رومانيا .. قصة ثورة لم تكتمل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الجزء الثانى :
ـــــــــــــــــــــ
* فى أواخر السبعينات و بعد رفض #تشاوشيسكو للغزو السوفييتى لأفغانستان ساءت علاقته بالإتحاد السوفييتى تماماً فخسر المعسكر الأقرب لطبيعته الشيوعية .. ظن المعسكر الغربى أن شخصاً مثل هذا يمكن الإستفادة منه .. تم إستقباله فى لندن فى إحتفالية ضخمة جداً بناءاً على طلبه الشخصى .. زاره الرئيس نيكسون فاستقبله بنفس القدر من الضخامة .. أراد إستخدام تلك الإستقبالات فى التسويق لنفسه داخلياً.. كان كل شيىء فى زمنه يتميز بالإسراف و البهرجة الشديدة ..
* قامت بريطانيا بإستضافته على أمل شراءه لصفقة طائرات .. نعم رومانيا كانت فقيرة لكن لم يتخيلوا للحظة أنها لا تملك ثمن صفقة طائرات .. فاجئهم تشاوشيسكو بعرضه سداد ثمن الصفقة بنظام المقايضة .. عرض عليهم دفع الثمن مقابل شحنات من البرتقال أو اللفت .. وصل به الأمر أن عرض شبكة من الأنابيب المعدنية المستهلكة مقابلاً للطائرات .. تعامل الرجل بعنجهية و إستعلاء على المستوى الخارجى كما يتعامل داخلياً بالضبط .. أدرك الغرب أن هذا الرجل لا يصلح أن يكون حليفاً و هذا وتر علاقته بالمعسكر الغربى كثيراً .. أصبحت رومانيا بلا حلفاء و بلا مساعدات حتى بدأت فوائد الديون فى التراكم و حان موعد سدادها ..
ـــــــــــــــ
* كان بالكاد الإنتاج يكفى إحتياجات الشعب الرومانى و بالتالى لم يكن هناك أى فوائض تستطيع أن تتكسب منها .. لكن الزعيم كان قد إستدان بالفعل و لن يسمح لأحد بأن يحمله مسئولية إغراق إقتصاد البلاد فى الديون .. علينا السداد .. أيها الشعب الرومانى العظيم .. لن نسمح للغرب بأن يستعبدنا .. سنبدأ من الآن خطة التقشف لسداد ديوننا .. 10 مليارات دولارت هو حجم الدين .. هذا أمر يمكن إنجازه إذا تكاتفنا معاً ..
* لسوء حظ تشاوشيسكو أن الأزمات الإقتصادية قد لحقت بالإتحاد السوفييتى و أرهقته بشده .. قد تتسائلون و ما دخل رومانيا بتلك الأزمات .. كانت هناك مقولة مشهورة منذ الخمسينات مفادها :
( عندما تُصاب روسيا بالأنفلونزا تُصاب أوروبا الشرقية بمرض الصدر )
إقتصاد أوروبا الشرقية كان مرتبط بروسيا بشكل أو بأخر حتى لو الأنظمة السياسية بينهما خلاف .. رومانيا لم تكن إستثناءاً .. الدائرة تضيق على تشاوشيسكو و حزبه الشيوعى و يجب إيجاد حل ..
ـــــــــــــــ
* تحت وطأة الضغوط الإقتصادية و خسارة الحلفاء الخارجيين لم يجد تشاوشيسكو مفراً من إصدار أحد أغرب القرارات الإقتصادية و هو تصدير أغلب إنتاج رومانيا الزراعى و هو عامل القوة الذى كانت تملكه رومانيا وقتها .. تحول الإكتفاء الذاتى الرومانى إلى ماضى الآن .. فجأة لم يجد الرومان ما يأكلونه .. إستعاضت محلات بيع الأطعمة عن الأطعمة بصورها خشية سرقتها .. إرتفعت أسعار السلع بشكل غير مسبوق و صار الجوع ظاهراً فى كل مكان حتى إن الخبز تم صرفه بنظام الحصص .. نصف رغيف للفرد يومياً .. خطة التقشف إشتملت على كل شيىء فى الدولة .. كان يتم قطع الكهرباء أغلب ساعات اليوم خاصة فى الليل .. لم يعد هناك غاز للتدفئة .. تجمدت أنابيب الغاز و إنفجرت فى المنازل .. تجمدت أنابيب المياه .. لم يعد هناك صابون أو ورق للحمام .. حتى التلفزيون الرسمى تم دمج كل قنواته فى قناة واحدة تُبَث لمدة ساعتين فقط فى اليوم .. إقترب الرومانيين كثيراً من المجاعة و قدرت أعداد الوفيات بسبب الجوع و البرد ب 15000 نسمة سنوياً ..
* فى الشق الصناعى تأثر الإنتاج كثيراً بسبب إهمال المصانع و إستهلاك الآلات التى احتاجت إلى قطع غيار لم تكن متوفرة لأن الإستيراد كان ممنوعاً .. و على الفور جهز النظام آلته الإعلامية لحث الناس على الصبر .. أيها الرومانيين الأشراف .. العالم الغربى يريد أن يخنقنا لكنهم لن يستطيعوا بسبب قدرة الشعب على التحمل و حبهم لزعيمهم المخلص .. #دانوب_الفكر و #الزعيم_الذى_يعرف_كل_شيىء سيجد مخرجاً لتلك الأزمة بالتأكيد .. على مدار سبع سنوات خشى الناس من الشكوى رغم أن كل شيىء واضحاً .. قرارات ال #كوندوكاتور هى من أوصلتهم لهذا لكن الخوف منعهم من الكلام .. #السيكوريتات عيونها مفتوحة فى كل حى من أحياء الدولة .. لو نطقوا لكان مصيرهم السجن بلا رحمة ..
ـــــــــــــــ
* كان من الممكن أن يصبر الشعب لو شعروا أن خطة التقشف تطبق على الجميع لكن تلك الأحلام تلاشت تماماً بعد أن رأى الرومان #قصر_الشعب .. 2 مليار إسترلينى لبناء قصر عملاق مثل هذا فى وقت لا يجد الشعب رغيف الخبز .. تشاوشيسكو نفسه كان يملك 39 قصراً غيره .. لابد و أن هذا الرجل قد جُنَّ تماماً .. بدأت أول مظاهر الإحتجاج عام 1987 فى مصنع جرارات #النجم_الأحمر فى #براشوف .. جهاز الشرطة قام باللازم و قتل و جرح المضربين عن العمل .. لو أن تشاوشيسكو يملك بعض الوعى لكان شعر أن هناك شيئاً مختلفاً تلك المرة لم يحدث منذ عقود .. لم يجرؤ أحداً على فتح فمه من قبل .. هؤلاء القوم أضربوا عن العمل و هو تصرف إحتجاجى من الطراز الأول .. كان أدرك أن الحلقة تضيق عليه أكثر فأكثر ..
* كل ثورة و لها بوادر .. الإضرابات إجتاحت بولندا .. عشرات المظاهرات فى المجر ثم دارت العجلة فى ألمانيا الشرقية و تشيكسلوفاكيا و بلغاريا .. رومانيا لم تكن بعيدة عنهم بلا شك .. بدأ كل شيىء عندما قام قس رومانى من أصول مجريه إسمه #لازلو_توكس بإنتقاد معاملة النظام مع المجريين المجنسين .. تشاوشيسكو كان ملحداً و لم يكن يكره أكثر من القساوسة و الكنائس و الأجراس و أى مظهر دينى عموماً فأصدر قراراً بنقل القس من كنيسته إلى كنيسة أخرى ألا أن #لازلو تحدى قرار تشاوشيسكو و استمر فى مكانه .. ذاع أمر الخلاف بينهما حتى إن مجلس الكنائس العالمى أرسل رسالة موقعه من أمينه العام #إيميل_كاسترو إلى الرئيس تشاوشيسكو يلتمس فيها ترك #القس_توكس فى كنيسته إلا أن ذيوع الأمر بين الناس أجبر تشاوشيسكو على الرفض .. لو شعر الناس أن القس انتصر عليه لاهتزت صورته أمام الشعب و لشعروا بأنه قد بدأ يضعف .. يوماً أخر مثل يوم #مصنع_النجم_الأحمر على وشك الحدوث ..
ـــــــــــــــ
* ذهبت قوات الشرطة فى صباح يوم 16 ديسمبر 1989 إلى #تيموشوارا غرب رومانيا لتنفيذ قرار الرئيس بنقل القس إلا أن الناس اعترضتهم و دافعوا عنه .. قتل فى ذلك اليوم 39 شخصاً كانوا وقوداً لإستمرار الإحتجاج و مواجهة الشرطة لمدة 4 أيام متتالية .. هدد السكان بتفجير مصنع كيماويات موجود فى البلدة و هو ما أجبر القوات على عدم الهجوم .. وصلت الأخبار إلى العاصمة #بوخارست فبدأ الشباب المعارض بتنظيم مظاهرات للتنديد بما يحدث فى تيموشوارا .. حتى ذلك اليوم كان تشاوشيسكو فى عالماً أخر .. سُئل صراحة :
– هل تظن أن تلك الإحتجاجات ستتطور للأسوأ ؟
قال :
– لا يوجد شيىء مما تقولونه .. ثم أكمل مستهزئاً .. لن يحدث تغيير فى رومانيا إلا إذا تحولت أشجار البلوط إلى تين
* إستخدم تشاوشيسكو الأسلوب القديم فى مواجهة الإحتجاجات حيث أمر فى صباح يوم 21 مايو بجمع آلافاً من العمال فى ميدان الجمهورية لتأييده .. بعد ثمان دقائق بالضبط من بداية خطابه سكت تشاوشيسكو عن الكلام و امتقع وجهه و تغير لونه حين بدأ يسمع الصيحات التى تأتى من جانب الحشود .. تيموشوارا .. يسقط القتلة .. عندها إنقطع البث و عاد بعد دقائق بعد أن وجهت الكاميرات إلى السماء .. الواقع كان مغايراً تماماً .. أكمل تشاوشيسكو خطابه على عجل ثم هرب رفقة زوجته و استقلا طائرة هليوكوبتر كانت بإنتظارهم فوق سطح المبنى فى الوقت التى اقتحمت فيه الحشود الغاضبة القصر مستوليين على آلاف من الرسائل السرية و المقتنيات الخاصة للطاغية .. حاول قائد الطائرة الهبوط أكثر من مرة إلا أنه لم يجد مكاناً آمناً فهبط بالطائرة على جانب الطريق متعللاً بنفاذ الوقود و هرب هو و حراسة تشاوشيسكو الخاصة .. لم تمض دقائق حتى قبض عليه مجموعة من المزارعين برفقة بعض جنود الجيش .. بعد 4 أيام سيخضع تشاوشيسكو و زوجته لمحاكمة صورية لمدة ساعتين و سيتم الحكم عليهما بالإعدام رمياً بالرصاص .. تم إعدامهما يوم 25 ديسمبر عام 1989 و دفنا بمقبرة متواضعة فى #مدافن_جينتشيا فى العاصمة بوخارست .. أخر ما تمتم به تشاوشيسكو كان :
( عاشت جمهورية رومانيا الاشتراكية حرة مستقلة .. سوف ينتقم التاريخ لى )
ـــــــــــــــ
* #إيون_إليسكو أحد معاونى تشاوشيسكو إلا أنه أخطأ فى أمر ما فحكم عليه الطاغية بالحجز الإجبارى فى منزله .. تلك كانت كل مقوماته لينال منصب زعيم #جبهة_الخلاص_الوطنى المسئولة عن تسيير أمور الدولة لحين إنتخاب رئيس بشكل ديموقراطى .. كان كل رجال السياسة موصومون بالإنبطاح لتشاوشيسكو و كان #إليسكو هو أقلهم إنتماءاً له .. تشاوشيسكو كان قد جرف البيئة السياسية فى الدولة تماماً و لم يكن هناك معارضة واضحة المعالم تستطيع تحمل المسئولية .. قبول الشارع لإليسكو كان غصباً عنهم لعدم توافر بديل .. ذلك كان أكبر خطأ إرتكبه الشباب الثورى ..
* فى البداية تظاهر إليسكو بالوقوف مع الثورة إلا أنه مع الوقت صار يقف ضدها بتعطيل قرارات العدالة الإجتماعية .. الشرطة السرية التى كانت تتبع تشاوشيسكو خاضوا معارك شرسة ضد قوات الجيش .. سمح لهم إليسكو و بعض قيادات الجيش بمهاجمة منازل المدنين حتى يساوموهم على أمنهم .. شعر الناس بالخطر فارتموا فى أحضان إليسكو حتى مرر كل القوانين التى من شأنها إجهاض الثورة .. شعر الشباب الثورى بالمخطط كونه الأكثر ثقافة و إطلاعاً فحاولوا الخروج بمظاهرات إلا أن إليسكو دعا الشرفاء من الشعب للوقوف ضدهم فاستجاب له الكثير من الناس بعدما شعروا بالخوف على مصالحهم .. خرج إليسكو و اتهم الشباب بالعمالة و الخيانة و التبعية للخارج .. تم حبس النشطاء السياسيين بداعى الحفاظ على الدولة و انتهت بحبسهم قصة الثورة الرومانية التى أجهضت فى أسرع وقت ممكن بخسائر بشرية قدرت ب 1104 قتيل و 3252 مصاب ..
* الحزب الأكبر فى البرلمان كان الحزب الشيوعى .. لم يكن هناك من ينافسه على مدار 45 عاماً .. جمع إليسكو عناصر الحزب مرة أخرى تحت مظلة جبهة الخلاص و ترشح للرئاسة و فاز بالفعل بثلاث فترات رئاسية غير متتابعة .. بفعل هذا الإرتداد على الثورة صار المناخ الداخلى طارداً للشباب فخرج 3 ملايين شاب رومانى للعمل فى الخارج هو ما يعادل ثُلث القوى العاملة بالبلاد .. إزداد معدل الفقر حتى صار 50 % من السكان يعيشون تحت خط الفقر ..
* بالطبع لم يفت على رجال السيكيوريتات أن يستفيدوا من الوضع الجديد فعندما كانت الدولة شيوعية كانوا يتمتعون بحصانة مناصبهم أما فى زمن الإنفتاح الرأسمالى فقد تحولوا إلى رجال أعمال و أصحاب شركات كانوا قد إستولوا عليها بعد تولى إيون إليسكو المسئولية .. واقع إقتصادى مر تعيشه رومانيا بسبب عدم تحقيق أهداف الثورة و استمرار تكدس السلطة و الثروة فى نفس الأيادى التى كانت تعبث بالإقتصاد قديماً .. فلازالت هى أحد أفقر دول أوروبا و لازالت دعاوى الصبر مستمرة و لازال الشباب الرومانى يبحث عن مستقبل أفضل و أكثر ديموقراطية و تعددية ..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ