سنغافورة .. دولة من لا شيء
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الجزء الأول :
__________
نظرة تاريخية :
ــــــــــــــــــــــ
* منذ القرن الرابع عشر دخلت جزر المالايو فى صراعات مع الممالك المحيطة بها مثل مملكة سيريفاجايا أو مملكة سيام – تايلاند حالياً – و هو ما تسبب فى وقوعها طويلاً فى قبضة الإستعمار و تحت وصاية الغزاة من مختلف البلاد و إستمراراً لسلسلة الإستعمار قررت بريطانيا عام 1819 عبر ذراعها الإقتصادى شركة الهند الشرقية إنشاء مستوطنتهم فى سنغافورة و بالطبع سيتبع هذا مزيداً من السيطرة على الأرض مع إستنفاذ كل ما تطوله أياديها من موارد طبيعية و الأهم إمتلاك محطة إقتصادية تخدم طموحات الإمبراطورية فى منطقة جنوب شرق آسيا ..
بدءاً من ذلك التاريخ سنبدأ التعرف على سنغافورة كما نراها اليوم ..
ـــــ
* فى البداية كانت سنغافورة إمتداداً طبيعياً لماليزيا و كانت تعامل كأنها جزء منها خاصة قبل مسألة ترسيم الحدود و كان لإنشاء بريطانيا مستعمرتها هناك أكبر الأثر فى إنتعاش التجارة و بالتالى توفرت فرص عمل لسكان الجزيرة و من هنا بدأت الأزمة فى الوضوح تدريجياً فالسكان الأصليين من عرق المالاى كانوا كسالى نسبياً و كانوا يرفضون العمل بمهن معينة يظنونها غير ملائمة لهم مثل العمل ككتبة أو كحراس أمن أو حتى العمل فى بعض الأنشطة الزراعية و من هنا بدأت تلك الوظائف تلعب دوراً فى إستقدام المزيد من العمالة الصينية و الهندية للقيام بها ..
تلك العمالة كانت موجودة بالفعل إلا أن إنتعاش التجارة ساهم فى زيادتها بإضطراد ..
من هنا بدأت المشكلة الحقيقية ..
ـــــ
* العمالة المستوردة من الصين و الهند خططت لتحقيق أكبر إستفادة ممكنة من وضعهم الراهن و على مدار مئة عام و أكثر تطورت إمكانياتهم المادية و الإدارية حتى توغلوا بشكل كبير فى مفاصل الدولة التجارية و الصناعية و صارت أغلب المتاجر و المصانع مملوكة لتجار و مستثمرين صينيين و هنود و هو ما جعل الثروة تتركز فى أياديهم فى حين كان أغلب عرق المالاى يعانون من الفقر الشديد و جدير بالذكر أن العقد الإجتماعى فى جزر المالايو وقتها كان عبارة عن إتفاقية غير معلنة مفادها نحن المالايو سنحتفظ بالوظائف السيادية مثل الجيش و الشرطة و الحكومة و أنتم أيها الصينيون لكم التجارة و الإستثمار مقابل ضرائب تدفعونها على أرباحكم و كان هذا كافياً حينها إلا أنه بمرور الوقت زادت الفجوة إتساعاً و توافد المزيد من العمالة إلى جزر المالايو حتى اختلت التركيبة السكانية و وصلت نسبة الصينيين و الهنود إلى 40 % تقريباً من تعداد السكان .. عندها فقط بدأ المالاى فى الشعور بالخطر ..
ـــــ
* شعور المالاى بالخطر أضر بالنسيج المجتمعى تماماً و صارت الإضطرابات العرقية تتكرر بإستمرار مخلفة ورائها الكثير من الضحايا و المزيد من الإنشقاق و بغض النظر عن التفاصيل السياسية التى حدثت وقتها فقد إنفصلت سنغافورة عن التاج البريطانى عام 1963 و بعد مفاوضات انضمت إلى إتحاد المالايو الذى ضم ماليزيا و سنغافورة و صباح و ساراواك و كان هذا مؤشراً لتحسن الأوضاع إلا أنه و بسبب التراكمات السابقة تم تزكية الإختلافات العرقية من ناحية و من ناحية أخرى تم التركيز على فقر سنغافورة .. سنغافورة كانت فقيرة فعلاً .. كانت القمامة و القاذورات منتشرة فى كل حى من أحيائها .. كان الشعب الماليزى يعتقد أن سنغافورة ما هى إلا ورم أبتليت به دولتهم و يجب عليهم إزالته حتى طردوها من الإتحاد ظناً منهم أنهم سيتخلصون من عبء كبير يجثم فوق أنفاسهم ..
إنفصلت سنغافورة و استقلت بنفسها بادئة بهذا قصة نهوض إقتصادى اعتبرها بعض الخبراء واحدة من أصعب قصص النهوض عالمياً ..
ـــــ
مرحلة لى كوان يو :
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
* ( هنالك كتب تعلمك كيف تشيد منزلاً .. أو تصلح محركاً .. أو تؤلف كتاباً .. و لكننى لم أر كتباً تتحدث حول كيفية بناء دولة إنطلاقاً من مجموعة من المهاجرين اليائسين القادمين من الصين و الهند البريطانية و جزر الهند الشرقية )
#لى_كوان_يو مؤسس سنغافورة فى كتابه #قصة_سنغافورة
ـــــ
* سنغافورة دولة تعتبر معجزة حية بلا شك و يكمن إعجاز نهضتها الإقتصادية كونها تمت فى ظل ظروف غاية فى الصعوبة فمن الرفض الدولى من جيرانها إلى شعب متعدد الأجناس و الأعراق تتسم علاقته بالإضطراب الشديد إلى إنعدام الموارد الطبيعة تقريباً إلى صغر المساحة إلى فقر و جهل و مرض متفشيين بين شعبها إلى غياب المؤسسات المحلية القادرة على الحفاظ على حدود الدولة أو حفظ النظام الداخلى خاصة بعد إنسحاب المستعمر البريطانى من قواعده العسكرية بالبلاد .. نحن حرفياً نتحدث عن دولة لم تجد الحد الأدنى من الأسس المطلوبة لبنائها .. فلا صحة و لا تعليم و لا أمن و لا نظام و لا موارد طبيعية و لا حتى مساحة .. لك أن تتخيل أن مساحة سنغافورة عند التأسيس كانت 575.28 كيلو متر و هى مساحة تقل عن مساحة محافظة دمياط رابع أصغر محافظات مصر .. لاحقاً اضطرت سنغافورة أن تستورد رمال لتزيد مساحتها بمقدار الخمس لتصل إلى 719.1 كيلو متر .. لم يكن عندهم أى موارد طبيعية .. حتى الرمال لم تكن موجودة ..
دولة بتلك المقومات لا يمكن أن يتوقع أى بشر أن لها مستقبل أفضل ..
لم يتوقع هذا المستقبل الأفضل إلا رجل واحد فقط هو ( لى كوان يو )
ـــــ
* لا يمكن حصر التجربة فى شخص ( لى كوان يو ) بالطبع فالرجل كان له معاونين يتميزون بالكفاءة بلا شك و قبل كل هذا يستحق الشعب السنغافورى نفسه التحية على إيمانه بأفكار الرجل و تنفيذها على أكمل وجه و بالطبع فإن إيمانهم بتلك الأفكار لم يترسخ فى نفوسهم من فراغ .. الرجل استطاع أن يغير واقع الشعب السنغافورى البائس إلى واقع أفضل بمرور الوقت و لم يبخل عليهم بأى تطوير فى كافة المجالات التى تمس حياتهم و هو ما جعلهم يوقنون أن نتاج عملهم يعود عليهم بالنفع فعلاً و أن وضعهم الإجتماعى يتحسن كلما زادوا من إنتاجيتهم فصدقوا فى وعود رئيس وزرائهم و ساعدوه فى برنامجه حتى وصلت سنغافورة إلى وضعها الحالى و يمكن القول أن معادلة النمو فى سنغافورة هى كالتالى :
( حاكم فذ + معاونين أكفاء + شعب مؤمن بنجاح تجربته + محاربة جريئة لمظاهر الفساد = نجاح باهر و نهضة إقتصادية و إجتماعية هائلة )
ـــــ
* منذ بداية حكم ( لى كوان يو ) عام 1959 أدرك أن المشكلة الأساسية التى تواجه مجتمعاً كجزر المالايو هى الصراعات العرقية التى كانت تؤخر الدولة كثيراً فالمالايو و الهنود و الصينيون و الأوروآسيوين كل منهم يسير فى إتجاه و لا تتوحد جهودهم أبداً فى ظل مجتمع يعانى بشدة من عدم العدالة فأيقن أنه بالعدل و العدل فقط يمكن لتلك الجزر أن تنهض و لكن للأسف لم تسير الأمور كما يتمنى و وجد جزيرته الحبيبة مطرودة من إتحاد المالايو بعد وصفها بأنها عبء على أكتاف الدولة .. فى تلك اللحظة بكى ( لى كوان يو ) فى لقاء تلفزيونى لأن واقع الدولة كان بالفعل مهترىء بشدة و كان يحتاج إلى الإتحاد لتغيير ذلك الواقع المظلم .. كان ذلك اللقاء التلفزيونى نقطة فاصلة فى حياة الدولة حيث وجد ( لى كوان يو ) و وزرائه أنفسهم وحيدين فى مواجهة كل تلك السلبيات فما كان منهم إلا أن قبلوا التحدى و أقروا كثيراً من السياسات التى ساهمت فى نهضة سنغافورة ..
ـــــ
التطوير فى مجال مكافحة الفساد و العدالة الإجتماعية :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
– أعاد هيكلة الجيش و الشرطة من حيث التنوع العرقى حيث لم يزكى عرق على الأخر
– أعاد توزيع إنفاق الدولة و تم توزيعه بدقة متناهية على القطاعات المتردية
– جعل اللغة الرسمية للدولة الإنجليزية مع ترك الحرية لكل عرق فى تعلم لغته الأم كلغة ثانية
– أنشأ مكتب مكافحة الفساد و جعله تابع له شخصياً و أطلق يده فى محاربة الفاسدين
– تم سن قوانين تنص على إقتصار فترة التقاضى على سنة واحدة فقط ما ساهم فى تراجع نسبة جرائم الفساد المالى
– توسعت دائرة المسائلة لتشمل أى فرد فى الدولة مهما كان منصبه مع تغليظ العقوبات على من ثبتت ضده التهم الموجهة إليه
– تم إنشاء مجلس الأجور الوطنى عام 1972 و الذى وضع خطة لربط الأجور بالإنتاج
– أبرز نقاط العدالة الإجتماعية كان #صندوق_التوفير_المركزى و هو صندوق إدخارى كان قد أنشأه الإستعمار البريطانى ينص على إقتطاع 5 % من أجر العامل و 5 % مثلهم من صاحب العمل ليحصل عليها العامل كمكافأة حين يخرج من الخدمة عند سن الخامسة و الخمسين فربط ( لى كوان يو ) الصندوق بمشكلة الإسكان حيث كان أغلب الشعب لا يملك سكناً فاعتبر حصص العاملين فى الصندوق دفعات مقدمة للحصول على مساكن و بنى لهم مساكن تليق بهم مع دفع باقى قيمة المسكن على عشرون عاماً بالتقسيط و نتيجة لذلك الربط فإن 85 % من سكان سنغافورة الآن يملكون مساكنهم
ـــــ
* لم ينتهى الحديث عن سنغافورة .. فهناك الكثير الذى يجب علينا التعلم منه .. النهضة ستطول كافة مجالات الحياة فى هذه الدولة الصغيرة .. الإقتصاد و التعليم و الصحة و البنية التحتية .. و فى النهاية .. هل يمكننا الإستفادة من هذا النموذج الإعجازى ؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* المصادر فى الجزء الثانى .
ــــــ
فى الصورة :
ـــــــــــــــــــ
رئيس وزراء سنغافورة ( لى كوان يو ) يبكى فى المؤتمر الصحفى الخاص بإعلان إنفصال سنغافورة عن إتحاد جزر المالايو فى 9 أغسطس 1965
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ