الجزء السادس عشر :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* بعد فتح دمشق بأسبوع جاء أحد العرب النصارى إلى #أبو_عبيدة_بن_الجراح ليخبره بخبر مهم فحدثه قائلاً :
( إذا كنتم ترغبون بغنائم سهلة فهناك سوق سنوى يقام فى #أبى_القدس تستطيعون الإغارة عليه و تستولون على ما فيه )
قال له أبو عبيدة :
( هل لذلك السوق حماية )
فرد الرجل و قال :
( لا أعلم و لكن أقرب جيش له موجود فى طرابلس )
اجتمع ابو عبيدة بقادته و أخبرهم بالخبر فوجدوا أنها غنيمة سهلة تقوى موقفهم الإقتصادى و تنال من كبرياء عدوهم قبل أن تنال من إقتصاده .. يجب أن يدرك الجميع الظروف المحيطة بتلك الغارة حتى لا تختلط عليه الأمور فيظن أن المسلمين يهاجمون العُزَّل أو يغدرون بهم ..
– أولاً : أبى القدس كانت ضمن نطاق سيطرة الروم
– ثانياً : لم يكن هناك معاهدة صلح بين المسلمين و تلك المنطقة
– ثالثاً : بالأساس هى حرب و إغتنام أى فرصة لإضعاف عدوك هى من صميم الحروب
– رابعاً : هدف المسلمين كان إمتلاك الغنائم لا قتال من فى السوق لأن المسلمين لا يقاتلون إلا من حمل ضدهم السلاح
* طلب أبو عبيدة من قادته بأن يتطوع أحدهم لقيادة الجيش .. وقف الجميع ينظرون إليه منتظرين أن يولى أحدهم على الجيش .. فى نفس الوقت كان أبو عبيدة ينظر إلى خالد ينتظر منه أن يطلب قيادة ذلك الجيش .. خالد كان صامتاً لأنه فى ذلك الوقت لم يكن يعلم أين موضعه فى مناصب القيادة .. هو تم عزله لكنه لم يكن يعلم درجته و رتبته فهل هو فى القيادة الوسطى أم الصغرى أم مجرد جندى فرفض أن يتكلم أدباً و تواضعاً منه تاركاً الإختيار للقائد أبو عبيدة ..
* شاب صغير .. فى مقتبل عمره .. قيل أن شعر لحيته نبت منذ فترة صغيرة .. #عبد_الله_بن_جعفر_الطيار إبن أحد قادة المسلمين فى غزوة مؤتة لو تذكرونه .. طلب قيادة ذلك الجيش .. الشاب كان صغيراً بالفعل لكنه كان متحمساً جداً للقيادة راغباً بالجهاد لأقصى درجة .. وجد أبو عبيدة أنها فرصة لإعداد هذا الشاب خاصة أن المعلومات التى وردته أن السوق بلا حماية تقريباً و أيضاً لم يتطوع غيره .. تجهز للغارة خمسمائة فارس على رأسهم عبد الله بن جعفر و تحركوا حتى وصلوا لمكان السوق فإذا بالسوق يحميه حوالى خمسة آلاف جندى رومى .. بسبب حالة الحرب القائمة خشى الروم من إستيلاء المسلمين على السوق فقاموا بحمايته جيداً ..
* فى مثل هذه الحالة كان التراجع أفضل خاصة أن أعداد المسلمين كانت قليلة مقارنة بالروم إلا أن حماس القائد الشاب دفعه للهجوم و كانت النتائج غير مرضية على الإطلاق .. إندفع فرسان المسلمين محاولين مباغتة الروم إلا أن الهجوم لم يأتى بثماره فإلتف عليهم الروم محاولين تطويقهم و قبل أن ينغلق الطوق عليهم أمر عبد الله أحد الفرسان بالرجوع إلى دمشق ليخبر أبا عبيدة بما حدث .. نتحدث هنا عن جيش مكون من عشر أضعاف عدد المسلمين تطويقهم كان من السهولة بما كان .. و كلما حاول الروم تضييق الدائرة هجم عليهم المسلمين و ردوهم ففضل قائد الروم توسيع الدائرة و حصارهم بالداخل فإما يستسلموا و إما يهجموا محاولين كسر حصارهم فإن فعلوا تفرقت صفوفهم و سَهُل على الروم قتلهم ..
* ( لا تُقدِم المسلمين إلى هلكة رجاء غنيمة )
أول جملة مرت بعقل أبو عبيدة لما سمع بالخبر .. تلك كانت وصية عمر إليه .. و ذلك كان أول قرار له كقائد .. خمسمائة جندى أرواحهم على المحك بسبب قراره الخاطىء بإرسال تلك المجموعة تحت قيادة شاب لم يخض أى معركة كقائد من قبل .. إن استشهد هؤلاء الخمسمائة لبدأت الناس تقارن بينه و بين خالد و لانهارت معنويات الجنود أكثر بسبب عزله .. ذهب أبو عبيدة إلى خالد و قال له :
( يا أبا سليمان .. أنشدك الله أن تذهب فتنقذ عبد الله بن جعفر .. ليس له بعد الله إلا أنت )
فرد عليه خالد قائلاً :
( أنا رهن إشارتك .. أفعل بإذن الله )
قال :
( و الله قد ترددت و أنا أطلب منك ذلك )
فرد خالد رداً عظيماً :
( و الله يا أبا عبيدة لو أمَّرت على طفلاً لأطعتك .. كيف لا أطيعك و أنت أمين هذه الأمة )
لو أراد خالد الثأر لنفسه لكان هذا هو الوقت الأنسب لكن من قال إن خالد يبتغى العزة لنفسه إنما كان عمله كله خالصاً لوجه الله .. و على الفور أمر لوائه الذى جاء معه من العراق فتحركوا صوب أبى القدس فوصلوا و كانت المناوشات بين الروم و المسلمين لازالت دائرة فصاح بأعلى صوته و كان جهير الصوت رحمه الله :
( اثبتوا عباد الله .. أنا ابن الوليد )
فما أن رأى الروم خالد حتى تبدلت الأمور و رَجُحت كفة المسلمين و تم تحرير المحاصرين منهم .. ليس ذلك فقط بل تم هزيمة جيش الروم و استولى المسلمون على كامل السوق لم ينقص منه شيىء .. رحم الله أبا سليمان كان بطلاً مغواراً لا يهاب الموت .. و الله إن صوته وحده كان كفيلاً بحسم المعارك ..
* علم المسلمين أن جيش الروم يجمع لهم فى #بيسان غرب نهر الأردن فأمر أبو عبيدة جيشه بالتحرك لملاقاتهم .. الطريق إلى بيسان يمر عبر #منطقة_فحل و عيون الروم رصدت تحركات جيش المسلمين فأمر قائد الروم و كان يُدعى #سُقلار_بن_مخراق بأن يتم سد مجرى النهر القادم من فحل إلى بيسان فلما سدوه فاضت المياه و اغرقت الطرق فزالت معالمها تماماً فوجد جيش المسلمين صعوبة فى التحرك فعسكروا فى فحل و بعثوا عيونهم ليتحروا الطرق .. العرب يعهدون الصحراء و فيضان المياه كان شيئاً جديداً تماماً بالنسبة إليهم .. إختار سُقلار الهجوم ليلاً ليفاجىء المسلمين ظناً منه أنهم لن يكونوا متجهزين للقتال إلا أن شرحبيل بن حسنة قائد الجيش فى تلك المعركة كان قد أمر بالمبيت فى وضع تعبئة فكان كل جندى يبيت مع تشكيل فرقته و معه سلاحه فلما بدأ القتال إكتشف الروم استعداد المسلمين فارتد ضدهم عنصر المفاجآة ..
* رغم الليل و الأوحال و قوة الروم أنفسهم إلا أن المسلمين أبلوا بلاءاً حسناً و استطاعوا رد هجوم الروم و أصيب قائد الروم #سُقلار و نائبه #نَسطُورس و بإصابتهم انسحب الروم انسحاب جماعى و معه بدأ الهجوم المعاكس من المسلمين فقتلوا و أصابوا من طالتهم أيديهم فوصلت خسائر الروم إلى أكثر من عشرة آلاف قتيل و مات من المسلمين بضع مئات فى تلك المعركة .. انسحب الروم إلى بيسان و هناك أعاد تنظيم أنفسهم لبداية معركة أكبر .. #معركة_بيسان .. ثمانون ألفاً من الروم أمام خمسة و عشرون ألفاً من المسلمين ..
* تقابل الجيشان فلاحظ خالد أن بخلاف كثرة عدد الروم فقد تم توزيع الجيش لمسافات بعيدة جداً و بهذا فالروم لديهم المقدرة للإلتفاف على جيش المسلمين فاستأذن للخروج مع فرقة من الفرسان من ألف و خمسمائة فارس لإستطلاع جيش الروم .. لما خرج وجد أن الروم نظموا مقدمة جيشهم بشكل جديد حيث دمجوا المشاة مع الفرسان و وضعوا على طرفى القلب الرماة و حاملى الرماح فرأى أن بذلك التنظيم قد يهلك عدد كبير من المسلمين إذا ما هاجموا من القلب .. أيضاً لاحظ أن جناحى جيش الروم هما أضعف خطوطهم خاصة ميمنتهم التى كان أغلبها مشاة .. الروم وضعوا جُل قوتهم فى القلب لعلمهم بوجود خالد فيه ..
* لحل مشكلة طول جبهة الجيش قام خالد بفرسانه بمناوشة جيش الروم بعدد قليل من الفرسان فكان كلما اقترب هاجمه الروم فيبتعد خالد مظهراً لهم خوفه من تقدمهم فيتجرأوا أكثر فى الهجوم عليه و كلما تراجع خالد تقدم عليه جيش الروم حتى تغيرت هيئة خطوطه و لكى تتخيل الوضع فتلك الحركة كانت لا إرادية من الروم و يصعب التحكم فيها لأن أوائل الصفوف إذا تحركوا للأمام تبعهم باقى الجيش حتى لا تحدث فجوة بينهم و كان من الصعب إنتقال الأوامر من الوسط إلى الأجنحة لتنظيم الصفوف مرة أخرى .. ما حدث فعلياً أن خالد سحب جانباً من الجيش فتبعه الباقون حتى استطاعوا تنظيم أنفسهم فى مكان أخر .. ذلك المكان هو المكان الذى اختاره خالد للمعركة .. لماذا .. لأن ذلك المكان كان أضيق و بهذا أفقد الروم ميزة العدد التى كانت تمنحهم القدرة التكتيكية للإلتفاف على المسلمين .. و لو حاول الروم أمر الجيش بالتراجع لهجم عليهم المسلمين أثناء إنسحابهم و لأبادوهم .. لذلك اضطر قادة الروم أن يبدأوا المعركة من هذا المكان ..
* خالد استمر فى تطبيق خطته دون الرجوع إلى صفوف الجيش مرة أخرى .. قسم مجموعة فرسانه إلى ثلاثة أقسام كل قسم خمسمائة فارس و نظمهم قلب و جناحين و ضع على الميمنة #قيس_بن_هبيرة و وضع نفسه على الميسرة و وضع فى القلب #ميسرة_بن_مسروق و أمر قيس بالهجوم معه فى نفس اللحظة على جناحى جيش الروم و أمر ميسرة بن مسروق بالوقوف و عدم الهجوم .. و انطلقوا معاً فى نفس اللحظة فإذا بهذا العدد الضئيل يخترق جناحى الروم لأنه يملك ميزة عليهم و هى القتال من فوق الخيول .. و على الرغم من شدة القتال إلا أن خالد و قيس استطاعوا تشتيت جناحى الروم فلما رأى الروم ما حدث أمروا فرسانهم المتمركزين فى المقدمة أن يميلوا على الأجنحة لنجدتهم فلما تحركوا انكشف قلبهم .. مع تحركهم صاح خالد :
( الله أكبر .. أخرجهم الله لكم من رَجَالتهم فشدوا عليهم )
فغاص الخمسمائة فارس بقيادة ميسرة وسطهم مسببين فوضى عارمة فى صفوفهم .. نتحدث هنا عن ألف و خمسمائة فدائى قاموا بالهجوم راغبين بالشهادة ..
* خالد نفذ كل هذا فى دقائق و لم يكن يملك رفاهية الوقت لإخبار أبا عبيدة بخطته التى واتته بعدما شاهد تنظيم الروم .. أبو عبيدة لما رأى ما فعله خالد أمر الجيش بالهجوم الشامل فانطلق جيش المسلمين بكامله ليلتحم بفرقة خالد فانضمت الميمنة بقيادة #معاذ_بن_جبل و القلب بقيادة #سعيد_بن_زيد و الميسرة بقيادة #هاشم_بن_عتبة أما #أبو_عبيدة فكان مع فرقته يحمى مؤخرة المسلمين من أى إلتفاف قد يحدث عليهم .. استمرت المعركة حتى حلول الليل .. قيل أن جيش الروم كله تقريباً كان إما قتيلاً أو شريداً أو مصاباً و من بقى منهم رجع فاحتمى بأسوار بيسان .. لن تمر فترة طويلة حتى تستسلم #بيسان حفاظاً على ما بقى من جيشها ..
* ذلك هو خالد بن الوليد و ذلك هو فضل خالد بن الوليد .. بطل .. مغوار .. وهبه الله نعمة الفطنة العسكرية فكانت أحد أهم عناصر تفوق المسلمين على أعدائهم ..
– سيكمل المسلمون رحلتهم ..
– أغلب الشام سيفتح إما بالصلح و إما بالإستسلام ..
– #مرج_الروم على الأبواب و بعدها ستأتى #اليرموك ..
– و لكن .. تلك قصة أخرى ..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ