سلسلة نيلسون مانديلا.. الجزء الثالث

الجزء الثالث :
ــــــــــــــــــــــ

* بدءاً من عام 1955 كانت هناك مجموعة من كوادر حزب المؤتمر الوطنى تدعو لنهج جديد لمقاومة السلطة العنصرية .. أصوات بدت خافتة لا تجد لها صدى داخل جدران الحزب .. كانت السلمية هى الخيار الأول لمقاومة غطرسة ذلك النظام المجرم .. أصوات على الرغم من خفوتها إلا أن أفعال النظام نفسه ساعدت على تقبلها تدريجياً .. هذا نظام يقتل بلا حساب .. يعتقل بلا حساب .. يقصى الأخر و يكرس للتفرقة بين الناس .. هذا نظام يجب مقاومته بطرق أكثر فاعلية .. السلمية كانت من الممكن أن تكون فعالة و لكن مع نظام يستمع للأخر .. فما بالك بنظام يعتقل و يقتل الأخر .. التغيير كان سيحدث بلا أدنى شك .. لم يكن عليهم سوى الإنتظار .. شرارة التغيير ستحدث إن آجلاً أو عاجلاً ..

* #شاربفيل .. كل شيىء بدأ من شاربفيل .. مدينة صغيرة أغلب سكانها من السود تبعد 70 كيلو متر عن العاصمة جوهانسبرج كانت مسرحاً لمذبحة قام بها رجال الشرطة ضد الأفارقة السود .. كيف بدأ كل شيىء ؟ لنعود بالذاكرة إلى مارس 1960 ..

* حكومة الفصل العنصرى فى جنوب إفريقيا كانت تجبر السود على حمل تصاريح مرور مثبوت فيها محل إقامتهم و أماكن عملهم .. يجب أن يحملوا تلك التصاريح طوال الوقت و إظهارها عند طلب الشرطة و من لا يحملها أو يعترض عليها يعرض نفسه للإعتقال مباشرة و بدون محاكمة .. شعر الأفارقة أنهم يعيشون فى سجن كبير و حركتهم دائماً مقيدة .. هنا برز دور #روبيرت_سوبوكاوى المحاضر الجامعى و الذى إبتكر طريقة سلمية لمواجهة النظام .. طريقة تتميز بالسلمية و التحدى فى نفس الوقت .. دعا الأفارقة علناً إلى التخلى عن تصاريح مرورهم ثم التوجه إلى أقسام الشرطة معرضين أنفسهم للإعتقال .. حينها لن تجد الدولة أمامها إلا إلغاء ذلك النظام لأنها لن تستطيع سجن ملايين الأفارقة .. خطة عبقرية بالطبع لاقت قبول كبير فى كثير من البلدات .. من تلك البلدات كانت شاربفيل ..

* تخيل معى المشهد وقتها .. أكثر من 20 ألف إفريقى أسود يتوجهون مباشرة إلى قسم شرطة شاربفيل يطالبون رجال الشرطة بإعتقالهم .. تم تأمين القسم تماماً لكن العدد كان كبيراً بالفعل .. رجل شرطة مذعور أمسك سلاحه و أطلق رصاصة إستقرت فى جسد شخص من الحشود .. خلال ثوان كان الجميع يهرب من المكان .. البعض حاول الهجوم على مطلق النيران فكان الرد أعنف .. إطلاق نار عشوائى من رجال الشرطة .. الحصيلة كانت 69 قتيلاً ضمنهم 8 نساء و 10 أطفال بالإضافة إلى 180 جريحاً .. أغلب الضحايا ماتوا برصاص فى ظهورهم ما ضاعف نار الإنتقام فى صدور الأفارقة .. بالطبع تم إعتقال #سوبوكاوى صاحب الفكرة و تم إتهامه بالتحريض على التظاهر و عليه تم سجنه 3 سنوات قبل أن يمتد سجنه لفترة أطول ثم نفيه حتى مات بعد 18 عاماً من مذبحة شاربفيل دون أن يحصل على حريته ..

* ما قبل شاربفيل ليس كما بعدها .. مقولة تردد صداها وقتها بشكل واسع .. هنا تعالت أصوات أصحاب التوجه الثورى و على رأس هؤلاء كان مانديلا .. إنضم مانديلا للحزب عام 1942 كما تعلمون و المذبحة حدثت عام 1960 .. 18 عاماً من السلمية .. 18 عاماً لم يدعو فيها مانديلا لحمل السلاح و تحمل هو و باقى الشعب كل التجاوزات المهينة فى حقهم .. 18 عاماً بخلاف 30 عاماً أخرى هى عمر الحزب قبل إنضمام مانديلا له .. نحن نتحدث عن نصف قرن تقريباً من العنصرية .. مانديلا كان واضحاً و صريحاً .. سأكون مجنوناً لو تصورت للحظة أن سلميتى ستغير نظرة المستعمر الأبيض لى .. سأكون مجنوناً لو تصورت أن سلميتى ستغير شيئاً على الأرض .. الآن فقط يجب أن يدفع النظام ثمن ما اقترفته أياديه ..

* #أومكونتو_وى_سيزويه أو #رمح_الأمة هو الإسم الذى أختاره #مانديلا و رفيقيه #والتر_سيسولو و #جو_سلوفو للجناح العسكرى لحزب المؤتمر .. نعم هو لم يكن جناحاً عسكرياً رسمياً وقتها لكنه بعد فترة سيصبح كذلك .. حزب المؤتمر الإفريقى قبل مانديلا و رفاقه كان حزباً مستكيناً لأبعد الحدود .. نعم كان يعنى بمشاكل السود و نعم كان حزباً معارضاً و لكن كانت أفعاله لا ترضى شريحة كبيرة من الشباب المتحمس .. فرسائل الإستجداء للحكومات البريطانية للضغط على نظام الفصل العنصرى لتعديل أوضاعهم و السماح بمزيد من الحقوق الأساسية لهم لم تكن لترضى جيلاً رأى فى السلمية أنها موتاً بطيئاً .. مانديلا و رفاقه أرادوا تغيير تلك المعادلة .. أرادوا نظاماً جديداً لا تحسيناً لشروط عبوديتهم ..

* كان الهدف من الحركة هو التخريب .. الضغط على النظام بالتدريج حتى يكف يده عن السود .. كان فى مخططاتهم الهجوم على المنشآت العسكرية و محطات الطاقة و أبراج الكهرباء و تدمير خطوط النقل و خطوط الهاتف .. أرادوا شل حركة الدولة ما يجعل النظام فى وضع حرج أمام مواطنيه و يجبرهم على التفاوض بشروط أفضل .. مانديلا وقتها قال .. لو فشلت تلك التكتيكات فقد نلجأ إلى حروب العصابات و حتى العمليات الإرهابية .. مانديلا كان قد إتخذ طريقه و لن يحيد عنه مطلقاً ..

* فى فبراير 1962 شارك مانديلا فى إجتماع حركة الحرية الإفريقية ممثلاً لحزبه فى عاصمة إثيوبيا #أديس_أبابا .. بالطبع خرج متخفياً .. شارك بالمؤتمر و كانت كلمته هى أول كلمة بعد كلمة إمبراطور إثيوبيا مباشرة .. بعد أديس أبابا ذهب للقاهرة ثم تونس ثم الجزائر ثم المغرب ثم مالى و غينيا و سيراليون و ليبيريا و السنغال ثم زار لندن و عاد مرة أخرى إلى إثيوبيا لتلقى تدريبات عسكرية على حرب العصابات بعد أن كان تلقى تدريباً مماثلاً فى الجزائر .. بخلاف التدريب كان الهدف من الزيارات هو التعريف بالقضية و جلب الدعم المادى و المعنوى لها ..

* بعد شهرين من تدريباته فى إثيوبيا تم إستدعاؤه للعودة لجنوب إفريقيا .. عاد بالفعل و لكن بعد عودته بفترة قصيرة و تحديداً فى 5 أغسطس 1962 تم إعتقاله و وجهت له تهم التحريض على الإضرابات و مغادرة البلاد بدون إذن و تم الحكم عليه بخمس سنوات .. لم يقتصر الأمر على تلك العقوبة ففى 11 يوليو 1963 إقتحمت قوات الشرطة مزرعة تخص بعض الشيوعيين الذى عرف عنهم مناصرتهم للقضية و وجدت فى المزرعة وثائق تثبت تورط مانديلا و رفاقه فى تأسيس حركة رمح الأمة .. الآن تهمة الإرهاب إلتصقت به و بمن معه .. صارت عقوبة الإعدام أقرب ما يكون لمانديلا ..

* فى 9 أكتوبر بدأت وقائع محاكمة مانديلا و رفاقه .. سميت تلك المحاكمة التاريخية بإسم #محاكمة_ريفونيا نسبة إلى المزرعة التى وجدوا فيها الوثائق .. ظهرت فى تلك المحاكمة لأول مرة توجهات مانديلا الذى أعلنها للمحكمة و للإعلام و لكل أطياف الشعب .. ترافع عن نفسه و حول مرافعته إلى خطاب سياسى و فى فقرة من فقرات دفاعه قال :

( إن حزب المؤتمر الوطنى الإفريقى حاول مراراً إستخدام الوسائل السلمية لكن مذبحة شاربفيل غيرت كثيراً من شروط النضال ..

أنا أعتز بفكرة مجتمع ديموقراطى و حر يعيش فيه الجميع فى وئام و على أساس تكافؤ الفرص ..

إنه حلم رائع أتمنى أن أعيش لأراه .. و لكن يا إلهى إذا لزم الأمر فأنا على إستعداد للموت من أجله )

* هنا عرف الجميع أن مانديلا و رفاقه جادون فى ما يفعلونه و أنه يجب عليهم التخلص منهم فى أسرع وقت .. حاولوا الضغط لإصدار حكم الإعدام و لكن بسبب الضغوط الداخلية و الخارجية تم تعديل التهم و حُكم عليهم بالسجن مدى الحياة بدلاً من الإعدام فى 12 يونيو 1964 .. حينما سألوه هو و سيسولو و باقى رفاقه مثل تامبو و أحمد كاثرادا عن تلك العقوبة كانوا يقسمون أنهم سيخرجون بعد 3 سنوات .. سنقضى فى السجن 3 سنوات فقط .. بطلنا لم يكن يعلم أنه سيضطر للبقاء فى السجن 27 عاماً .. دخل مانديلا السجن كهلاً و سيخرج منه شيخاً .. ثمناً باهظاً سيدفعه مانديلا بلا شك ..

* فى سجنه على جزيرة روبن قضى مانديلا 18 عاماً فى زنزانه رطبة حملت الرقم ( 5 ) أبعادها ( 2.4 متر * 2.1 متر ) بالكاد بها حصيرة من القش لينام عليها .. غير جيدة التهوية و لا بها أى وسيلة من وسائل الراحة .. حمل مانديلا الرقم 46664 و صنف فى الدرجة الأدنى بين السجناء .. هذا يعنى معاملة قاسية و جافة .. سوءاً فى التغذية .. تفتيشاً مبالغاً فيه .. منعاً تاماً لأى وسيلة ترفيه .. زيارة واحدة و رسالة واحدة كل ستة أشهر .. أشغالاً شاقة فى محجر الجير بصورة يومية و بلا راحة .. منعاً للحديث مع السجناء الأخرين فى وقت الطعام أو وقت العمل .. بإختصار حياة كالجحيم .. عانى مانديلا بكل تأكيد .. لا يوجد لدى أى شخص فى الكون أدنى شك من أن هذا الرجل تحمل ظروفاً أقل ما توصف به بأنها مستحيلة بغية كسر إرادته و إجباره على التصالح مع السلطة و ترك قضية العنصرية للأبد .. مانديلا لم يقبل ..

* الذى رفع مانديلا لتلك المكانة هو رفضه للتفاوض مع السلطة .. نعم كان بعيداً نسبياً عن بؤرة الأحداث فى البلاد بحكم سجنه إلا أنه فى الوقت الذى كان الغضب يتزايد كل يوم فى نفوس الشعب بالخارج كان هو يمارس نضالاً من نوع أخر بداخل السجن .. بالخارج كان النضال المسلح و بالداخل كان نضال الرفض و عدم الإعتراف بذلك النظام .. لو أراد مانديلا إراحة نفسه لقبل بالتفاوض مع النظام الحاكم و لخرج خلال أيام و لكنه وقتها سيصير طعنة فى ظهر المقاومة .. كان من الممكن أن يكون سبباً مباشراً فى إنهيار معنويات المناضلين خارج أسوار السجن ..

– مانديلا سيستمر فى محبسه ..

– مانديلا سيستمر فى دراسته ..

– مانديلا سيستمر فى إصراره على الحرية الكاملة له و لكل شعب جنوب إفريقيا ..

– مانديلا كان على يقين أنه سينال ما يستحقه من تقدير يوماً ما ..

– حدث هذا عندما تج ….

– و لكن .. تلك قصة أخرى ..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ