سلسلة سيرة خالد بن الوليد.. الجزء الثامن عشر

الجزء الثامن عشر :
ــــــــــــــــــــــــــــــــ

* منذ أن وصل المسلمين إلى #حمص أيقن #هرقل أن الدائرة تضيق عليه فما لم تستطيع جيوشه السابقة فعله فلن تستطيعه حمص وحدها .. منذ ذلك الحين قرر الإستعداد لمعركة فاصلة تنهى ذلك الخطر الذى يقترب من مكان إقامته بالتدريج .. أنطاكية على بعد أسابيع منهم و إن لم يجد حلاً سريعاً قبل سقوط حمص فقد يجد نفسه مجبراً على ترك عاصمة الإمبراطورية فى الشرق ..

* الحل المبدئى كان تأخير المسلمين قدر الإمكان لحين تنفيذ خطته الأساسية فقام بإرسال جيشاً بقيادة #هربز و أرسل معه مؤن تكفى حمص لفترة فى حالة حصارها إلا أن خالد إستطاع قتل هربز و حصار حمص للمرة الثانية حتى استسلمت .. أثناء تلك الفترة كانت رسل هرقل تجوب أرجاء الإمبراطورية تدعو ملوكها للإنضمام إليه .. أيها المسيحيين .. دافعوا عن بلادكم و نساءكم و أطفالكم .. قاوموا الخطر الإسلامى الذى يزحف على بلادكم .. إن المسلمين لا يرغبون بالذهب و لا الفضة .. إنما يرغبون فى أرضكم و سبى نساءكم .. دافعوا عن الأرض المقدسة .. قاوموا لأجل المسيح ..

* إثارة النعرة الدينية كان لها مفعول السحر بالإضافة إلى أن من ينادى للحرب هو الإمبراطور بنفسه و للأمانة فهرقل بخلاف أنه كان إمبراطوراً للروم إلا أنه كان ذو حكمة و رأى سديد و كان ناجحاً إلى حد بعيد فعلى يديه نفضت الإمبراطورية غبار هزيمتها من الفرس و إستعادت هيبتها و توسعت فى شمال إفريقيا و تركيا .. هرقل أعاد الإتزان للإمبراطورية و يعود له الفضل الأكبر فيما وصلت إليه قبل الفتح الإسلامى .. بعد ما قام به فالإنصياع لأمره كان شيئاً مفروغاً منه .. سيتجمع للروم أكبر جيش للإمبراطورية عبر تاريخها ..

* حتى تستوعب حجم جيش الروم يكفيك أن تعرف حدود الإمبراطورية الرومانية وقتها فقد كانت تمتد من فرنسا فى غرب أوروبا إلى تركيا و بلاد القوقاز فى شرق أوروبا نزولاً إلى بلاد الشام وصولاً إلى شمال إفريقيا بالكامل تقريباً .. الجيش الإمبراطورى كان يحوى إثنا عشر جنسية حتى إن الأوامر العسكرية اليومية كانت تتلى بأكثر من عشر لغات على الأقل .. أمر الإمبراطور بجمع كل من يستطيع حمل السلاح فى تلك الدول و الممالك فجمع له فى أقل تقديرات المؤرخين أكثر من 100,000 مقاتل و فى أكثر التقديرات 400,000 مقاتل و إذا أخذنا بأكثر التقديرات شيوعاً فسنجد أن الجيش الإمبراطورى فى تلك المعركة كان يتراوح بين 200,000 : 240,000 مقاتل فى المقابل كان جيش المسلمين يتراوح بين 36,000 : 45,000 مقاتل فى أكثر التقديرات شيوعاً ..

* لأول مرة يطلب هرقل العون من مركز الإمبراطورية فى روما .. لأول مرة يتخطى حدود الشام فى جمع جيشه .. لأول مرة لم يأتى على رأس الجيوش قادة عسكريون فقط بل جاء ملوك الدول و الممالك التابعة لحكم الإمبراطورية بأنفسهم ..

– #ماهان ملك أرمينيا و القائد الأعلى للجيوش الرومانية
– #قناطير ملك الروس و السلاف
– #جريجورى ملك من ملوك أوروبا
– #دريجان ملك من ملوك روما
– #ثيودور_تريثوريوس أحد كبار قادة الإمبراطورية
– #تيودور شقيق هرقل
– #قسطنطين إبن هرقل
– #جبلة_بن_الأيهم ملك العرب النصارى
– بالإضافة لكثير من الأمراء و النبلاء و رجال الدين

* خطة هرقل كانت تركز على إستغلال تفرق المسلمين حيث كان الجيش الإسلامى مقسم إلى أربعة أجزاء .. جيش #يزيد_بن_أبى_سفيان كان يحاصر #ميناء_قيسارية و جيش #أبو_عبيدة و معه #خالد كانوا فى حمص و جيش #شرحبيل_بن_حسنة كان فى الأردن أما جيش #عمرو_بن_العاص فكان فى فلسطين .. أراد هرقل أن يفصل جيش المسلمين الرئيسى فى حمص عن باقى الجيوش فإن قضى على ذلك الجيش و هو كان الإحتمال الأقرب – بحكم العدد و خطة الحصار – صار قتال باقى الجيوش أسهل ما يكون عليهم .. خطة كانت عبقرية بالفعل و فيها رؤية ثاقبة لإستغلال توزيع جيش عدوهم لصالحهم ..

* جيوش المسلمين كانت تملك جهاز مخابرات جيد جداً فكانت الأخبار تصلها من بعض جواسيسها بتحركات الروم تجاههم و بالتالى وصلت الأخبار إلى أبو عبيدة و نائبه خالد بن الوليد فكان خالد يحلل تحركات الروم و يتوقع مكان ضربتهم القادمة .. الروم قسموا أنفسهم لجيوش متفرقة ..

– أول الجيوش وصل إلى #قيسارية بحراً بقيادة قسطنطين إبن هرقل لتثبيت جيش يزيد الذى يحاصر حصن المدينة و منعه من دعم جيش أبو عبيدة ..

– ثانى الجيوش تحرك بقيادة جبله بن الأيهم ملك الغساسنة قادماً من الشمال إلى حمص ..

– ثالث الجيوش تحرك بقيادة جريجورى قادماً من الشرق بإتجاه حمص ..

– رابع الجيوش تحرك بقيادة قناطير ملتفاً حول حمص و قادماً من الجنوب ناحية دمشق ..

– خامس الجيوش بقيادة ماهان كان فى ظهر جيش جبلة بن الأيهم للتدخل فى حالة هزيمته ..

* بهذا الشكل فقد تم عزل الجيوش الفرعية كلها بالإضافة لحصار جيش أبو عبيدة .. بهذا سيتم القضاء على الجيش الرئيسى أولاً لأنه محاصر من كل الإتجاهات و بعدها يتم القضاء على جيش يزيد الذى سيكون محاصراً بالتبعية ثم يتم الإلتفات إلى الجيشين الباقيين .. تلك كانت خطة رائعة لولا أن من يحلل تحركاتهم هو خالد بن الوليد بن المغيرة أعظم العسكريين فى زمانه ..

* مع أول تحركات الروم و ما أن وصل الخبر إلى خالد بتفرق الجيوش رسم خالد خريطة تحركاتهم بالكامل و كأنه معهم و أخبر بها أبو عبيدة و نصحه بتجميع جيوش المسلمين كلهم فى جيش واحد لأن تلك الأعداد لن يقوى عليها أى جيش من الجيوش الأربعه منفرداً فاستمع أبو عبيدة لخالد .. عُرف عن أبو عبيدة أنه ما اقترح خالد إقتراحاً إلا و نفذه ليس ضعفاً على الإطلاق إنما إعترافاً بقدرات خالد العسكرية التى أثبتت كفاءة و بعد نظر فى كل المعارك السابقة .. على الفور تحركت كل الجيوش الإسلامية و تجمعت فى #منطقة_الجابية قرب هضبة الجولان السورية .. فى المقابل لما وصلت الجيوش الرومانية إلى حمص و دمشق لم تجد أى جندى مسلم .. مدن رئيسية تم التخلى عنها بشكل كامل حفاظاً على أرواح المسلمين .. على هرقل إعادة ترتيب أوراقه من جديد .. سيعيد ترتيبها طبقاً لما يراه خالد و طبقاً لما يرغب به .. خالد فى أغلب معاركه كان يجبر عدوه على إلتزام خط السير الذى يرسمه له ..

* فى هضبة الجولان إختلفت آراء المسلمين على كيفية مواجهة الروم فمنهم من إقترح الرجوع حتى حدود جزيرة العرب فإن هزموا استطاعوا الرجوع إلى الصحراء و منهم من رأى التقدم للأمام و منهم من رأى أن يحاربوهم فى الجابية نفسها و لكنهم إنتهوا إلى قبول رأى خالد الذى خالف آرائهم كلهم .. خالد إختار لتلك المعركة #سهل_اليرموك على الحدود السورية الأردنية حالياً لأنه رأى أنه مكان قريب إلى جزيرة العرب فيستطيع الخليفة إمدادهم بالتعزيزات إن إحتاجوا لها بالإضافة إلى كونه سهلاً و ليس هضبة مما يؤمن تفوق سلاح الفرسان لأن خيول المسلمين كانت أقوى و أسرع من خيول الروم .. و بالفعل تحرك الجيش إلى هناك و أقام معسكره و إنتظر وصول الروم إليه .. فى المقابل و كإجراء بديهى تجمعت جيوش الروم كلها فى جيش واحد و تحركوا حتى وصلوا إلى سهل اليرموك و عسكر الجيشان على بعد ميلين من بعضهما البعض .. تعبيراً عن كثرة أعداد الروم قام بوصفهم بعض المسلمين الذين رأوا قدوم الجيوش قائلين ..

( كأنهم أسرابٌ من جراد )

* تعليمات هرقل إلى ماهان كانت أن لا يبدأ القتال مع المسلمين و أن يبدأ معهم بالتفاوض و أن يغريهم ليتركوا الأرض دون قتال مهما كانت التضحيات المالية .. فأرسل جريجورى رسولاً إلى المسلمين ليقدم لهم عرضاً ظن أنهم لن يرفضوه أبداً .. عرضه كان يحتوى على الآتى :

– أن يتخلى المسلمين عما فتحوه من بلاد

– أن يعودوا إلى جزيرة العرب حاملين كل شيىء يستطيعون حمله مهما كان نفيساً

فرفض أبو عبيدة عرضهم لأن المسألة بالنسبة للمسلمين لم تكن حرب غنائم أو هدفها متاع الحياة الدنيا إنما الحرب كانت لإبلاغ كلمة الله إلى كل شعوب الأرض .. كل ما كان يرجوه المسلمين أن تُحكم الأرض بشرع الله و أن الحكم بخلاف شرع الله هو طاغوت يجب هدمه و التصدى له .. على مستوى الأفراد فلا إكراه فى الدين فتترك الحرية لكل شخص بأن يعتنق ما يريد أما على مستوى الحكم فشرع الله كان شرطهم الوحيد .. كانت القضية كلها تتمحور حول ” إن الحكم إلا لله ”

* لما كان الرفض قاطعاً اضطر ماهان لإختبار قوة المسلمين لعل معنوياتهم قد تأثرت برؤية أعداد الروم الغفيرة فأرسل جيش جبلة بن الأيهم للهجوم عليهم فلما بدأ هجوم الغساسنة تحرك قائد المقدمة خالد بن الوليد و فرقته على الفور و قسموا أنفسهم إلى قسمين و هاجموا الغساسنة من الجانبين فقاموا بالمقاومة لفترة قصيرة ثم تراجعوا مرة أخرى و لم تدم المعركة طويلاً .. عندها تيقن ماهان من رسوخ عقيدة ذلك الجيش و من مهارته أيضاً .. لن تكون تلك المعركة سهلة أبداً .. تلك معركة تحديد مصير إذاً كما أكد لنا هرقل .. هؤلاء قوماً لا يهابون الموت كما هو واضح و ذلك أخطر شيىء قد يواجهه الروم فى اليرموك .. دخل الجيشان فى حالة ترقب و استمرت تلك الحالة شهراً كاملاً .. شهراً كاملاً لا يرغب الروم بالهجوم و لا يرغب المسلمون أيضاً لأن تعداد الروم كان كبيراً بالفعل و لا يجب الإستهانة به ..

* أثناء ذلك الشهر استعد خالد بخطة ذكية لملاقاة ذلك العدد الكبير .. عدداً كهذا لا يمكن الهجوم عليه فى أرضاً مفتوحة مثل تلك .. خالد إختار سهل اليرموك لأن خطته التى رسمها فى عقله كانت خطة دفاعية على عكس أسلوبه الهجومى المعتاد .. خطة خالد كانت هى خطة الحرب فمن ذا الذى سيضع خطة أكثر إحكاماً منه .. كل قادة المسلمين كانوا على يقين و قناعة أن رأى خالد كان الأكثر واقعية و قابلية للتنفيذ حتى و إن كان فى ظاهره مستحيلاً .. خالد كان القائد الفعلى للجيش بأرائه و أفكاره دون أن يكون على رأس القيادة رسمياً ..

– تكتيك خالد فى تلك المعركة كان عظيماً ..

– معركة الأيام الست ستكون أعظم معارك المسلمين فى فتوح الشام ..

– سيسطر التاريخ إسم أبا سليمان بحروف من نور بسبب تلك المعركة ..

– و لكن .. تلك قصة أخرى ..

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ