الجزء الثانى :
ــــــــــــــــــــــ
* حين نتحدث عن الأكراد فيجب أن نتحدث فى البداية عن تركيا .. فيها بدأ كل شيىء .. فيها كانت بداية النزعة الإنفصالية للأكراد .. أكثر من مئة عام من النضال بدأوا تحديداً من تركيا .. و إن أردنا التعمق فى الشأن الكردى فيجب علينا تقسيم القضية الكردية إلى أقسام ( تاريخى – سياسى – إقتصادى ) فنستطيع بذلك التقسيم معرفة الوضع داخلياً على حقيقته ..
( 1 ) تاريخياً :
ــــــــــــــــــــــ
* فى القرن التاسع عشر كان هناك ثلاث إمبراطوريات كبرى تتنافس فيما بينها للسيطرة على منطقة جنوب شرق أوروبا .. #الإمبراطورية_العثمانية .. #الإمبراطورية_الروسية .. #الإمبراطورية_النمساوية_المجرية .. كل إمبراطورية فيهم كانت تحاول إثارة القلاقل فى نظيرتيها و إثارة الأوضاع الداخلية لزعزعة الإستقرار فيهما .. الإمبراطورية الروسية كانت سباقة فى إثارة التوترات حين دعمت حركات الإنفصال فى المناطق التى تحكمها الإمبراطورية العثمانية .. البداية كانت مع #السلافيين فى البلقان .. ثم #الأرمن فى القوقاز .. و أخيراً #الأكراد فى الشرق .. أيتها الشعوب المظلومة .. أما آن لكم أن تهربوا من جحيم العثمانيين و تستقلوا بأنفسكم .. الحديث كان له أثراً سحرياً فى نفوسهم بالطبع ..
* تلك التوترات لم تنال من إمبراطورية دون غيرها .. مظاهر الإنهيار كانت تظهر بوضوح فى جسد الإمبراطوريات الثلاث بالتوازى .. الحرب العالمية الأولى كانت المسمار الأخير فى نعوشهم .. بإنتهاء الحرب سقطت الإمبراطوريات الثلاث بالفعل و ظهرت قوى جديدة تحكم العالم .. قوى تؤمن أن قيام إمبراطوريات جديدة لن يصحبها إلا شهوة الإنتقام و التوسع لذا يجب تقسيم العالم إلى دويلات كبر حجمها أو صغر لا يهم .. المهم ألا يكون هناك مظلة واحدة تجمعهم مرة أخرى .. كان الحل السحرى من وجهة نظرهم هو #القومية ..
* القومية ليست خياراً سيئاً بالمناسبة طالما سيتم توظيفها لصالح الدولة إقتصادياً و لصالح الشعوب حقوقياً .. أما ما حدث فعلياً فكان التركيز على الفروق بين القوميات و إثارة الخلافات فيما بينها حتى صار الأمر أشبه بمصارعة الديوك .. كل قومية ترى أنها أحق من غيرها بالإدارة و الحكم حتى انفصلت كل قومية و استقلت بذاتها .. وسط هذا الجو الملىء بالإختلافات و التشاحن السياسى رأى الأكراد أن من حقهم أيضاً إقامة دولتهم على الأراضى التى عاشوا فيها منذ مئات السنين .. #معاهدة_سيفر ستكون البداية ..
* الحلفاء أعطوا وعداً صريحاً للأكراد ببناء دولتهم فى معاهدة سيفر عام 1920 و ذكروا ذلك نصاً فى المواد 62 – 63 – 64 .. تلك المعاهدة لاقت مقاومة شديدة من الأتراك تطورت لاحقاً إلى حركة تحرر وطنى تزعمها #مصطفى_كمال_أتاتورك الذى وصف المعاهدة بأنها حكم إعدام على تركيا .. بالطبع كان هناك السلطان العثمانى #محمد_السادس على رأس السلطنة و الذى حاول بشتى الطرق الحفاظ على الإمبراطورية فأمر الحكومة بتشكيل هيئة وزارية لحل القضية الكردية مؤلفة من شيخ الإسلام #حيدرى_زاده_إبراهيم_أفندى و وزير الأشغال #عيوق_باشا و وزير البحرية #عونى_باشا و شخصية كردية مرموقة من أعضاء مجلس الأعيان ( البرلمان ) يدعى #الأمير_على_بدرخان ..
* إنتهت اللجنة إلى منح كردستان ميزة الحكم الذاتى مع إتخاذ تدابير فعالة لإعلان الإستقلال فوراً شرط قبول الأكراد البقاء فى الدولة العثمانية .. كان هذا عرضاً ممتازاً خاصة أن الحكم الذاتى يعادل الإستقلال التام تقريباً بالإضافة إلى إنتماء الدولة الجديدة لإمبراطورية عريقة قد تكون معيناً لها ضد أى خطر خارجى حتى لو كانت الإمبراطورية مهزومة نفسياً و شبه مفككة .. كان القبول بالعرض أقرب للواقع لولا تدخل #أتاتورك الذى إستطاع بذكائه إستمالة الأكراد و إبعادهم عن حكومة إسطنبول بوعدهم بالإستقلال التام و هى درجة أعلى من الحكم الذاتى .. لماذا تتبعون سلطنة لا تلقى لكم بالاً .. أليست هى نفس الإمبراطورية التى قمعت ثوراتكم التسعة عشر السابقة .. فكيف تضمنوهم الآن .. أنا أعدكم بدولتكم المستقلة و لكن إنتظروا قليلاً حتى أفرغ من أعداء تركيا و يسود الأمر لى .. بالطبع سال لعاب الأكراد و صدقوا وعود أتاتورك ..
* فى أكتوبر 1923 تم إعلان سقوط الخلافة و إعلان أتاتورك كأول رئيس لجمهورية تركيا الحديثة و مع إنتخابه تغيرت كل وعوده السابقة .. أرسل رفيق دربه #عصمت_إينونو ممثلاً لتركيا فى التفاوض مع الحلفاء بشأن #إتفاقية_لوزان .. بالطبع كان هناك تنازلات لكنها لم تكن بلا مقابل بالتأكيد .. يجب أن تدخل المنطقة الواقعة جنوب شرق تركيا الآن و التى يسكنها الأكراد ضمن الحدود التركية .. ليس هذا و حسب .. بل يجب على الحلفاء أن يغضوا الطرف عن الممارسات التى سينتهجها أتاتورك لتثبيت أقدام دولته الحديثة .. تم الإتفاق بالفعل و صار معها الأكراد فى مهب الريح دون سند حقيقى على الأرض ..
* أثناء الحرب العالمية الأولى لم يجد أتاتورك سوى الأكراد لمساندته فى قتاله ضد الحلفاء و بالفعل قام الأكراد بواجبهم على أكمل وجه و رغم هذا تنكر أتاتورك لتلك المساعدات تماماً بعد إنتخابه كرئيس للجمهورية .. فى البداية أنكر الهوية الكردية .. لن يعيش على أرض تركيا إلا من هو تركى .. أيديولوجيته العلمانية منعت أى تمييز للأعراق المختلفة التى تعيش فى حدود الدولة .. أطلق على الأكراد #أتراك_الجبل أو #شعب_شرق_الأناضول .. كانوا أتراكاً يجب تمدينهم من وجهة نظره .. دخلت حياة الأكراد إلى أظلم مرحلة عبر تاريخهم الحديث ..
* كنتيجة منطقية و بديهية لخيانة أتاتورك لوعوده التى قطعها للأكراد قامت ضده إنتفاضة قوية عام 1925 بقيادة الشيخ #سعيد_بيران و لم تكن إنتفاضة خاصة بالأكراد فقط إنما انضم لها كل الأقليات فى جنوب شرق تركيا .. الأرمن .. العرب .. الشركس .. الأشوريين .. إنضمام الأقليات كان بسبب أن أتاتورك إنقلب حتى على بنود حماية الأقليات المنصوص عليها فى إتفاقية لوزان .. إنتفاضة كانت قوية بالفعل و لها دوافعها المنطقية و لكن الإتفاق المسبق بين أتاتورك و الحلفاء حسم الخلاف .. تم سحق الإنتفاضة بحكم أن ميزان القوى العسكرى كان فى صالح أتاتورك و تم إعدام قادة الإنتفاضة و على رأسهم الشيخ سعيد بيران .. بعض المفكرين ذكروا أن عدد قتلى الأكراد فى تلك الإنتفاضة و السنوات اللاحقة لها حوالى مليون و نصف قتيل طبقاً لإعترافات حكومة أنقرة نفسها ..
* ثورة الأكراد لم تتوقف عند هذا الحد .. #إحسان_نورى_باشا .. جنرال فى الجيش التركى إنشق عنه و قاد إنتفاضة ضد أتاتورك و اتخذ #جبل_آجرى مركزاً لها .. إستمر فى إنتفاضته أربع سنوات من 1926 و حتى 1930 و لكن ضعف الإمدادات كان عاملاً حاسماً فى هزيمته خاصة بعد أن حاصره الجيش التركى فى الجبال لفترة طويلة حتى نفذت مؤنه ..
* تبعت تلك الإنتفاضة واحدة من أفظع مجازر الجيش التركى ضد الأقليات حين إنتفض الأكراد العلويين ضد حكم أتاتورك فى محافظة #ديرسم بقيادة #سيد_رضا خلال عامى 1937 و 1938 .. سبب فظاعة تلك المجزرة يرجع إلى إستخدام أتاتورك الطيران الحربى التركى بكثافة ضد الأكراد .. #صبيحة_جوكتشن إبنه أتاتورك بالتبنى كانت أول إمرأة تضرب ديرسم بالطائرات .. صبيحة كانت أول إمرأة تقود طائرة حربية فى تركيا و العالم .. قتل فى القصف الجوى أكثر من سبعين ألف كردى و تم تشريد عشرات الآلوف منهم .. إعترفت تركيا لاحقاً بمقتل أربعة عشر ألفاً فقط بخلاف المشردين .. حديثاً قام #رجب_طيب_إردوجان بالإعتذار عن ما جرى فى ديرسم على يد الحزب الحاكم وقتها ..
* ثورة ديرسم كانت أخر ثورات الأكراد فى تركيا .. بعدها أصبح كل من يعيش على أرض تركيا تركى بحكم الدستور .. خضعت المناطق الكردية لقانون الطوارىء .. بات ممنوعاً إظهار أى مظهر قومى بخلاف القومية التركية .. كان مجرد ذكر كلمة #كردى كفيل بإلقاء قائلها فى المعتقلات و يصل الأمر للإعدام فى حالة الدعوة لمساندتها .. تم إنكار وجود أى تنوع قومى أو دينى أو ثقافى .. تم منع الأكراد من تعلم لغتهم بالمدارس أو حتى التحدث بها .. صارت تركيا علمانية الشعار و لكنها ديكتاتورية الهوى .. فى عام 1938 مات أتاتورك و نصبت المؤسسة العسكرية – بحكم قوة السلاح – نفسها حارساً لمبادىء أتاتورك و حامياً لها ما أدخل البلاد فى دوامة الإنقلابات العسكرية المتتالية فكلما تقدم الأكراد خطوة على طريق إعتراف الدولة بحقوقهم التاريخية حدث إنقلاب عسكرى يعود بالقضية إلى المربع صفر مرة أخرى ..
* مناخ قمعى دموى مثل هذا لابد و أن يواجه بمزيد من التشدد أيضاً فمن رحم تلك المعاناة الإغريقية التى عاشها الأكراد ولد #حزب_العمال_الكردستانى عام 1978 على يد #عبد_الله_أوجلان الذى رفع شعارات يسارية منادياً بتحرير و توحيد كردستان و قام بتهديد تركيا علناً .. إما أن تعطونا حقنا و إما فهو الكفاح المسلح .. حوالى أربعون عاماً من المواجهات المسلحة و المناوشات المستمرة لم ينل فيها الأكراد ما أرادوا و لم تكسب فيها تركيا شيئاً .. أكثر من 50 ألف قتيل من الجانبين .. آلاف من جرائم القتل و الإغتيال .. ثلاثة آلاف قرية كردية تم تدميرها .. شرخ إجتماعى بين الطرفين .. خسائر مادية قدرت بأكثر من خمسمائة مليار دولار .. توتر العلاقات التركية بدول الجوار و خسائر إقتصادية بالجملة خاصة فى أقاليم الأكراد .. و بالطبع وصم كل من له صله بحزب العمال الكردستانى بتهمة الإرهاب ..
* وضع صعب و دائرة مفرغة عاش فيها الأتراك و الأكراد على حد سواء دون أى تقدم يذكر و لكن مؤخراً بدأت تظهر مبادرات سياسية بين حزب العدالة و التنمية الحاكم و بين حزب العمال على التوصل لأرضية مشتركة لحل الخلاف أو لتهدئة الأوضاع على أقل تقدير .. مبادرات سأوضحها فى الجزء القادم إن شاء الله محاولاً شرح الأزمة من المنظور السياسى و الإقتصادى بعد سرد الشق التاريخى لعلاقة الطرفين ببعضهما ..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ