الفلبين .. إستفاقة تأخرت كثيراً
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الجزء الثالث :
ـــــــــــــــــــــ
* ما سبق كان سرداً تاريخياً للفترة الأثرى فى تاريخ الفلببن الحديث .. فماذا عن الإقتصاد ؟ ما هى قصته ؟
* قديماً و بعد إنتشار الإسلام كانت مانيلا أو #أمان_الله كما كانت تسمى مركزاً تجارياً نشطاً بفضل التبادل التجارى بينها و بين التجار العرب فأصبحت مركزاً يخدم منطقة جنوب شرق آسيا بالكامل ثم تحولت تدريجياً مع مرور السنين إلى الزراعة بفضل آراضيها الخصبة و جوها المناسب للزراعة حتى وصلت فى عهد ماركوس – على الرغم من ديكتاتوريته الشديدة – إلى أعلى مستوياتها الزراعية و تحقيقها الإكتفاء الذاتى من المحاصيل الزراعية بل و تصديرها لبعض الفوائض .. ماركوس دعم الفلاحين بشدة و وفر لهم الأسمدة و البذور بوفرة .. لا لشيىء إلا ليأمن ثورتهم عليه فالأمن الغذائى كان حائط الصد الذى منع ثورة الشعب عليه طوال فترة حكمه ..
* الفلبين و بعد الإستقلال لم تتركها أمريكا تعمل على نهضتها بنفسها و كانت الشركات الأمريكية متغلغلة تماماً فى الإقتصاد الفلبينى و ضماناً لحقوق تلك الشركات تم تثبيت سعر صرف البيزو الفلبينى أمام الدولار و مع ذلك كان الإقتصاد يسير تدريجياً للأمام .. دولة زراعية لا تستورد كثيراً و لديها إكتفاء ذاتى نسبى و معدل تضخمها أقل من 2 % و بها نهضة صناعية وليدة تمثلت فى نمو قطاع الصناعات التحويلية بمتوسط 11 % سنوياً .. إحتياطى نقدى جيد .. ديون خارجية قليلة .. تلك سمات دولة تسير فى الإتجاه الصحيح .. الولايات المتحدة قد تخسر دولة كانت حتى وقت قريب مجرد تابع يأتمر بأمرها .. لابد من حل و سربع قدر الإمكان ..
* عوامل مثل تلك أعطت السلطة التشريعية الفلبينية قوة و عزم فى إتخاذ قرارات فى صالح الإقتصاد الفلبينى فتم سن تشريعات جديدة تنص على إعادة إستثمار أرباح الشركات الأجنبية مرة أخرى داخل الإقتصاد الفلبينى فكانت أرباح شركات التصدير الدولارية يتم إيداعها فى البنك المركزى الفلبينى و يتم تبديلها لهم بالبيزو بسبب ذلك زادت قيمة البيزو و مع عام 1954 ستصر الفلبين على تعديل سعر صرف البيزو أمام الدولار بحكم قوته و ستوافق الولايات المتحدة .. الآن دق ناقوس الخطر بقوة و حان وقت الترتيب لتغيير المعادلة مرة أخرى .. يجب أن تعود الفلبين إلى حظيرة التابعين للولايات المتحدة .. حان الوقت لتدخل أحد أقوى أذرع الولايات المتحدة الأمريكية .. حان الوقت لتدخل صندوق النقد الدولى ..
* تاريخياً يتم إلقاء اللوم على صندوق النقد الدولى و تحميله مسئولية تفتيت قوة الفلبين و هى حقيقة بالفعل و لكن لقبول طلبات ذلك الكيان يجب أن يكون على رأس السلطة أشخاص يقبلون التعاون معه و بهذا فمسئولية إضعاف الفلبين تقع على عاتق الشعب الفلبينى قبل أى أحد لسكوته لسنوات عن التخريب المتعمد لمقدراتهم الإقتصادية .. كيف حدث هذا ؟
* بدأ كل شيىء عام 1959 حين نجح حزب المحافظين فى إنتخابات الكونجرس الفلبينى فبعد ثلاث سنوات فقط سيتم إقرار تشريع جديد ينص على إلغاء الرقابة على تحركات رؤوس الأموال .. قرار إستقبلته الإدارة الأمريكية و صندوق النقد الدولى بمنتهى الترحاب و كانت مكافآة الفلبين الفورية هى قرض بقيمة 300 مليون دولار ..
* قرار مثل هذا أدى لخروج رؤوس أموال الشركات الأجنبية الدولارية بشكل كبير و سريع .. و بنفس السرعة تحول فائض ميزان المدفوعات إلى عجز و أصبح رصيد الدولة من الدولار بالسالب بعد أن كان موجباً .. تم تمويل هذا العجز بقروضاً خارجية متتالية و متتابعة و خلال سبع سنوات ارتفع الدين الخارجى سبع مرات من 275 مليون دولار إلى 1.88 مليار دولار .. تراجع نمو الصناعات التحويلية و تكدست الأرباح فى جيوب الشركات الأجنبية و التى كانت تحول بإنتظام إلى الخارج ما أدى إلى ندرة فى الدولار ما رفع سعره أمام البيزو .. تم تخفيض قيمة البيزو أكثر من مرة بسبب ذلك و مع ذلك التخفيض قلت أرباح باقى قطاعات الدولة الإنتاجية و بالتبعية قلت الأجور .. عانى الشعب من ويلات الفقر تدريجياً .. الفلبين وضعت القدم الأولى فى رحلة الإنهيار الإقتصادى ..
* عام 1972 إنقلب #ماركوس على الديموقراطية و أعلن الأحكام العرفية .. أين دور الولايات المتحدة فى التصدى لرجل تسبب فى قتل و قمع شعبه بعد إنقلابه على كل الثوابت الديموقراطية التى تتغنى بها أمريكا دائماً .. لم تنطق الولايات المتحدة بحرف و تركت الرجل ينفذ ما كان مطلوباً منه حرفياً .. ألغى الرجل المؤسسات التشريعية و صار هو المشرع الوحيد لقوانين البلاد .. حان الوقت لتشريع مهم جداً يفيد الإدارة الأمريكية و يقضى على ما تبقى من الأمل فى النهوض مجدداً .. إلغاء سقف الديون و الذى كان قد تم تحديده عام 1970 ..
* بداية التعامل بين الفلبين و البنك الدولى و صندوق النقد كان عام 1958 و لكنها كانت قروضاً صغيرة تساهم فى النمو بالفعل و فى نفس الوقت كان سدادها فى المستطاع و ساهم فى إستمرار تلك السياسة التشريعات الفلبينية القوية التى كان أخرها عام 1970 حين تم إقرار سقف الإقتراض بمليار دولار و بمعدل 250 مليون دولار بحد أقصى سنوياً .. جاء ماركوس و ألغى كل هذا و فتح باب الإقتراض على مصراعيه .. البنك الدولى ضاعف قروضه للفلببن 5 مرات و نصف خلال عام واحد .. ماركوس وضع حجر الأساس و لن يقف أمامه شيىء الآن .. الفلبين على طريق التبعية و الإنهيار ..
* استمرت الفلبين فى قبول القروض بشكل متتالى حتى جاء عام 1979 حينها قام مجلس الإحتياطى الفيدرالى الأمريكى بزيادة نسبة الفائدة على الدولار ما ضاعف ديون دول العالم الثالث و منهم الفلبين 3 مرات خلال سنوات قليلة ما جعل ماركوس يتجرأ و يصرح تصريح غريب مفاده أنه يجب على الدول المدينة التوحد و التفاوض على سداد ثُلث مديونياتهم فقط و التى كانت وصلت إلى 900 مليار دولار .. تصريح غريب توجب بعدها إعادة النظر فى مدى ولاء هذا الرجل للولايات المتحدة و سياساتها ..
* خلال عام 1981 حدثت أزمة إقتصادية كبيرة بسبب جرائم فساد تورط فيها رأسماليون مهمين مع بعض رجال الدولة و مع تزايد أزمة الديون الخارجية تفاقمت الأزمة دولياً و امتنعت البنوك الأجنببة عن إقراض الفلببن و صار ماركوس فى أزمة و لم يجد أمامه سوى البنك الدولى الذى أقرضه 600 مليون دولار أخرى و لكنها كانت الأخيرة لأن ماركوس لم يطبق سياسات صندوق النقد و البنك الدولى بشكل كامل و كانت له بصمات إشتراكية رغم ديكتاتوريته الشديدة و كانت الولايات المتحدة تغض الطرف عن تلك البصمات طالما أن الناتج النهائى يصب فى مصلحتها رقمياً إلا أن تصريح مثل الذى صرح به جعل مسئولى صندوق النقد و البنك الدولى متحفزون ضده و لا تمر مناسبة إلا و يهاجموا مشاريعه التنموية مثل محطة الطاقة النووية و دعمه للمزارعين و مشاريع الرى و الصرف الصحى مدعين أنها مشاريع لن تحقق عائد و أن سداد الديون و فوائدها أولى من بعثرة ما تملكه الفلبين على ما لا يفيد .. ماركوس فقد حليفه الأقوى بسبب جهره بمدى خطورة السياسة التى كان يطبقها بنفسه على مدار سنين طويلة .. تأخر ماركوس كثيراً حتى يستفيق و كان جزاء ذلك هو مزيد من التضييق عليه و إن لم يتراجع فليس أمامهم إلا التخلص منه ..
* هاجم الصندوق الفلبين بضراوة عن طريق رجاله المخلصين من الإقتصاديين المعروفين دولياً و قال إن الحكومة حددت أهداف نمو غير منطقية و يجب عليها التراجع عنها .. خُفضت قيمة العملة 21 % .. تم إيقاف كل القروض و المساعدات .. صار الشعب مفلساً و الضغوط تزايدت على ماركوس .. صارت الأرض ممهدة الآن لجولة جديدة من المفاوضات فى الغرف المغلقة بين الصندوق و نظام ماركوس .. حزم مساعدات جديدة مقابل مزيد من الإجراءات القاسية التى تضمن للصندوق أولاً و أخيراً سداد أمواله بفوائدها و أيضاً ضمان خضوع قرار مانيلا الإقتصادى لهم .. وقعت الفلبين فى الفخ الذى نصبته بيديها ..
* الشروط كانت فى غاية القوة و التسلط و التبجح إن شئنا الدقة .. تفكيك المشاريع التنموية ذات الطابع الإشتراكى .. بيع جزء من الصناعات المملوكة للدولة للقطاع الخاص المحلى و الأجنبى .. تعويم العملة .. تحرير سعر المحاصيل الزراعية و على رأسها الأرز المحصول الزراعى الأول .. تخفيض إضافى لقيمة العملة بنسبة 63.3 % خلال عام واحد .. تقليص الواردات .. مضاربات مفتوحة على كل العملات .. شروط تعسفية تم إجبار الفلبين عليها لا لشيىء سوى إرغامها على قبول مزيداً من الديون تحت مسمى ( التمويل للمشروعات التنموية ) .. مشروعات كانت أول شروطهم هى إيقافها و تفكيكها ..
* لم تنتهى قصة الفلبين الإقتصادية بعد .. هى فقط غاصت فى مستنقع الديون و لن تخرج منه بسهولة مطلقاً .. ماركوس قام بدوره على أكمل وجه و حان وقت التخلص منه و من سيأتى بعده – أياً يكن – إن لم ينفذ ما يُطلب منه فسيكون مصيره مشابهاً له .. سيكون هناك مزيداً من الضغوط و سيكون هناك مزيداً من التنازلات فما تم إفساده عن عمد خلال سنوات طوال لن يمحوه محاولات السيدة #كورازون_أكينو على الرغم من حسن نواياها و لكن ..
تلك قصة أخرى ..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ