ألمانيا .. معجزة إقتصادية لا تتكرر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الجزء الثانى :
ـــــــــــــــــــــ
* تاريخياً كانت الإمكانيات المادية للنصف الغربى لألمانيا أعلى من نصفها الشرقى و بعد الإنقسام و بسبب التطور الإقتصادى الكبير لألمانيا الغربية اتسع الفارق أكثر و صارت الهجرة من النصف الشرقى إلى النصف الغربى تمثل حلماً للمواطنين الشرقيين .. فى الغرب هناك ديموقراطية و بُعد إجتماعى يتمثل فى الحفاظ على الحد الأدنى من الحياة الكريمة للمواطنين و هذا كان سبباً رئيسياً فى رفع معدل الهجرة غرباً حتى وصلت إلى 3 ملايين مهاجر أغلبهم من العمالة الماهرة .. كان هذا أحد العوامل التى ساهمت فى إزدهار إقتصاد ألمانيا الغربية بالطبع إلا أن الأمر زاد عن حده مع الوقت و اضطرت ألمانيا الشرقية لبناء سور برلين عام 1961 للمحافظة على ما تبقى لها من عمالتها الماهرة التى تأثر إقتصادها برحيلهم للنصف الغربى ..
ـــــ
* العوامل السياسية المحيطة بشرق أوروبا و التوترات التى حدثت بها بسبب الضعف الإقتصادى بتلك الدول ساهم فى وصول الإحتجاجات إلى عاصمة الجمهورية الألمانية الشرقية .. طالب الشعب بالحرية و الديموقراطية أسوة بجارتها الغربية و هو ما أجبر السلطات على تنظيم إستفتاء للوحدة مع الجارة الغربية و هو ما قوبل بموافقة كاسحة من الشعب الشرقى .. جدار برلين صار من الماضى الآن .. هدم الجدار كان يحمل لمحة شاعرية بلا شك .. مظاهر الوطنية و الفرحة المبالغ فيها بالوحدة كانت لها اليد الطولى هنا .. لكن ماذا عن المستقبل .. هناك أزمة كبرى ستواجه جمهورية ألمانيا الموحدة الآن .. كيف ستتعامل مع الأعباء الإضافية الملقاة على عاتقها بإنضمام جارتها الشرقية .. هناك شعباً كاملاً يرغب الآن فى العمل .. يريد حقوقه التى حرم منها على مدار أربعة عقود ..
ـــــ
* إقتصاد ألمانيا الشرقية كان يتعرض لتباطوء شبه دائم لأن الدولة كانت تسيطر على كل شيء فيه و هو ما ساهم فى عزوف المستثمرين عن الإستثمار فى تلك الدولة .. أصلاً حرية التملك لم تكن متوفرة من الأساس فكيف سيأتى الإستثمار .. فى المقابل فالجارة الغربية كانت قد وضعت أسس الرأسمالية من سنوات طويلة و تجربتها نجحت تماماً .. الإعجاز الألمانى ظهر أولاً فى إستيعاب تلك الأعداد الإضافية و أيضاً إستيعاب تأخرهم الإنتاجى و المعرفى و الإجتماعى .. 16.11 مليون نسمة أضيفوا إلى عدد السكان و كان لزاماً على الدولة أن تتعامل مع ضعف إنتاجيتهم بالإضافة لتوفير الخدمات إليهم بما يليق بهم و بما يتناسب مع ما كان يقدم للمواطنين بالنصف الغربى .. التحدى كان كبيراً بالفعل و لكن نتائج نظام السوق الإجتماعى كانت كفيلة بتعديل تلك الأوضاع ..
ـــــ
* فى البداية حدث إنخفاض كبير فى معدلات النمو وصلت فى بعض الأحيان إلى ظهور الأرقام سالبة .. إنتكاسة إقتصادية كبيرة نتجت بسبب إنهيار الإقتصاد فى القسم الشرقى .. البرنامج الإصلاحى الألمانى وقتها نص على زيادة الإستثمار فى النصف الشرقى بمعدلات أعلى من النصف الغربى و بشكل سنوى و متتالى مما قلل الفجوة الإقتصادية تدريجياً بين الشطرين و هيأ البيئة الصحيحة للنمو و هو ما ظهرت نتائجه بعد فترة .. مع الوقت تحسنت البنية التحتية للنصف الشرقى و إرتفع عدد المشروعات و زادت إنتاجية الفرد هناك .. قبل الإندماج كانت إنتاجية الألمانى الشرقى لا تتعدى 25 % من ما ينتجه مثيله فى الغرب .. نسب النمو أيضاً إقتربت كثيراً علماً بأن قبل الإندماج كانت ألمانيا الغربية تحقق 10 % كمتوسط لمعدل النمو سنوياً فى حين كانت جارتها الشرقية تحقق 2.5 % على الأكثر .. بسبب الإنفاق السخى على الجزء الشرقى ظهرت علامات التطور تدريجياً على المؤسسات التعليمية و الصحية و كافة مظاهر البنى التحتية الإجتماعية .. ألمانيا الغربية سخرت كافة إمكانياتها لإنتشال شطرها الشرقية من محنته .. مظهر أخر من مظاهر عظمة هذه الأمة ..
ـــــ
* بعد كل تلك السنوات من تطبيق البرنامج الإصلاحى الألمانى و تطبيق معايير الجودة بشكل صارم على المنتجات الألمانية تحولت ألمانيا من إقتصاد منهك مديون لا تظهر عليه أى بادرة للإصلاح مستقبلاً إلى :
– أقوى إقتصاد أوروبى و رابع أقوى إقتصاد عالمى بإجمالى ناتج قومى يقدر 3.5 تريليون دولار و بمعدل نمو 1.7 % على الرغم من أنها صاحبة أكبر تعداد سكانى أوروبى ب 84 مليون نسمة .
– ثالث أكبر مصدر فى العالم ب 1.32 تريليون دولار و ثالث أكبر مستورد أيضاً ب 1.05 تريليون دولار .
– صاحبة أعلى فائض فى الميزان التجارى فى العالم عام 2014 .
– إحتياطى النقد الأجنبى 173.7 مليار دولار .
– ثالث أكبر دولة فى العالم فى قبول المهاجرين و هو ما ينعكس على قوة الإقتصاد لإستفادته من هجرة الكفاءات إليه .
-أكبر إحتياطى للتأمين الإجتماعى فى أوروبا و الأولى فى مجال الصحة .. لديها أكثر من 2000 مستشفى و تعالج كل من يعيش على أرضها حتى لو كان غير ألمانياً .
– الدين العام حوالى 79 % من الناتج المحلى الإجمالى بمعدل تضخم ممتاز يعادل 0.2 % فقط .
– القوى العاملة ممتازة حوالى 45 مليون نسمة ( 53.5 % من عدد السكان ) بمعدل بطالة 4.6 % فقط و هو أحد أفضل المعدلات الأوروبية .
ـــــ
* نستخلص مما سبق أن ما قامت به ألمانيا يعد إعجازاً إقتصادياً بلا أدنى شك و ما يدعم هذا التصور تلك الظروف الصعبة – بل المستحيلة – التى مرت بها الدولة من الهزيمة فى حربين عالميتين خسرت معهما كل مستعمراتها الخارجية و كافة مواردها .. انتهكت و دمرت بنيتها التحتية بالكامل تقريباً .. بعض مدنها تم محوها تماماً مثلما حدث فى دريسدن أو كولن .. قتل رجالها .. أصيب شبابها .. أهينت و أغتصبت نساؤها .. تم تشريد باقى شعبها و عاشوا بين أطلال مدنهم لسنوات .. تم تقسيمها إلى جزئين و استطاعت تجاوز خلافاتها و اتحدت من جديد .. و بعد كل هذا أصبحت تملك إقتصاد محورى له علاقات تبادل تجارى مع أغلب دول العالم ..
ـــــ
* فيما يخص إمكانية تطبيق نظام السوق الإجتماعى على الحالة المصرية فيمكن الإستفادة من كل أو بعض بنوده بالتأكيد لكن يظل هناك شرطأ أساسياً لإنجاح أى مشروع أو برنامج إقتصادى و هو إلتحام الإرادة السياسية مع الإرادة الشعبية و بدون ذلك الإلتحام فلن يأتى أى برنامج إقتصادى بالنتائج المرجوة منه مهما كان فذاً .. لذا و حتى ينجح البرنامج و يحقق أكبر إستفادة ممكنة يجب أن يشعر عامة الناس بجدية الدولة فى التوجه نحو الأفضل و إرساء مبادىء العدالة الإجتماعية التى يشعر معها العاملون سواء بالقطاع العام أو الخاص أن نتائج مجهودهم ستعود بالنفع عليهم و يشعرون بالتغيير فى كافة مناحى حياتهم حتى لو تدريجياً .. التكاتف الشعبى شرط أساسى للنجاح عند تطبيق ذلك البرنامج و هو ما حدث فى ألمانيا فلا تكفى النوايا الطيبة فقط لإنجاح أى برنامج إقتصادى .. و لنحاول تفنيد البنود التى يمكن الإستفادة منها فى النقاط التالية :
– ترك المساحة الأكبر للقطاع الخاص فى القطاعات الإستهلاكية بالدولة و تركيز جهود الدولة على المشاريع العملاقة فقط .
– تشجيع إنشاء المشروعات الصغيرة و المتناهية الصغر عن طريق تقديم تسهيلات إئتمانية و إعفاءات ضريبية مؤقتة حتى تستطيع ملأ الفراغ فى الجانب الإستيرادى .
– الإقراض بنسب فائدة منخفضة لأقصى درجة مع تشجيع الشباب للإقبال على الإقتراض مع توجيههم للقطاعات الأكثر إحتياجاً لمشروعاتهم مما يصب فى مصلحة الإقتصاد القومى و سد العجز به .
– تقليل نسب الفائدة يظل عاملاً حاسماً لتشجيع الإستثمار و إن كان معدل التضخم الحالى يجبرنا فى بعض الأحيان على زيادته أو تثبيته .
– متابعة تطبيق قانون الإستثمار الجديد قد يكون عاملاً مفيداً أيضاً خاصة بعد إقرار بنود تضبط العلاقة بين المستثمر و الدولة مع وضع خطوطاً عريضة لكيفية التعامل فيما بينهم .
– تدخل الدولة الحاسم فى تحديد مستوى الأجور لضمان حد أدنى كريم لمستوى المعيشة للفقراء لأنه لا يمكن إنتظار نتائج إيجابية من أُناس بطونها خاوية .
– ضمان المشاركة الفعالة للنقابات العمالية فى تحديد مصير الشركات عن طريق مشاركتها فى صنع القرار و عدم تركها فى يد مجلس الإدارة وحده و هو ما يرفع من درجة الإنتماء للمؤسسة و للدولة ككل بالتبعية .
– إستبدال العملة المصرية بأخرى جديدة يظل عاملاً مساعداً قد يفيد فى إعادة ثقة الشعب للعملة المحلية مرة أخرى .. عاملاً ثانوياً بالتأكيد لكن يظل له دور قد تحتاجه الدولة لتطبيق باقى البنود التى طبقتها ألمانيا .
– عنصر أخير من الممكن تطبيقه لاحقاً و هو الإعتماد على الطاقة النظيفة فألمانيا أصدرت قانون الطاقة المتجددة EEG و المقر عام 2000 لتكريس التوجه نحو الطاقة النظيفة و إستلهام مبادىء الإستدامة و هو ما قد يساعد مصر لاحقاً فى تقليل نفقات الطاقة خاصة إذا وضعنا فى حسباننا أننا نملك أفضل مكان فى العالم لإنتاج الكهرباء من الطاقة الشمسية ألا و هى الصحراء الغربية .
ـــــ
* قد نكون بالفعل نطبق بعض تلك البنود التى طبقها الألمان قبلنا بعشرات السنين لكن ينقصنا الرقابة على نتائجها .. ينقصنا الإرادة القوية و الجدية فى متابعة النتائج و إصلاح الأخطاء التى تظهر لأنه لا توجد تجربة بلا أخطاء .. ينقصنا التكاتف الشعبى و إحساس الشعب بأهمية تلك الخطوات و الإقبال عليها .. ينقصنا توعية الأجيال الحالية أن تلك الإجراءات ستأتى بنتيجة فقط لو الكل إلتزم بها .. ينقصنا إقناع الشعب خاصة الشباب منه بأن تطبيق تلك البرامج يضمن العدالة الإجتماعية و لكن بالتدريج .. بمعنى أخر ينقصنا التواصل الفعال .. ينقصنا الكثير نعم و لكن لازال بإمكاننا تطبيق نظام السوق الإجتماعى على الحالة المصرية لو أننا فقط نملك اليقين فى نجاحنا .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* فى الصورة :
ـــــــــــــــــــــــ
أحد الألمان الشرقيين يحاول هدم سور برلين بعد إعلان نتائج إستفتاء الوحدة
ـــــ