عد وفاة الوزير الجرجرائى خلى الجو للسيدة رصد أم الخليفة المستنصر عشان تعمل اللى هى عاوزاه وعاشت الدولة 6 سنين من عدم الإستقرار تولى الوزارة فيهم 3 وزراء منهم وزير تولى المنصب مرتين .. يعنى تعاقب على المنصب 4 وزراء .. لحد ما تولى الوزارة وزير كفء هو ( الحسن بن على اليازورى )
الراجل ده كان قوى فعلاً .. حكمة وتدبير وسياسة .. وصل للمنصب والدولة العبيدية بتخسر هيمنتها على شمال إفريقية بسبب رغبة الأمازيج فى الإستقلال ببلادهم فشجع القبائل العربية وعلى رأسهم بنى هلال وبنى سُليم على الإنتقال لهناك عشان يوازن التركيبة السكانية ويفضل ولاءها للعبيديين .. يعنى السيرة الهلالية اللى الشعراء بتحكيها لحد النهاردة حصلت بسبب الوزير ده .. ومش بس كده .. ده كان السبب فى إستمالة ( أبو الحارث البساسيرى ) القائد العباسى وإغراؤه بالمال والنفوذ لو انقلب على الخليفة العباسى وبالفعل بينقلب عليه وبيقدر يسيطر على بغداد وبيتم الدعاء للخليفة العبيدى على منابرها لمدة سنة كاملة لحد ما بيتمكن ( طغرل بك ) مؤسس الدولة السلجوقية من هزيمته وإعادة الخليفة العباسى لمكانه تانى ..
الراجل ده يا جماعة وصل من النفوذ إنه يكون أول وزير عبيدى يجمع بين الوزارة والقضاء .. أول وزير يقترن إسمه بإسم الخليفة العبيدى على السكة بعد ما تلقب ب ” الناصر للدين ” فكانت الفلوس بتتسك ويتكتب عليها :
( ضربت فى دولة آل الهدى .. من آل طه وآل ياسين )
( مستنصر بالله جل إسمه .. وعبده الناصر للدين )
الوزير ده زى ما نجح سياسياً نجح كمان إقتصادياً ووصل خراج الدولة فى عهده ل 2 مليون دينار وده نجاح هايل فى دولة بتعانى بشكل متكرر من قحط وغلاء متفاوت القوة بسبب مواسم الجفاف .. ورغم نجاح الوزير ده إقتصادياً إلا إنه كان سبب فى القرار اللى هيكون شرارة حدوث الشدة المستنصرية بعد كده .. زى ما قلنا الجزء اللى فات إن حكام الدولة العبيدية كانوا متعودين يشتروا غلة ب 100 ألف دينار سنوياً يملوا بيها المخازن السلطانية لمواجهة أى نقص فى المحاصيل الزراعية فى مواسم الجفاف وفضل القرار ده معمول بيه لحد ما حصل موقف خلاه يقترح على الخليفة إلغاؤه ..
ـــــ
الأسواق أيام الدولة العبيدية كانت مخصصة لأصحاب كل مهنة .. يعنى الجزارين ليهم سوق وتجار الجلود ليهم سوق وتجار المعادن ليهم سوق وهكذا .. كل طائفة وليها سوقها الخاص بيها وكل سوق كان بيبقى عليه ” عريف ” يراقبه فتضمن الدولة بوجوده إنتظام حركة البيع والشراء .. المشكلة إن العريف ده مكانش له مصدر دخل مستقل من الدولة .. يعنى كان بيكسب رزقه من التجارة فى نفس نشاط الطائفة اللى بيراقب عليها ..
حكايتنا بتبدأ إن عريف طائفة الخبازين كان فاتح محله وبيبع العيش بتاعه وكان فاتح جنبه محل تانى بيملكه راجل بسيط من عوام الناس .. فى يوم من الأيام الراجل الغلبان ده مباعش كويس والعيش طبعاً لو متباعش هينشف وهيترمى وكان السعر وقتها الأربع أرطال بدرهم وثُمن فمن غلبه يا عينى نادى إن الأربع أرطال بدرهم عشان يشجع الناس تشترى منه ..
بالفعل خلال فترة قصيرة باع كل العيش بتاعه لكن ده كان على حساب العيش بتاع عريف السوق .. طبعاً العريف إتضايق من اللى حصل وقرر إنه يعاقب الراجل ده فراح إتبلى عليه عند رجالة الحسبة .. والحسبة دى كانت الجهة اللى بتراقب السوق وتضمن عدم الإحتكار وفى إيديها تعاقب أى مخالف لتعليمات الدولة .. المهم رجالة الحسبة غرموا الخباز 10 دراهم لإن كلام العريف عندهم كان مصدق .. يعمل إيه الخباز ؟ .. يروح جرى على مجلس القضاء اللى بيرأسه الوزير اليازورى وبيشتكيله من اللى حصل فجمع الوزير كل الأطراف وإنكشف الملعوب فعاقب العريف وصرف مكافئة للخباز الغلبان 30 رباعياً ذهبياً .. والرباعى الذهبى ده كان عملة مستخدمة فى زمنهم أغلب الظن إنها تساوى ربع دينار .. يعنى مكافئة الراجل 7.5 دينار ذهبى وده كان مبلغ كبير جداً بمقاييس الزمن ده ..
يعمل إيه الراجل ده بعدها .. يروح عالسوق ومن فرحته بقى ينادى على العيش بتاعه الخمسة أرطال بدرهم فباقى الخبازين خافوا يعارضوه بعد اللى حصل للعريف واضطروا إنهم هما كمان يخفضوا السعر زيه .. يسكت صاحبنا .. لأ .. الستة أرطال بدرهم .. فاضطر باقى الخبازين يعملوا زيه .. السبعة أرطال بدرهم .. وهكذا لحد ما وصل سعر ال 10 أرطال خبز بدرهم .. طب صاحبنا كان بيعمل كده ليه ؟ .. هو كده فعلياً كان بيخسر لكن المكافئة الكبيرة اللى كسبها كانت هتعوضه مهما كانت خسايره .. فى الحقيقة هو كان بيعمل كده عشان يغيظ العريف اللى إشتكاه وبدون ما يقصد تسبب فى خفض أسعار العيش فى القاهرة ..
طبعاً الأخبار طارت للوزير اللى على الفور راح إجتمع بالمستنصر بالله وبشره برخص أسعار الخبز ومن وراه أسعار الغلال ونصحه إنه ميصرفش ال 100 ألف دينار لشراء الغلال لإن ده فيه مضرة للشعب لإنك لو إشتريتها وسعرها نزل مش هتعرف تبيعها للناس بسعر عادل وبالتالى هتبوظ فى المخازن وإن الأفضل إننا نوجه المخازن السلطانية لتخزين سلع تانية سعرها مستقر زى الخشب والحديد والصابون والرصاص وبالفعل المستنصر سمع كلامه وسمحله بكده والأمور مشيت كويسة كام سنة لحد ما نقص منسوب النيل سنة 647 هجرياً والمخازن السلطانية فاضية .. طبعاً دى كانت كارثة وتسببت فى غلاء شديد فى الأسعار لكن الوزير أخد إجراءات سريعة ساهمت فى رجوع الأسعار لمستوياتها العادية بعد 20 شهر ..
ـــــ
ماشى .. الأزمة كبيرة وكل حاجة ولكن الوزير اليازورى حلها وطالما الوزير موجود يبقى هو هيتصرف .. طب إيه اللى هيحصل لو الوزير ده مات ؟
فى أوائل سنة 450 هجرياً بيتقبض على الوزير اليازورى بعد إتهامه بالخيانة وإنه بيراسل السلاجقة سراً عشان يساعدهم على دخول القاهرة وإزاحة العبيديين من الحكم وبيتم قطع رأسه نتيجة لخيانته .. فى الواقع الراجل كان مظلوم ودى كانت مؤامرة من خصومه عشان يتخلصوا منه والرسائل دى كانت مزورة وختموها بختمه بعد ما سرقوه منه .. مات الراجل اللى حافظ على الدولة سنين طويلة وأعاد هيبتها بعد ما مرت بفترة من عدم الإستقرار ..
النتيجة الطبيعية إن الدولة ترجع تانى لحالة التردى وعدم الإستقرار اللى كانت عايشاها .. مرحلة شنيعة من التناحر على السلطة وكسب المناصب وضمان الولاء شارك فيها الجميع .. الجميع تقريباً بإستثناء المستنصر بالله اللى يا عينى كان مفعول بيه ومش عارف يراضى مين ولا مين .. أمه السيدة رصد اللى رغبتها فى الحفاظ على مكاسبها لا تنتهى ولا الأمراء الأتراك اللى كانت شوكتهم قوية ولا أمراء البربر اللى لازالوا على خلافهم مع الأتراك ولا الجنود السودان اللى يعتبروا ذراع أم الخليفة الباطشة وسلاحها فى مواجهة الأتراك والبربر ..
ـــــ
الوضع السياسى كان مأساوى .. مفيش وزير كان بيستقر فى منصبه أبداً بسبب المؤامرات اللى بتحاك ضده من كل الأطراف اللى تم ذكرهم .. المقريزى وصف حالة الدولة وقتها فقال :
( فلما قتل الوزير أبو محمد لم تر الدولة صلاحاً ولا استقام لها أمر وتناقضت عليها أمورها .. ولم يستقر لها وزير تحمد طريقته ولا يرضى تدبيره وكثرت السعاية فيها .. فما هو إلا أن يستخدم الوزير حتى يجعلوه سوقهم ويوقعوا به الظن حتى ينصرف ولم تطل مدته )
على مدار السبع سنين من بعد وفاة اليازورى لحد ما بدأت الشدة المستنصرية ( 450 هـ – 457 هـ ) أتخن وزير قعد على كرسيه 5 شهور .. فى وزراء إتعزلوا ورجعوا لمناصبهم مرتين وثلاثة .. فى وزراء إتعينوا فى الوزارة وإتعزلوا ثم إتعينوا فى القضاء وبعدها إتعزلوا من القضاء وإتعينوا فى الوزارة فى متوالية عجيبة مبتحصلش فى أى مكان فى الدنيا .. والمصيبة إن المشكلة موقفتش على السبع سنين اللى قبل المجاعة .. لأ طبعاً .. ده بقى عرف فى الدولة وكل ما الوقت يعدى كل ما المشكلة كانت بتستفحل أكتر .. فى وزراء قعدوا فى مناصبهم 10 أيام زى ” أبو القاسم الرعبانى ” .. فى وزير قعد يوم واحد واتقتل هو ” محمد بن أبى حامد التنيسى ” .. فى وزراء كانوا يهود أو مسيحيين أسلموا وتم تعيينهم وقيل إنهم رجعوا لعقيدتهم الأولى بعدها والله أعلم .. فى وزير تانى إسمه ” الحسن بن أبى كُدينة ” جمع بين الوزارة والقضاء سبع مرات .. سبع مرات يتعزل ويرجعوه ويجمعوله الوظيفتين .. غرائب وطرائف والله .. وكل ده بسبب الصراع على السلطة .. طبيعى جداً إن دولة زى دى لازم تواجه مصيبة ..
ـــــ
المشكلة موقفتش عند تردى الوضع الإدارى بس .. مصر فى السنين دى عانت من وباء عظيم كان بيحصد أرواح الناس بسهولة متناهية .. ابن تغرى بردى وصف الوباء ده فى كتابه النجوم الزاهرة فى أحداث سنة 455 هجرياً وقال :
( وفيها كان الطاعون العظيم بمصر وقراها فمات بمصر فى عشرة أشهر كل يوم ألف إنسان )
وده طبعاً مكانش أول وباء يمر على مصر لكنه كان الوباء اللى تسبب فى إنحسار الرقعة الزراعية وبوار كثير من الأراضى بسبب وفاة عدد كبير من المزارعين ..
طيب تقف المشكلة عند الضعف الإدارى والكوارث الطبيعية .. لأ طبعاً .. لو الأمور وقفت لحد كده كان وارد يبقى غلاء زى أى غلاء مر بمصر على مدار تاريخها إنما إحنا بنتكلم عن مجاعة .. مجاعة وصل فيها الناس إنها تأكل الجيفة من البشر والحيوانات .. وصل الحال بالناس إنها تاكل بعضها حسب روايات كتير هنذكرها فى الأجزاء الجاية .. إيه هو العامل اللى زود حجم المآساة دى ؟
العسكر طبعاً .. إختلاف كلمة العسكر ووقوف الجند قصاد بعض كان السبب فى حاجات كتير أوى هنقولها الجزء الجاى إن شاء الله ..
ـــــ