الحاجب المنصور .. ما له وما عليه ( الجزء الأخير )

الحاجب المنصور .. ماله وما عليه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الجزء الأخير :
ـــــــــــــــــــــ

سنة 389 هجرياً خرج المنصور فى غزوة سريعة لمملكة نافارا وأول ما رجع منها على قرطبة وصلته الأخبار إن الملوك والأمراء النصارى فى ( نافارا – Navarra ) و ( قشتالة – Castilla ) و ( ليون – León ) إتفقوا على الإتحاد مع بعض للقضاء على المنصور وتعاهدوا على عدم الفرار قدامه وحطوا على قيادتهم ( سانشو جارسيا – Sancho García ) ملك قشتالة اللى إستولى على حكم المملكة بعد ما قتل أبوه ..

فى شعبان سنة 390 هجرياً جهز المنصور جيشه فى مدينة سالم وبعدها دخل بيه فى أراضى قشتالة لحد ما وصل لمدينة إسمها ( جربيرة – Espinosa de Cervera  ) وتحديداً عند قمة جبلية معروفة بإسم ( صخرة جربيرة – Peña Cervera ) لإن جيوش التحالف كانوا منتظرينه هناك ومتحصنين فى المناطق الصخرية المحيطة بالجبال .. جيش التحالف كان كبير فعلاً ومتجهز كويس وبسبب وعورة الأرض وعنصر المفاجأة قدر جيش التحالف إنه يضغط على جيش الأندلس لدرجة إن أجنحة جيش المنصور تراجعت وانكسرت دفاعاتها ولولا صمود القلب اللى كان فيه أولاد المنصور ( عبد الملك ) و ( عبد الرحمن ) لكانت الهزيمة حصلت للمنصور لأول مرة فى حياته ..

ـــــ

إنكسار الجناحين وتراجعهم خلى المنصور ومعاه كام قائد من قادة الجيش يطلعوا على أحد التلال المطلة على أرض المعركة ومن هناك زاوية رؤيته بقت أفضل وإبتدى يدى أوامر بتحريك بعض الكتائب والفرق اللى مكانتش فى موقع إلتحام مباشر لسد الخلل اللى حصل فى صفوف جيشه لحد ما قدر بالفعل إنه يرجع الأمور لنصابها ..

نجاح المنصور فى المعركة دى بيرجع لسببين أساسيين .. الأول هو قدرته العسكرية المتميزة اللى ساعدته فى قراءة أرض المعركة بشكل كويس .. والثانى هو ثبات قلب الجيش بسبب كفاءة جنوده اللى كانوا كلهم من البربر الأمازيج ودول كانوا الأمهر فى عصرهم .. ثبات القلب هو اللى إدى للمنصور الوقت الكافى لتعديل الأوضاع بعد الهجوم المفاجىء اللى حصل فى الأول ..

ـــــ

بعد ساعتين من القتال قدر جيش المسلمين من تعديل أوضاعه وبدأت الكفة تميل لصالحهم بالتدريج وقدر جنود البربر إنهم يقتلوا ( فيلاسكو جوميز – Velasco Gómez ) وده واحد من أشهر كونتات مملكة ليون وواحد من أبناء ( جوميز دياث – Gomez Diaz ) مؤسس عشيرة ( بنى جوميز ) اللى سيطرت على مناطق واسعة من الشمال الإسبانى .. البربر بعد ما قتلوا ( فيلاسكو ) قطعوا راسه وجابوها للمنصور فارتفعت معنويات المسلمين وإتأثرت معنويات الجنود النصارى وبدأت العوامل النفسية تلعب دورها خاصة نظراً للهزائم المتكررة اللى حصلتلهم قبل كده قدام جيوش المنصور ..

بعد فترة قصيرة بدأوا فى التراجع تدريجياً لحد ما إتحققت الهزيمة الفعلية وهربت فلولهم تجاه مدينة ( بُرغش – Burgos ) عاصمة مملكة قشتالة .. المنصور مسابهومش وفضل يطاردهم لحد ما اقتحم المدينة وحصد منها غنائم لا تحصى وملقاش مقاومة تذكر لإن الجنود المهزومين هربوا من المدينة قبل ما يوصلها .. المنصور مسكتش لحد هنا وقرر إن العقاب يكون جماعى فإتحرك شرقاً تجاه سرقسطة ومنها دخل مملكة نافارا ودمر قراها ومدنها لحد ما وصل لعاصمتها مدينة ( بنبلونة – Pamplona ) وجمع غنائمها وسبيها ورجع على قرطبة تانى بعد 109 يوم من بداية الغزو ..

رغم الإنتصار فى معركة جربيرة إلا إن المنصور كتب رسالة شديدة اللهجة للقادة بتوعه بيلومهم فيه على تخاذلهم وتراجعهم فى المعركة وإن لولا ثبات جنود البربر لكانت الهزيمة تحققت .. لاحظوا يا جماعة إن المنصور كان بيلومهم رغم إنتصاره وده معناه إنه كان قائد بيهتم بالتفاصيل وعدم التهاون مع الخطأ حتى وإن كانت النتيجة النهائية هى الإنتصار .. الراجل ده كان قيادى إدارى وعسكرى فذ فعلاً مش مجرد حاكم عادى ..

ـــــ

سنة 392 هجرياً خرج المنصور لغزو مملكة قشتالة فخرج من ( مدينة سالم – Medinaceli ) وإتحرك ناحية مدينة ( ناجرة – Nájera ) ومنها إتوجه لمدينة ( بُرغش ) .. ومن أول هنا فى إختلاف فى الروايات .. الرواية الإسلامية بتقول إن المنصور إشتد عليه المرض لدرجة إنه مكانش بيقدر يركب الفرس بتاعه والخدم شالوه على سرير لحد ما رجع على مدينة سالم .. من شدة سوء حالته روى عنه إنه قال :

( إن زمامى يشتمل على عشرين ألف مرتزق ما فيهم أسوأ حالاً منى .. ودِدتُ أن أُقالّ زلّتى وأنا كبعض هؤلاء السودان الحاملين لسريرى )

الرواية الإسبانية بتقول إن فى معركة حصلت مع جيش الأندلس فى بلدة صغيرة إسمها ( قلعة النسور – Calatañazor ) على أطراف مدينة ( سوريا – Soria ) وفيها أصيب المنصور إصابة شديدة هى اللى أجبرته على الإنسحاب من المعركة والرجوع لمدينة سالم إلا إن الرواية دى فيها أخطاء تاريخية كتير لإن أسماء ملوك النصارى فيها كانت بتعود لملوك توفوا من سنين .. خطأ كمان هو قرب قلعة النسور من مدينة سوريا والمعروف إن مدينة سوريا كانت أقوى مدن الثغور مع سرقسطة وعمر جيوش الشمال ما تجرأت على التوغل للمنطقة دى .. أخيراً هى تسجيل المؤرخين المسلمين لهزائم كتير لجيوش الأندلس ولا ضرر فى ده فإيه اللى هيخليهم كلهم يجمعوا على عدم حدوث أى معركة فى المكان ده ..

طب ليه أنا بكتب ده كله ؟

لإن دى كانت أخر غزوة للمنصور إبن أبى عامر ..

ـــــ

المنصور قضى عمره كله ما بين صراعات السياسية ومعارك حربية .. كان محب للجهاد جداً وكانت أعز أمانيه إنه يموت وهو بيجاهد فى سبيل الله والأهم من ده كله إنه كان بيجهز نفسه دايماً للحظة دى ..

يعنى مثلاً كان بيشيل كفنه معاه فى كل غزواته وكفنه ده صنعه من ماله الشخصى مش من مال الدولة .. تحديداً من إيراد ضيعة ورثها عن أبوه .. حاجة تانية .. كان عنده مصحف كتبه بإيده تقرباً لله وكان دايماً بياخده معاه فى غزواته يقرأ فيه ويتبرك بيه .. حاجة تالتة .. إنتوا عارفين إن المعارك دايماً بتسبب غبار بسبب حركة الخيول وكده .. المنصور بقى كان بيطلب من خدمه إنهم يجمعوا الغبار اللى على وشه بعد كل غزوة أو معركة فكانوا بيجمعوه من على وشه بالمناديل لحد ما جمعوله صرة مليانة غبار فكان دايماً بياخدها معاه فى الغزوات ووصاهم بدفنها معاه بعد وفاته ..

ـــــ

رجع المنصور على ( مدينة سالم ) وهو مريض فى أخر مراحل مرضه .. وبالمناسبة محدش يعرف مرضه كان إيه لإن الأطباء إختلفوا فى تشخيصه .. المهم حس المنصور إن دى أيامه الأخيرة فأمر بالإجتماع مع إبنه عبد الملك ووصاه وصيته الأخيرة .. وصية طويلة عرفه فيها كل ما يخص الدولة ووضحله فيها أسلوب التعامل مع الخليفة هشام ومع رجالته وأتباعه ومع فلول بنى أمية المعارضين ليه .. وصية قال فى أول فقراتها :

( يا بنى .. لست تجد أنصح لك ولا أشفق عليك منى فلا تعديَّن وصيتى .. فقد جردت لك رأيى ورويتى على حين إجتماع من ذهنى فاجعلها مثالاً بين عينيك .. وقد وطئت لك مهاد الدولة وعدلت لك طبقات أوليائها .. وغايرت لك بين دخل المملكة وخرجها .. واستكثرت لك من أطعمتها وعددها .. وخلفت لك جباية تزيد على ما ينوبك لجيشك ونفقتك فلا تطلق يدك فى الإنفاق .. ولا تقيض لظلمة العمال فيختل أمرك سريعاً فكل سرف راجع إلى إختلال لا محالة .. فاقصد فى أمرك جهدك .. واستثبت فيما يرفع أهل السعاية إليك .. والرعية قد إستقصيت لك تقويمها وأعظم مناها أن تأمن البادرة وتسكن إلى لين الجنبة )

وكل ما كان يتكلم كان عبد الملك يبكى فكان المنصور يقوله :

( لا تبكى .. فهذا هو أول العجز والفشل )

بعدها نادى على مساعديه وقالهم :

( تنبهوا لأمركم واحفظوا نعمة الله عليكم فى طاعة عبد الملك أخيكم ومولاكم .. ولا تغرنكم بوارق بنى أمية ومواعيد من يطلب منهم شتاتكم وقدروا ما فى قلوبهم وقلوب شيعتهم بقرطبة من الحقد عليكم .. فليس يرأسُنكم بعدى أشفق عليكم من ولدى .. ومِلاكُ أمرِكم أن تنسوا الأحقاد وأن تكون جماعتكم كرجل واحد فإنه لا يُفَلُ فيكم )

إبن حيان القرطبى كتب عن أواخر أيام المنصور فقال :

( قال لى أبى خلف بن حسين : ووجد المنصور بعض الراحة وأمر أن تدخل عليه جماعة فدخلت فى جملتهم ودنوت منه وهو كالخيال لا يُبين كلاماً وأكثر عمله بالإشارة كالمسلم المُودع وخرجنا فكان آخر العهد به )

ـــــ

مات محمد بن أبى عامر فى مدينة سالم يوم 27 رمضان سنة 392 هجرياً عن عمر 65 سنة .. مات بعد ما إستغل ذكائه فى الوصول لحكم الأندلس واستمر فى مكانه لأكتر من 22 سنة .. مات بعد ما قضى على كل مظاهر التمرد الداخلى وكل الأخطار الخارجية وأقر أمن مشافش أهل الأندلس زيه فى تاريخهم .. ساب دولة مهابة قوية جداً عسكرياً وإقتصادياً ووصل بجيوشه لأبعد وأحصن نقطة فى مناطق أعداؤه .. ساب جيش قوى تخطى تعداده ال 150 ألف فارس وجندى لدرجة إنه تم تعطيل التطوع للجهاد وإن الدولة إكتفت بما لديها من جنود .. مات بعد ما سيطر على ممالك الشمال وخلاها مجرد ولايات تابعة لدولته ..

المؤرخ الفتح بن محمد بن خاقان بيقول عن المنصور :

( وتمرس المنصور ببلاد الشرك أعظم تمرس ومحا من طواغيتها كل تعجرف وتغطرس .. وغادرهم صرعى البقاع وتركهم أذل من وتدٍ بقاع .. ووالى على بلادهم الوقائع وسدد إلى أكبادهم سهام الفجائع .. وأغصَّ بالحمام أرواحهم ونغص بتلك الآلام بكورهم ورواحهم )

مات المنصور وإتدفن فى قصره بمدينة سالم وإتكتب على قبره الأبيات دى :

آثاره تنبيك عن أخباره             ..        حتى كأنك بالعيان تراه
تالله لا يأتى الزمان بمثله          ..        أبداً ولا يحمى الثغور سواه

رحم الله المنصور ..

محمد بن عبد الله بن أبى عامر ..

ـــــ

السلسلة دى غطت الأحداث الرئيسية فى حياة المنصور زى بداياته وتوليه المناصب وقضاؤه على خصومه السياسيين ومعاركه الحربية .. طبعاً فى أجزاء مغطيتهاش السلسلة زى إنجازاته الإدارية والعمرانية وزى صفاته الشخصية والمواقف اللى حصلت فى حياته واللى بتبرز جانب من شخصيته كتير ميعرفهوش .. الحقيقة أنا قصدت أسيب جزء لم يروى من حياة المنصور يمكن ييجى اليوم وتتحول السلسلة لكتاب فيبقى فى جديد أختص بيه قراء الكتاب ..

أتمنى من الله إنى أكون وفقت فى عرض حياة المنصور بشكل بسيط وسلس يناسب الجميع وشاكر لكل اللى صبروا على القراءة رغم طول الأجزاء ..

تحياتى لحضراتكم وكل سنة وإنتم طيبين ..

ـــــ

لقراءة الموضوع على التطبيق الخاص بالكاتب على جوجل بلاى‎ :

https://play.google.com/store/apps/details?id=com.amkamel.arabyhost

لقراءة الموضوع على التطبيق الخاص بالكاتب على آب ستور‎ :

https://itunes.apple.com/app/id1432249734