النقود .. نشأتها و تطورها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* فى أحد بقاع الكرة الأرضية و فى فترة زمنية غير معلومة تاريخياً وقف رجلان أحدهما يمسك طبقاً به أرز و الأخر وقف ممسكاً بأحد الثيران .. سبب ذلك الإجتماع كان التباحث حول إمكانية تبادل ما يملكانه معاً .. بقليل من الجهد ستتأكد أن عملية المبادلة تلك لن تتم بسبب عدم ملائمة السلعتين لبعضهما البعض من ناحية الكم و الحجم .. هذان الرجلان سيرسمان معاً الخطوط الأولى لوسيلة التبادل الأكثر قبولاً بين الناس .. النقود ..
* مرت النقود بمراحل متعددة حتى وصلت إلى شكلها الحالى فبدأ الأمر بمرحلة الإكتفاء الذاتى حين كانت حياة الإنسان بسيطة و مطالب الناس أكثر بساطة و بالتالى لم يجدوا أى صعوبة فى تلبية إحتياجاتهم و مع زيادة أعداد البشر و زيادة حاجاتهم توصلوا إلى نظام المقايضة كوسيلة للتبادل إلا أن ذلك النظام فشل كما ذكرنا فى الفقرة الأولى .. و كما هو معلوم أن الحاجة هى أم الإختراع فقد أجبرتهم حاجتهم للنقود على اختراعها ..
* النقود مرت بمراحل تطور كثيرة فاستخدمت فى البداية النقود السلعية مثل الأفيال فى إفريقيا .. الماشية عند الإغريق .. التبغ عند الهنود الحمر ..السكاكين فى الصين .. و أخرين استخدموا الريش و غيرها من الأشياء التى اشتركت جميعها فى أمر واحد .. قبول سكان كل دولة بتلك العملة .. بدون ذلك القبول ما كانت لتنجح الفكرة .. ماذا لو وجدنا شيئاً يتمتع بالقبول العام فى العالم كله ؟
* إجابة ذلك السؤال نقلت النقود لمرحلتها التالية .. الذهب و الفضة لهم قبول عام .. لهم بريق .. تشكيلهم سهل .. لا يتعرضون للتلف أو الصدأ .. لماذا لا نتخذهم كوسيلة للتبادل التجارى فيما بيننا .. تلك كانت بداية عصر النقود المعدنية ..
* مع الوقت ظهرت عيوب النقود المعدنية .. حملها صعب .. و مخاطرها عالية لأن حاملها من الممكن أن يتعرض للسرقة .. وضع مثل هذا أوحى لبعض يهود أوروبا بفكرة ستكون نواة لما يعرف الآن بالبنوك .. اليهود فى أوروبا كانوا ممنوعون من ممارسة التجارة لذا فقد وجدوا ضالتهم فى تلك المهنة فبدأوا فى الترويج لفكرتهم الجديدة حتى صاروا أصحاباً للمصارف .. نحن نحفظ لكم أموالكم مقابل صكوكاً نصدرها لكم تستطيعون مبادلتها بذهبكم فى أى وقت تريدون .. هذا كان إتفاقاً عادلاً .. الناس تأمن على أموالها و اليهود يأخذون أجرهم نظير تلك الخدمة ..
* مع الوقت اكتشف أصحاب المصارف أن أغلب الودائع لا يتم سحبها فابتكروا نوعاً أخر من المعاملات يضاعف أرباحهم و هو الإقراض بالفوائد .. تلك الثروات المفاجئة لفتت أنظار أصحاب الأموال الذين ساوموهم على ذهبهم .. إما أن تشاركونا بجزء من أرباحكم و إما نسحب أموالنا .. تلك كانت بداية العمل بفوائد الإيداع و الإقراض التى يحددها البنوك المركزية فى العالم الآن ..
* لاحظ أصحاب المصارف أن هناك فوائض من الذهب تظل موجودة فى الخزائن دون أن يسحبها أصحابها حتى بعد أن شاركوهم فى أرباحهم فأوحى ذلك إليهم بفكرة تزيد نسبة أرباحهم حيث قاموا بإصدار صكوكاً مالية قيمتها أكبر مما يملكونه من ذهب .. فى البداية سار الأمر بسلام حتى بدأت الناس فى تبادل سلعهم مقابل تلك الصكوك دون الرجوع إلى المصارف لصرف نقودهم .. مع الوقت زادت الصكوك فى الأسواق عن حجم الإنتاج الفعلى فصار كل الناس تملك صكوكاً لكنهم لا يستطيعون الشراء لأن السلع لا تكفيهم فقرروا العودة مرة أخرى لإسترداد ذهبهم فاكتشفوا أن أصحاب المصارف قد خدعوهم و لا يوجد ذهباً يكفى الجميع .. بعد ذلك الموقف تم إصدار تشريعات تتحكم فى عدد الصكوك و ربطها بما هو متوفر فعلياً من الذهب .. تشريعات سارت عليها البنوك و الدول حتى الحرب العالمية الثانية .. تلك كانت مرحلة النقود الورقية المربوطة بالذهب ..
* خرجت #الولايات_المتحدة_الأمريكية كأكبر الرابحين من الحرب العالمية الثانية حيث كانت مصانعها و مزارعها تعمل بأقصى طاقتها لإطعام أوروبا التى أنهكتها الحرب .. أمريكا كانت تعطى أوروبا تلك السلع مقابل الحصول على الذهب .. بعد إنتهاء الحرب تحصلت أمريكا على 80 % من ذهب العالم .. ظروف إقتصادية جديدة استدعت وضع نظام مالى عالمى جديد .. #بريتون_وودز ستكون مكان عقد الإتفاقية الجديدة .. بسبب تلك الإتفاقية أمريكا ستتصدر المشهد حتى يومنا هذا ..
* أمريكا و بفضل الإتفاقية صارت تملك العملة الأكثر قبولاً فى العالم ليس بسبب روعة الدولار و إنما لأنه وقتها كان مربوطاً بالذهب .. تحت إغراءات الهيمنة فعلت نفس ما فعله أصحاب المصارف قديماً .. طبعت دولار بأكثر مما تملك فعلياً من ذهب و هو ما شكك دولاً كثيرة فى هذا الأمر فطالبوا بتغيير ما معهم من دولار بالذهب كما أقرت إتفاقية بريتون وودز لكن أمريكا كانت قد تخطت كل الحدود فى إصدار الدولار و لم تكن تملك ذهباً لتسدده لهم مما اضطر الرئيس الأمريكى #ريتشارد_نيكسون عام 1971 لإعلانه فك إرتباط الدولار بالذهب و أن أمريكا لن تدفع ذهباً مقابل دولاراتها .. وقتها أمريكا فعلياً أفلست لكنها و بفضل نفوذها العسكرى أجبرت العالم كله للإنصياع لقرارها ..
* كان طبيعياً أن تخفض الدول تعاملاتها مستقبلاً بالدولار إلا أن أمريكا كانت قد أعدت خطة بديلة تضمن تربعها على القمة لفترة طويلة حيث اتفقت مع الدول المصدرة للبترول على تسعير البترول بالدولار حصراً فى عملية سميت تاريخياً ب #البترودولار .. أمريكا بذلك الإتفاق خلقت طلباً متزايداً على الدولار مما يضمن إرتفاع قيمته حتى بدون وجود غطاء ذهبى له ..
* النظام الجديد أعطى كل دولة حرية تسعير عملتها و هو ما لاقى ترحيباً من غالبية الدول – خاصة الديكتاتورية منهم – لأن ذلك النظام سيسمح لهم بطبع المزيد من أوراق البنكنوت بدون غطاء ذهبى مما سيساهم فى السيطرة على الأوضاع الداخلية لديهم غير مدركين خطورة التضخم الذى سيهوى بقيمة عملتهم مع الوقت .. تلك كانت مرحلة النقود الورقية المصدرة بدون أى غطاء ..
* ما فات كان سرداً تاريخياً لنشأة النقود و مراحل تطورها .. فماذا عن سعر صرف العملة ؟
فى البداية يجب التأكيد على أن سعر صرف العملة لا يعبر مطلقاً عن قوة الإقتصاد و إنما يعبر بشكل أساسى عن القوة الشرائية للعملة و المستوى العام للأسعار فى الدولة و أن كل دولة ممثلة فى بنكها الوطنى لها الحق فى إختيار طريقة التعامل مع سعر صرف العملة سواء كان بتثبيت السعر أمام العملات الأجنبية أو ترك الحرية للسوق فى تحديد السعر فيما يعرف بالتعويم أو السياسة الوسطية المعروفة بإسم التعويم المدار و هى عبارة عن ترك الحرية للسوق مع تدخل الدولة فى حدود معينة محددة مسبقاً للسيطرة على السعر ..
* ما هى العوامل المؤثرة فى تحديد سعر الصرف أو بمعنى أخر على أى أساس يتم تحديد قيمة العملة ؟
العوامل كثيرة و من الممكن إجمالها فى النقاط التالية :
– حجم الناتج المحلى الإجمالى
– حجم الإحتياطى النقدى الأجنبى
– حجم الإحتياطى الذهبى
– معدل التضخم
– حجم الدعم المقدم من الدولة
– و أخيراً العنصر الأهم و هو العرض و الطلب على العملة
العرض و الطلب يعتبر أهم عامل فى تحديد سعر العملة نظراً لوجود عوامل مؤثرة فيه تعتبر بالتبعية عوامل مؤثرة فى تحديد سعر الصرف مثل :
– معدل الفائدة :
كلما ارتفعت نسبة الفائدة كلما زادت الإستثمارات الأجنبية فى الأوراق المالية و هو ما يخلق طلباً على العملة المحلية مما يساهم فى رفع قيمتها و العكس صحيح
– الميزان التجارى :
كلما كانت الصادرات أكثر من الواردات كلما تحقق فائض فى الميزان التجارى و بالتبعية ترتفع قيمة العملة المحلية لزيادة الطلب عليها و العكس صحيح
– الدين العام :
كلما ارتفع الدين العام كلما أحجم المستثمرين عن الإستثمار فى الدولة لخشيتهم من عدم قدرتها على السداد و هو ما يخلق ندرة فى العملة الأجنبية و بالتالى تنخفض قيمة العملة المحلية و العكس صحيح
* موضوع إنخفاض سعر صرف العملة لا يمثل مشكلة إلا للدول الفاشلة إقتصادياً فقط بل إنه يعتبر ميزة للدولة المصدرة فالصين و اليابان مثلاً تتدخلان عمداً لدعم عملتيهما لإبقاء السعر منخفضاً ليحققا ميزة تنافسية لمنتجاتهم أمام الولايات المتحدة و لتقريب الصورة دعونا نضرب مثالاً على واقعنا المحلى :
1 – مستورد أجنبى جاء إلى مصر قبل تعويم الجنيه برأس مال مليون دولار يريد استيراد سلعة ثمنها 70 جنيه فسيقوم بتحويل رأس ماله إلى الجنيه المصرى بسعر 7 جنيه فيصبح رأس ماله 7 مليون جنيه عندها يستطيع إستيراد 100 ألف وحدة من السلعة المتفق عليها ..
2 – نفس المستورد جاء بنفس المبلغ بعد التعويم سيقوم بتحويل رأس ماله بسعر 18 جنيه فيصبح رأس ماله 18 مليون جنيه بدلاً من 7 مليون فى الحالة الأولى .. فى المقابل سعر المنتج المحلى لم يرتفع بنفس النسبة لثبات معدل الأجور و عدم التغير الكبير فى سعر المواد الخام المحلية و لنفترض إن سعر السلعة زاد من 70 جنيه إلى 100 جنيه .. فى تلك الحالة بستطيع المستورد أن يحصل على 180 ألف وحدة بدلاً من 100 ألف وحدة فى الحالة الأولى و هو ما يعد حافزاً للمستورد للتعامل مع مصر بعد تخفيض قيمة عملتها ..
* دولاً أخرى تتدخل لتثبيت سعر عملتها مثل دول الخليج العربى التى و إن كان من مصلحتها تخفيض قيمة عملتها بحكم أنها تملك سلعة إستراتيجية مثل البترول إلا أنها تنتهج تثبيت سعر العملة و قد يكون سبب ذلك رغبتها بالحفاظ على المستوى المعيشى لرعاياها و رغبتها فى عدم تأثير التخفيض على دخلهم الإجمالى و إن كانت ظروف إنخفاض أسعار البترول ستجبرهم على التقشف الجزئى الفترة القادمة ..
* نقطة أخيرة يجب التأكيد عليها و هى أن تخفيض قيمة العملة ليس بالضرورة أن يكون محفزاً للتصدير فقد يأتى التخفيض بنتائج عكسية تماماً و هو ما يمثل الفارق الأكبر بين مصر و دولة مثل الصين .. فالصين عندما تقوم بتخفيض عملتها عامدة فهى تملك بالفعل مصانع تعمل بكامل طاقتها و عمالة ماهرة و مواد خام رخيصة و تفوق فى مجالات نكنولوجية فائقة الدقة و التعقيد مثل الإليكترونيات و بالتالى فهى لا تحتاج للإستيراد من الخارج إلا فى أضيق الحدود فيتحول تخفيض العملة إلى محفز عظيم للتصدير و تنجح الدولة فيما تخطط له ..
* فى المقابل دولة مثل مصر عملتها انهارت بعد التعويم و خسرت حوالى 160 % من قيمتها خلال شهور معدودة لم تكن مستعدة أبداً لذلك التخفيض فمصانعها مغلقة بالآلاف و نسبة البطالة بها تاريخية و عمالتها غير ماهرة و لا مؤهلة و لا تملك تكنولوجيا التصنيع التى تغنيها عن الإستيراد فمن الطبيعى جداً أن ينحسر أثر التخفيض – أو الإنخفاض – أيهما أقرب للدقة فى زيادة العائد التصديرى للدولة .. و إذا شئنا الدقة فقد تأتى النتائج بصورة عكسية .. فبإرتفاع التضخم ترتفع الأسعار .. فترتفع التكاليف المتغيرة لإنتاج السلع و الخدمات .. فيرتفع سعر المنتج النهائى .. فتقل القدرة الشرائية للشعب .. فيحدث الركود كما هو الحال حالياً ..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ