصن زيريجوردون إستطاعت السيطرة على المدينة فالتقط الصليبيين الطعم و جهزوا أنفسهم لدخول المدينة .. خلال الطريق علموا من خلال عيونهم حقيقة الوضع و أن الفرقة الصليبيية قد أبيدت فاختلفوا مرة أخرى بين إستمرارهم فى التقدم و بين العودة إلى القسطنطينية مرة أخرى فلما رأى بطرس الناسك ما حدث نصحهم بالمكوث مكانهم حتى يذهب إلى القسطنطينية ليطلب العون من الإمبراطور و كانت سلطته قد ضعفت بشدة و لم يعد بإمكانه السيطرة على الحملة فرحل عنهم و هو عازم على عدم العودة إليهم و هو ما حدث بالفعل ..
حين إستبطأ قادة الحملة عودة بطرس الناسك قرروا الهجوم على السلاجقة و رأوا أن العودة للقسطنطينية نوعاً من أنواع الجبن فتحرك أكثر من عشرين ألف جندى تجاه مدينة نيقية و أثناء عبورهم أحد الوديان الضيقة قام السلاجقة بالهجوم عليهم بعد أن نصبوا فيها عدداً من الأكمنة فأبادهم غير أن حوالى ثلاثة آلاف جندى استطاعوا الهرب و الإحتماء بأحد القلاع القريبة فحاصرهم السلاجقة لفترة قبل أن تتمكن كتيبة بيزنطية من فك الحصار عنهم و إعادتهم إلى القسطنطينية و معها إنتهت حملة الفقراء أو حملة الرعاع كما أصطلح عليها تاريخياً ..
ـــــ
فى تلك الأثناء و فى غرب أوروبا كان البابا أوربانوس الثانى يشرف بنفسه على تجهيز الجيوش الصليبية المتوجهة لقتال المسلمين و بالفعل إستطاع تجهيز خمسة جيوش رئيسية ينضم إليها عدد من الجيوش الفرعية أثناء توجهها إلى القسطنطينية ..
– الجيش الأول خرج من شمال فرنسا و غرب ألمانيا بقيادة جودفرى دو بويون دوق اللورين السفلى و هو إقليم يشمل مناطق تمر عبر خمس دول حالية هى فرنسا و ألمانيا و بلجيكا و هولندا و لوكسمبورج .. تواجد على رأس هذا الجيش أيضاً بالدوين الأول شقيق جودفرى دو بويون و ساعده الأيمن .. خرج أيضاً روبرت الثانى كونت فلاندرز و هو إقليم شمل مدن شمال بلجيكا مثل أنتويرب و جنت و بروج
– الجيش الثانى خرج من جنوب فرنسا بقيادة ريموند دو سان جيل أو ريموند الرابع دوق إقليم الناربون و هو إقليم يشمل مدن جنوب فرنسا حالياً مثل مارسيليا و مونبيليه و ناربون و بيزيه و كاركاسون
– الجيش الثالث خرج من غرب فرنسا و جنوب إنجلترا بقيادة روبرت الأول دوق النورماندى و هو إقليم يشمل مدن فى غرب فرنسا مثل روان و لوهافر و كان بالإضافة لجزر جيرسى و جيرنسى التابعين للمملكة المتحدة حالياً
– الجيش الرابع خرج من وسط و شمال فرنسا بقيادة هيو العظيم كونت فيرماندوا و هو إقليم يشمل مدن معروفة مثل إميان و كليرمونت بالإضافة لقربه من العاصمة باريس
– الجيش الخامس خرج من جنوب شرق إيطاليا بقيادة بوهيمند الأول أمير تارانتو و عاونه فى الجيش إبن شقيقته تانكريد النورمانى و هو واحد من أشهر القادة فى الحملة الصليبية
ـــــ
حملة صليبية كانت هى الأولى ضمن تسعة حملات إستمرت قرابة مئتى عام و لكن ما ميز تلك الحملة هو الإجماع كون كل الممالك الأوروبية شاركت فيها و لو بتمثيل بسيط فلم تتخلف مملكة واحدة عن ذلك .. جيش صليبى وصلت تقديراته حسب المؤرخين إلى مليون إنسان ثلثه من الجنود و الفرسان و الباقى نساء و أطفال ..
أوربانوس الثانى لم يكن يخطط للسيطرة على القدس فقط و إنما أراد توطين الأوروبيين الكاثوليك فى الشام ..
أوربانوس الثانى أراد تغيير التركيبة السكانية فى تلك المنطقة ..
و لكن .. تلك قصة أخرى ..
ـــــ
لقراءة الموضوع على التطبيق الخاص بالكاتب على جوجل بلاى :
https://play.google.com/store/apps/details?id=com.amkamel.arabyhost
لقراءة الموضوع على التطبيق الخاص بالكاتب على آب ستور :
https://itunes.apple.com/app/id1432249734
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ