سيرة صلاح الدين الأيوبى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الجزء الرابع :
ـــــــــــــــــــــ
الدولة السلجوقية دولة عظيمة بحق .. أكبر الدول الإسلامية فى زمانها و أقواها .. ألب أرسلان .. أحد أبرز سلاطين الدولة إن لم يكن أبرزهم .. حكم ألب أرسلان الدولة السلجوقية لمدة عشر سنوات حقق خلالها إنجازات عسكرية و إدارية عظيمة .. فى عهده تم السيطرة على كثير من المناطق الخاضعة للدولة الفاطمية بالإضافة لفتحه مناطق كانت خاضعة للإمبراطورية الرومانية المسيحية و هو ما ساهم فى نشر الدين الإسلامى فى مناطق لازالت تدين به إلى يومنا الحالى فرحم الله السلطان ألب أرسلان ..
عضد الدولة ..
أبو شجاع ..
محمد بن جغرى بك داوود بن ميكائيل بن سلجوق بن دقاق ..
ـــــ
قسم ألب أرسلان أو الأسد الشجاع باللغة التركية جيوش الدولة السلجوقية إلى ثلاثة أقسام .. أولهم تحرك ناحية الشام و ثانيهم تحرك ناحية بلاد العرب لإنتزاع تبعيتهم من الدولة الفاطمية و ثالثهم تحرك ناحية بلاد الروم و كان أهم الجيوش حتى أنه وضع نفسه على رأس هذا الجيش ..
ألب أرسلان كان قائد مسلم عادل .. تقى .. ورع .. كان مهتماً بأمر الإسلام و المسلمين و همه الأكبر كان الجهاد فى سبيل الله و توحيد الأمة الإسلامية مرة أخرى تحت راية الخلافة العباسية .. و إتساقاً مع هدفه فقد قرر أن يخرج لفتح البلاد الخاضعة تحت وصاية الإمبراطورية الرومانية ففتح الله على يديه أرمينيا و جورجيا فى الوقت الذى تمكن فيه جيشاه الآخران من السيطرة على حلب و الرملة و بيت المقدس و مكة و المدينة .. تلك الإنتصارات و الفتوحات أخافت الإمبراطورية الرومانية و حاكمها الإمبراطور رومانوس ديوجينيس المعروف بإسم رومانوس الرابع و الذى خشى ألا تقف طموحات المسلمين عند هذا الحد فتزيد أطماعهم فى القسطنطية عاصمة الإمبراطورية فقرر تحريك جيشاً عظيماً لردهم .. حدث هذا فى أغسطس عام 1071 .. تحديداً فى ملاذ كرد داخل الحدود التركية حالياً ..
ـــــ
ما فعله جيش الدولة السلجوقية بقيادة ألب أرسلان فى ملاذ كرد يعتبر إعجازاً إذا ما قورنت تجهيزات الجيشان .. جيش المسلمين تكون من خمسة عشر ألف مقاتل و أعلى التقديرات التاريخية رفعت العدد إلى ثلاثون ألف أما جيش الروم فقد إختلفت الأرقام و ظهرت عليها بعض المبالغة إلا أن الأشهر قال إن عددهم قارب على المائتى ألف شملوا كل طوائف النصارى بدءاً من الإمبراطور نفسه مروراً بالبطارقة و الكهنة و الوزراء و الفرسان و المشاة بالإضافة للحفارين و الروزجار و هم المرتزقة الذين يعملون مقابل أجر يومهم .. بخلاف العدد فالتجهيزات الحربية شملت أربعمائة عربة تحمل الأسلحة و الدروع و مستلزمات الخيول .. شملت أيضاً عدداً كبيراً من المجانيق منهم منجنيق تكفل به ألف و مائتان رجل من كبر حجمه و ثقل وزنه ..
بالرغم من شجاعة ألب أرسلان إلا أنه لما علم بتجهيزات الروم رأى أن الجنوح للسلم أولى و لكنه أراد أن يجنح لها بكبرياء فقرر أن يقوم بشن عدة غارات سريعة و خاطفة يكبد فيها الروم أكبر خسائر ممكنة و كان يقصد بهذا أن يتفاوض على الصلح من موقع القوى لا الضعيف و يروى أنه بعدما حقق ما أراد أرسل لإمبراطور الروم يعرض عليه الهدنة فقال :
( إن كنت ترغب فى الهدنة أتممناها و إن كنت تزهد فيها وكَّلنا الأمر إلى الله عز و جل )
فما كان من رومانوس إلا أن رفضها بل و زاد أن قال أنه لا تراجع قبل أن تصل جيوش الروم إلى الرى و هى إحدى حواضر السلاجقة فى إيران حالياً ..
ـــــ
بمجرد أن أيقن ألب أرسلان أن الحرب هو خيار الروم بدأ فى تشجيع جنوده و تذكيرهم بالله عز و جل و بالجنة و بلقاء رسول الله صلى الله عليه و سلم و كيف أن اليوم هو يوم من أيام الله و شدد على ضرورة الصبر عند لقاء العدو و روى أنه قال لمن حوله :
( أنا ألتقيهم صابراً محتسباً .. فإن سلمت فبنعمة الله تعالى .. و إن كانت الشهادة فإبنى ملكشاه ولى عهدى )
أما عن إختيار ميعاد المعركة فقد خصه إمامه أبو نصر محمد بن عبد الملك البخارى بنصيحة حيث قال :
( إنك تقاتل عن دين وعد الله بنصره و إظهاره على سائر الأديان و أرجو أن يكون الله قد كتب باسمك هذه الفتح فالقهم يوم الجمعة فى الساعة التى يكون الخطباء على المنابر فإنهم يدعون للمجاهدين )
فلما أتى وقت المعركة صلى ألب أرسلان بالجند ثم دعا ربه و بكى فبكى الجند لبكاؤه فلما انتهى لبس ملابس بيضاء و توجه لمن حوله قائلاً :
( إن قتلت فهذا كفنى )
ـــــ
عبر تاريخ المسلمين هناك معارك يصعب وصفها إذ أن موازين القوى تجعل مهمة المؤرخين فى وصف ما حدث شبه مستحيلة إذ كيف يقبل العقل أن يتغلب أقل من عشرون ألف مقاتل على جيش به التجهيزات السابق ذكرها .. الحقيقة أن معارك مثل تلك و إن سطر أبطال المسلمين فيها ملاحم و بطولات عديدة إلا أن الواقع يقول أنها معية الله التى أحاطت بتلك الفئة المؤمنة .. حجر واحد من أى منجنيق كان كفيلاً بسحق مئات الجنود المسلمين و لكن ذلك لم يحدث .. عدد جند الروم كان كافياً لأن يلتفوا على المسلمين و يحيطوهم من كل جانب لكن ذلك لم يحدث .. إذاً فالأمر كله مرده و مآله إلى الله و أن الله هو الصانع و أن ألب أرسلان و جنوده صدقوا الله فصدقهم و أيدهم بنصر من عنده ..
ما حدث فى المعركة كان معجزة بكل المقاييس .. حاول أن تتخيل معى ما حدث .. ما أن إنقشع غبار المعركة حتى اتضحت الصورة .. جنود الروم يفرون فى كل مكان على غير هدى .. الكثير منهم أخذ فرسه و هرب و فى طريق هروبه يصطدم بزملاؤه فيوقعهم أرضاً .. الكثير منهم يتخفف من دروعه ليسهل عليه الهرب .. الكثير منهم يحتمى بالخيام هرباً من القتل .. الكثير منهم ألقى سلاحه و قرر أن يستسلم .. آلاف القتلى .. و الأهم .. آلاف الأسرى ..
لماذا الأسرى أهم ؟
لأن من بينهم رومانوس ديوجينيس إمبراطور الروم نفسه ..
ـــــ
بعد أن إنتهت المعركة و دفن الموتى من الجانبين طلب ألب أرسلان أن يأتوه برومانوس ففعلوا فضربه ثلاث ضربات ثم قال له :
( ألم أرسل إليك فى الهدنة فأبيت ؟ )
فقال رومانوس بكبرياء الملوك :
( دعنى من التوبيخ و افعل ما تريد )
فقال أرسلان :
( ما كان عزمك أن تفعل بى لو أسرتنى ؟ )
قال :
( أفعل القبيح )
قال :
( فما تظن أننى أفعل بك ؟ )
قال :
( إما أن تقتلنى .. و إما أن تشهرنى فى بلاد الإسلام .. و الأخرى بعيدة و هى العفو و قبول الأمر و اصطناعى نائباً عنك )
فقال ألب أرسلان :
( ما عزمتُ على غير هذه )
و المقصود أن رومانوس ظن أن القتل أقرب الإختيارات و إن لم يكن القتل فأقرب ما يكون هو أن يبعثه ألب أرسلان إلى بلاد المسلمين فيراه عامة الناس مأسوراً و فى هذا إهانة بالغة له و إن لم يكن هذا أو ذاك فأبعد الإحتمالات أن يتم العفو عنه و يفتدى نفسه و أن يكون نائباً لألب أرسلان على الأراضى التى فتحها الله على يديه و هو ما حدث بالفعل ..
ـــــ
شروط العفو كانت كثيرة و جميعها فى صالح المسلمين :
1 – فداء رومانوس لنفسه بمبلغ مليون و نصف المليون دينار
2 – إطلاق سراح كافة الأسرى المسلمين فى أراضى الروم حتى أولائك الذين أسروا فى أى معركة سابقة
3 – معاهدة بين المسلمين و الروم مدتها خمسون عاماً يلتزم خلالها الروم بدفع الجزية للمسلمين
4 – إعتراف الروم بسيادة المسلمين على كافة الأراضى التى فتحوها مع التعهد بعدم الإعتداء عليها
شروط دلت على عزة المسلمين فى ذلك الوقت و أظهرت التطور الكبير الذى طرأ على الدولة الإسلامية منذ أن تولى السلاجقة قيادتها و كيف أنهم حولوها من مجموعة من الدويلات المتناحرة إلى قوة لا يستهان بها تنتصر على واحدة من أكبر الإمبراطوريات فى العالم و تفرض عليها الجزية لخمسون عاماً قادمة ..
بعد أن إنتهت معركة ملاذ كرد و استتب الأمر للمسلمين فى بلاد الروم قرر ألب أرسلان إستكمال مسيرته الجهادية بفتح مزيداً من الأراضى فجمع جيوشه و توجه ناحية بلاد ما وراء النهر و كان هذا عام 1072 أى بعد عام واحد من إنتهاء حربه مع الروم و نجح جيشه بالفعل فى إخضاع بخارى و ضمها لحدود الدولة الفتية و ظن الجميع أن ألب أرسلان سيكمل طريقه و لن يستطيع أحد أن يصده و لكن قدر الله كان أسرع ..
ألب أرسلان سيقتل ..
ـــــ
على الرغم من أن ألب أرسلان كان حاكماً عادلاً و تقياً إلا أن البعض من رعيته كان ناقماً عليه و الأسباب واضحة بلا شك .. الشيعة كرهوه بسبب ما فعله لدولتهم .. الروم أيضاً إستعظموا ما فعله بهم .. و أيضاً بعض أهل المدن التى فتحها حمل الضغينة للسلاجقة بسبب أن بعض رجال الجيش كانوا ينهبون المدن التى فتحوها .. بخارى كانت إحدى تلك المدن و كان فيها أحد الناقمين عليه .. رجلاً يدعى يوسف الخوارزمى .. يوسف هذا هو من سيقتل ألب أرسلان ..
تذكر الروايات أن السلطان ألب أرسلان كان غاضباً على يوسف الخوارزمى لسبب ما و كان يعنفه و يعاتبه عليه و حين وصل غضبه لقمته أمر رجاله أن يضربوا له أربعة أوتاد فيصلب بينها حتى يموت فلما سمع يوسف ما قاله السلطان و علم أنه ميت لا محالة قال له :
( يا مخنث .. أمثلى يقتل هكذا ؟ )
فغضب السلطان من كلمته و أمر رجاله أن يتركوه و كان قد إبتعد عنه قليلاً فأمسك قوسه و رماه بسهم لكنه أخطأه فتقدم يوسف مسرعاً ناحيته فنهض ألب أرسلان لملاقاته لكنه تعثر و وقع أرضاً فاستغل يوسف الفرصة و ضربه بخنجر كان يخفيه فى خاصرته ثم حاول الهرب و لكن رجال الجيش أدركوه و قتلوه .. بعدها وضعوا السلطان على سريره محاولين إسعافه و لكن الضربة كانت نافذة و رأى فيها أرسلان موته فقال لمن حوله و هو على فراش الموت :
( ما كنت قط فى وجه قصدته و لا عدو أردته إلا توكلت على الله فى أمرى و طلبت منه نصرى .. و أما فى هذه النوبة فإنى أشرفت من تل عال فرأيت عسكرى فى أجمل حال فقلت فى نفسى .. أين من له قدر مصارعتى و قدرة معارضتى و إنى أصل بهذا العسكر إلى أقصى الصين فخرجت على منيتى من الكمين )
ثم أكمل :
( قلت فى نفسى .. أنا ملك الدنيا ما يقدر أحد على فعجّزنى الله تعالى بأضعف خلقه .. و أنا استغفر الله و أستقيله من ذلك الخاطر )
ـــــ
توفى السلطان المجاهد ألب أرسلان عام 1072 و ترك خلفه دولة قوية مستقرة بعد أن أخمد فتنها الداخلية و هزم أعدائها خارجياً .. دولة حدودها معروفة و قابلة للتوسع .. مات شهيداً مجاهداً فى أحد الثغور راغباً فى رفعة دينه و عزته و إعلاء كلمة التوحيد و نشرها فى أراضى لم تصلها من قبل .. مات و لم يبلغ من عمره الثالثة و الأربعون تاركاً خلفه سلطاناً أخر من السلاجقة العظام هو إبنه ملك شاه ..
و لكن .. تلك قصة أخرى ..
ـــــ
لقراءة الموضوع على التطبيق الخاص بالكاتب على جوجل بلاى :
https://play.google.com/store/apps/details?id=com.amkamel.arabyhost
لقراءة الموضوع على التطبيق الخاص بالكاتب على آب ستور :
https://itunes.apple.com/app/id1432249734
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ