محمد على باشا .. ظالم أم مظلوم ؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* طفولة قاسية تلك التى عاشها ذلك الطفل ..
يتوفى والده و هو صغير ..
ثم يتوفى كل إخوته البالغ عددهم 16 أخ و أخت ..
ثم تتوفى أمه و هو لم يبلغ الرابعة عشر ..
فيكفله عمه فيتوفى أيضاً ..
فيكفله صديق والده و حاكم البلدة #الشوربجى_إسماعيل
* مع ظروف كتلك ما كان ليكتب لأى شخص النجاح فى أى مجال إلا لو كان من نوعية مختلفة من البشر .. نوعية تملك طموحاً و مثابرة و عزم و قدر عالى من الذكاء ..
من رحم تلك المعاناة ولد #محمد_على_باشا .. و يمكن مع ذلك الميلاد تقسيم حياته إلى مرحلتين :
( 1 ) مرحلة التمكين :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* بعد كفالة الشوربجى إسماعيل لمحمد على إختار له مجال الجندية و برع فيه و هو فى سن صغير و مع تجهيز الدولة العثمانية لفرقة لمواجهة الحملة الفرنسية كان محمد على نائب قائدها و مع وصولها إلى مصر عاد قائدها إلى بلده و هكذا صار محمد على القائد الفعلى للفرقة العثمانية ..
* إنسحب الفرنسيين قبل مواجهة الفرقة العثمانية و من بعده إنسحب البريطانيين طبقاً لمعاهدة #أميان و مع إنسحاب تلك القوتين أصبح هناك فراغ سياسى إستغله المماليك بمحاولة بسط نفوذهم مرة أخرى بعد أن تآكل على مدار الفترة السابقة للإنسحاب ..
* محمد على كان ذكى بالفعل و واسع الحيلة و يملك قدرة على قراءة الظروف المحيطة به و جاء لمصر و هدفه الأول حكمها ثم القيام ببناء إمبراطورية خاصة به و حدد الأطراف التى قد تعيقه فى طريق تحقيق حلمه و هم بالترتيب :
– المماليك
– الإنجليز
– القيادات الشعبية
و منذ أن وطئت قدماه مصر قام بالتودد للسلطان العثمانى و للقادة الشعبيين و على رأسهم #عمر_مكرم و تقديمهم على نفسه و الصلاة خلفهم و إظهار الود و الرحمة على فقراء الشعب و الجهر بوجوب العدل فى الحكم مما أكسبه ثقة القادة و من بعدهم عموم المصريين حتى حظى بالتأييد الشعبى و طالب به وجهاء و علماء مصر فى رسالة رسمية إلى السلطان العثمانى #سليم_الثالث يطالبون فيها بعزل الوالى #أحمد_خورشيد_باشا و تعيين محمد على مكانه و هو ما تم بالفعل فى 9 يوليو 1805 ..
* مع بداية حكمه إلتفت إلى المماليك كعدو أول يرفض التسليم بترك مكتسباتهم السابقة فى حكم مصر و بسبب سوء الوضع وقتها أصدر السلطان فرماناً بعزله من ولاية مصر فما كان منه إلا التظاهر بالتنفيذ و لجأ مباشرة إلى عمر مكرم و الأعيان ليتوسطوا له عند السلطان لإبقائه و هو ما تم و استمر فى خوض معاركه ضد المماليك حتى دحرهم مؤقتاً إلى الصعيد ..
* فى ظل حالة الإضطراب الداخلى إستغلت بريطانيا الوضع و أرسلت حملة قوامها 5000 جندى فيما سمى تاريخياً ب #حملة_فريزر و التى استغلت وجود محمد على و أكبر قوام جيشه فى حملته على المماليك فى الصعيد و قاموا بإحتلال الأسكندرية و دمنهور و محاولتهم إحتلال رشيد إلا أن أهل المدينة إستبسلوا فى الدفاع عنها حتى وصول محمد على من الصعيد و الذى أرسل على الفور جيشاً من 4000 فرد لدحر تلك الحملة و نجحوا بالفعل فى هزيمتهم بعد تكبيد الحملة خسائر تصل إلى حوالى 900 قتيل و جريح و أسير ..
* بعدها قام بالإنقلاب على أهم حلفائه الشيخ عمر مكرم الذى بدأ فى إنتقاده علانية لما ظهر منه ما كان يضمره فى قلبه فقرب منه بعض الشيوخ الذين على خلاف مع عمر مكرم ثم أعلن خلعه من نقابة الأشراف و عين مكانه الشيخ #السادات و ادعى عليه أنه أدخل بعض الأقباط و اليهود فى دفتر الأشراف نظير المال و أيضاً بالتواطىء مع المماليك ..
* لم يتبق أمام محمد على لإمتلاك زمام الأمور فى مصر إلا الإجهاز على باقى قادة المماليك الذى كان عقد معهم صلحاً صورياً حتى ينتهى من أمر الحملة البريطانية فقرر دعوتهم إلى حفلة بمناسبة تولية إبنه #أحمد_طوسون لقيادة حملة لمحاربة الدولة الوهابية فى أرض الحجاز و قام بحصارهم داخل القلعة و قتلهم كلهم و كان عددهم 470 مملوك و لم ينج منهم إلا مملوك واحد إسمه #أمين_بك و بتلك المذبحة دان أمر مصر بالكامل لمحمد على ..
( 2 ) مرحلة البناء :
ــــــــــــــــــــــــــــــ
* فى الواقع محمد على حقق كثيراً من التغييرات مثل :
– نظام الإدارة :
ـــــــــــــــــــــــ
مع أنه حكم مصر حكماً فردياً لا ينازعه فيه أحد إلا أنه و فى المقابل قسم الدولة تقسيماً صحيحاً من حيث توزيع المسئوليات و أنشأ #الديوان_العالى و هو المكافىء لمجلس الوزراء فى عصرنا الحالى و ينقسم إلى دواوين حكومية تختص بالحربية و التجارة و التعليم و الأشغال إلى أخره و أنشأ #مجلس_المشورة ضم فيه الأعيان و كبار رجال الدولة لمناقشة الخطة العامة للدولة كل سنة بالإضافة لتقسيم مصر إلى محافظات و مديريات لتسهيل التعامل بينها و بينه كحاكم للدولة .
– العمران :
ـــــــــــــــــ
أنشأ القلاع و الثغور لحماية إمبراطوريته الوليدة مع بناء القناطر و الإهتمام بالمظهر الجمالى للمبانى بل إمتد الأمر ليناء مدن كاملة كمدينتى #الخرطوم و #كسلا فى السودان .
– النظام المالى :
ـــــــــــــــــــــــــــ
– عمد إلى إلغاء نظام الإلتزام ( نظام شبيه بضريبة القيمة المضافة حالياً و لكن برقابة أقل ) و هو أن يدفع الشخص الملتزم و غالباً يكون من الجيش أو الأعيان مبلغ الضريبة الزراعية مرة واحدة من ماله الخاص لصالح الدولة ثم يجمعها هو بمعرفته من الفلاحين و هو ما عرضهم لمزيد من الظلم .
– ألغى الملكية الفردية للأفراد و جعل كل أراضى و مصانع و الدولة ملكاً له مما حول مصر إلى دولة إحتكارية بإمتياز .
– الصناعة :
ـــــــــــــــــ
نهضة صناعية كبيرة تمت فى عهده فى أوجه كثيرة و منها مصانع الغزل و النسيج و الحرير و الصوف و الحبال و الطرابيش و الحديد و النحاس و السكر و الأصباغ و الزجاج و الصينى و الصابون و الشمع بالإضافة لمعاصر الزيوت و الأهم من كل هذا تطوير ميناء الأسكندرية و إنشاء ترسانة السفن و مصانع الأسلحة و الذخائر .
– الزراعة :
ــــــــــــــــ
أدخل محاصيل جديدة مثل القطن طويل التيلة و اليوسفى بالإضافة لشق الترع و المصارف و إنشاء القناطر و إدخال طرق رى حديثة كانت تعتبر ثورة زراعية فى وقتها .
– الإقتصاد :
ــــــــــــــــــ
مع تلك الطفرة الصناعية و الزراعية كانت النتيجة الطبيعية هى زيادة هائلة فى معدل الصادرات مع كفاية داخلية نسبية مما جعل التدفقات النقدية تزيد بإستمرار .
– التعليم :
ــــــــــــــــ
– على مدار فترة ولايته أرسل 9 بعثات علمية ضمت 319 طالباً للدول الأوربية لتعلم مختلف التخصصات بداية من العلوم العسكرية و بناء السفن و الهندسة و الطب و الطباعة و الكيمياء و صناعة الأسلحة و العمارة و الترجمة .
– بالإضافة للبعثات أنشأ العديد من الكليات فى جميع التخصصات مثل الهندسة و الطب و الصيدلة و الولادة و الهندسة العسكرية و المعادن و الألسن و الزراعة و المحاسبة و الطب البيطرى و الفنون حتى وصل عدد الطلاب فيها إلى 4500 طالب .
– أنشأ ديوان المدارس و وضع لائحة لنشر التعليم الأساسى فى ربوع مصر و قدر البداية ب 50 مدرسة و كل مدرسة تضم 200 طالب .
– أولى إهتماماً كبيراً بالتعليم العسكرى و بنى مدارس فى كل التخصصات مثل الضباط و الجند و السوارى و المدفعية و المشاة و البحرية و الموسيقى العسكرية.
– الجيش :
ـــــــــــــــــ
– أنشأ المدرسة الحربية فى أسوان عام 1820 بمعاونة الضابط الفرنسى #جوزيف_سيف أو #سليمان_بيك_الفرنساوى و بعد ثلاث سنوات من التدريب تم تخريج 25 ألف جندى نظامى وصلوا إلى 236 ألف جندى فى 1839 .
– الإهتمام طال الأسطول الحربى أيضاً فحتى مع تدمير الأسطول المصرى كاملاً فى معركة #نفارين أمر محمد على فى 1829 ببناء ترسانة الأسكندرية و خلال 8 سنوات فقط تم صنع 28 سفينة حربية منهم 10 سفن عملاقة كل منها مسلح ب 100 مدفع .
* إنتقادات وجهت لعهد محمد على :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كثير من المفكرين و العلماء إنتقدوا ذلك العهد و لم يصوروه بتلك الصورة الوردية منهم #الإمام_محمد_عبده و #رشيد_رضا حيث عددوا الإنتقادات فى الآتى :
– بطشه بخصومه و إستعانته بالجيش فى التخلص منهم .
– إعلاء كعب الأجانب على المصريين فى المكانة الإجتماعية .
– توجيه إصلاحاته بالكلية لتقوية الجيش دون الإهتمام بتنمية حقيقية للمواطن المصرى .
– إعتنى بأمور الدنيا و أهمل أمور الدين .
– صنع جيشاً قوياً لكنه لم يزرع حب الجندية فى نفوس المصريين الذين كانوا يهربون من التجنيد .
– الخروج على الدولة العثمانية و محاربتها مما أدى إلى إضعاف أقوى دولة إسلامية وقتها .
– إنشاء المحاكم المختلطة و الحكم بالأحكام الوضعية دون الأحكام الشرعية مما جعلها موطىء قدم للتدخل الأجنبى فى مصر لاحقاً .
* يعاب عليه أيضاً نزواته العسكرية حيث أراد التوسع دائماً فهاجم الوهابيين فى الحجاز و توسع جنوباً فى السودان و خسر حرب المورة فى اليونان و معها فضل مصلحة مصر على مصلحة الدولة العثمانية مما أدى لتراكم العداء الذى تُرجم لحرب الشام و التى و إن كسب معاركها على الأرض إلا أنه تنازل عن كل أراضى الشام بعدها مجبراً بعد تكالب الدول الأوروبية عليه .. كل هذا أرهق الدولة إقتصادياً و أثره طال المصريين فقط .
* الخلاصة :
ــــــــــــــــــ
نستلهم مما سبق أن محمد على قام بنهضة حقيقية شهد لها المعارض قبل المؤيد لسياسته و لكنها كانت نهضة منقوصة فاستثمر محمد على فى المصانع و المزارع و المبانى و الجيوش دون الإهتمام بالعنصر البشرى الذى عانى أشد معاناه فى عهده من الغلاء و الضرائب المتزايدة و عدم الشعور بالإنتماء تجاه وطنه لأنه لم ير خيراً منه و أن كل المعارك التى دخلها محمد على دخلها إرضاءاً لغروره و طموحه الشخصى بإنشاء إمبراطوريته الخاصة به و بأولاده و لو حتى على أنقاض الخلافة العثمانية التى طالما تغنى أنه فرداً منها و ليس أدل على وصفه مما قاله المؤرخ عبد الرحمن الجبرتى حين قال :
( فلو وفقه الله لشيىء من العدالة على ما فيه من العزم و الرياسة و الشهامة و التدبير و المطاولة لكان أعجوبة زمانه و فريد اوانه )
* محمد على باشا الطفل المولود فى مدينة قولة المقدونية لأبوين من ألبانيا و العثمانى الهوية رغم طفولته الصعبه وصل لحكم مصر و كافح لتحويلها لإمبراطورية عظمى إلا أن القدر لم يمهله و بعد معاناة مع مرض الدوسينتاريا ثم معاناته من البارانويا و الخرف حتى توفى فى 2 أغسطس 1848 تاركاً وراءه دولة منظمة و لكن ينقصها عنصر مهم .. ينقصها العدل .
ــــــــــــ