سلسلة سيرة خالد بن الوليد.. الجزء الحادي عشر

الجزء الحادى عشر :
ــــــــــــــــــــــــــــــــ

* خيارات خالد – رضى الله عنه – كانت محصورة بين طريقين كما ذكرنا و لكن كلا الطريقان كان لا يفى بالشرط الأساسى لخالد و هو سرعة الوصول إلى المسلمين فى الشام فأراد حلاً لتلك المشكلة فجمع قادته و قال لهم :

( كيف لى بطريق أخرج فيه من وراء جموع الروم .. فإنى إن استقبلتها حبستنى من غياث المسلمين )

فردوا عليه قائلين :

( لا نعرف إلا طريقاً لا يحمل الجيوش .. يأخذه الفذ الراكب .. فإياك أن تَغرُر بالمسلمين )

كانوا يحذرونه من خطورة الطريق و أن الطريق غير مهيأ للجيوش و قد يكون فيه هلاكها .. تحذيرات فى الظروف الطبيعية كان من الممكن أن تثنى قائد الجيش عن إتخاذ هذا القرار .. و لكن من قال إن خالد مثل أى قائد .. خالد كان جريئاً .. كان فذاً رضى الله عنه ..

#رافع_بن_عميرة_الطائى كان هو الوحيد من قادته الذى وافقه فقال إنه يوجد طريق عبر #أرض_سماوةيمكن الجيش أن يمر بها إلى #واحة_قراقر ثم إلى #سوى و منها إلى #بُصرَى لكن بالرغم من ذلك فقد حذر خالداً للمرة الأخيرة قائلاً :

( انك لن تطيق ذلك بالخيل و الاثقال .. و الله ان الراكب المفرد ليخافها على نفسه و ما يسلمها الا مغرراً .. إنها لخمس ليال جياد لا يصاب فيها ماء مع مضلتها )

حديث رافع أخاف قادة المسلمين أكثر فعارضوا خالد مرة أخرى فما كان منه إلا أن قال :

( أيها الناس .. لابد من أجتياز هذا الطريق .. لا يختلفن هديكم و لا يضعفن يقينكم .. و اعلموا ان المعونة تأتى على قدر النية .. و الاجر على قدر الحُسبَة .. و أن المسلم لا ينبغى له ان يكترث لشيئ يقع فيه مع معونة الله له )

* حتى تتضح لك الصورة و تدرك حجم المخاطرة التى خاضها المسلمون فيجب أن تتخيل معى الموقف وقتها ..

– الجيش مكون من تسعة آلاف مقاتل

– التحرك كان فى فصل الصيف .. تحديداً شهر يونيو

– خط السير كان يبدأ من الحيرة إلى عين التمر ثم المصيخ ثم إلى قراقر ثم إلى سوى ثم إلى بصرى

– أكبر مشكلة فى خط السير كانت فى المسافة بين قراقر و سوى .. 120 ميلاً بلا نقطة مياه واحدة

– ذلك الطريق لم يمر به أحداً من الجيش إلا شخص واحد هو رافع بن عميرة الذى أخبرهم بوجود نبع ماء قبل سوى بمسيرة يوم يمكنهم الشراب منه

– لو أخطأ رافع – رضى الله عنه – خطئاً واحداً لكانت النهاية

– هل شعرت بحجم الخطر ؟

* رافع شدد على الإستكثار من الماء فقال للناس :

( استكثروا من الماء .. من استطاع منكم أن يَصُر اذن ناقته على ماء فليفعل .. فانها المهالك الا ما دفع الله )

فحمل الناس مياهاً على إبلهم قدر ما استطاعوا .. إضافة لذلك اشترى خالد مائة من الإبل الكبيرة و لم يسقهم حتى عطشوا ثم قبل تحركهم مباشرة أمر رجاله بأن يسقوا الإبل مرتين فقامت الإبل بتخزين الماء فى سنامها .. بدأ تحرك الجيش .. لم تمثل الثلاث ليال الأولى مشكلة كبيرة على الرغم من حرارة الجو .. فى كل يوم كان خالد يأمر بذبح عشرة من الإبل فيأكل الجيش لحومها و يستخرجون المياه من أسنمتها فتشرب منه دواب الجيش .. الآن يمكن للإبل أن تكمل المسير .. بدأت المشاكل فى الظهور بداية من اليوم الرابع .. بدأ مخزون الماء فى التناقص .. هم يسيرون الآن تحت لهيب الشمس بلا ماء تقريباً و على أمل أن يجدوا نبع الماء الذى وعدهم به رافع .. إذا إنحرف رافع و لو لميل واحد فقط لهلك الجميع ..

* فى وسط اليوم الرابع انتهى الماء تماماً .. الحلقة تضيق عليهم الآن .. أيقن خالد أن الجنود قد لا تستطيع الإستمرار فأمر فى بداية اليوم الخامس مفرزة من الفرسان أن تسبق الجيش مع رافع لعلهم يكتشفوا موقع النبع بشكل أسرع لكن المشكلة هنا كانت فى رافع نفسه .. بسبب جو الصحراء و آشعة الشمس أصابه إلتهاب فى عينه جعله لا يرى شيئاً نهائياً .. إن لم يستطيع رافع الرؤية فمن سيقودنا إلى النبع .. لا تنسوا أننا فى صحراء جرداء تماماً فى جو شديد الحرارة بدون ماء منذ يوم و نصف تقريباً .. نحن نتحدث عن أشخاص على شفا الموت حرفياً .. لم يكن هناك أمل إلا الإستدلال بذاكرة رافع و إلا فلينتظر الجميع الموت فى أى لحظة ..

* بعد مسافة من المسير قال الصحابة لرافع :

( يا رافع .. نحن على شفا الموت هلا وجدت الماء ؟ )

– لكنه لم يرى شيئاً فقال لهم :

( انظروا علمين – تَلّتَين – كأنهما ثديان )

– بعد بحث وجدوهما فوقفوا عليهما ثم قال لهم :

( انظروا هل ترون شجرة عوسج كقعدة الرجل ؟ ” أى كمؤخرة الرجل ”

– فنظروا و قالوا :

( ما نراها )

– فقال لهم :

( إنا لله و إنا إليه راجعون .. إذاً هلكتم و الله و هلكت معكم .. فانظروا ثانية )

– بعد بحث مضنى وجدوا شجرة لكنها مقطوعة فقال لهم :

( أحفروا فى أصلها )

– فحفروا فإذا بنبع الماء فشربوا حتى ارتووا ..

– فلما أقبل خالد على رافع ليشكره قال له رافع :

( هناك أمر خشيت أن أخبرك به قبل أن نبدأ مسيرنا )

– قال له خالد :

( ما هو )

– قال :

( و الله ما وردت هذا الماء قط الا مرة واحدة .. وردته مع أبى و أنا غلام منذ ثلاثين عاماً )

بعد تلك المقولة أظن أنكم أدركتم حجم المخاطرة التى مر بها المسلمون خلال ذلك المسير .. جيش كامل بالألاف كان يستعين بذاكرة رجل مر من تلك الصحراء منذ ثلاثين عاماً .. كان من الممكن أن يكون فى ذلك المسير هلاكهم لكن رحمة الله وسعت كل شيىء ..

* فى اليوم التالى وصل خالد إلى منطقة سوى و قضى على مقاومتها بسهولة ثم تحرك إلى #مدينة_أَرَك و هى مدينة بها حصن كبير فيه قائد رومى و أيضاً قبائل عربية متحالفة مع الروم .. عندما رأى أهل الحصن جيشاً قادماً من الصحراء استعجبوا خاصة و أن ذلك ليس مساراً معتاداً للجيوش .. إستعد خالد بسرعة للهجوم عليها حتى لا يتأخر على قوات #أبو_عبيدة_بن_الجراح فلما وجد أهل الحامية ذلك الجيش يستعد للهجوم عليهم قال أحدهم :

( هل راية الجيش سوداء ؟ )

– فأخبروه أن نعم

– فقال :

( هل قائدهم طويل القامة مفتول العضلات ؟ )

– فأخبروه أن نعم

– فقال :

( هل لحيته طويلة و يوجد على وجهه آثار مرض الجُدَرى )

– فأخبروه أن نعم

– فقال :

( هذا و الله #خالد_بن_الوليد قد جاءكم .. إياكم و محاربة ذلك الجيش )

استسلم القائد الرومانى للأرك طواعية دون قتال .. بعدها استمر خالد فى مسيرته فمر على #مدينة_تَدمُر ثم#مدينة_القريتين ثم مدينة #حوارين ثم مدينة #مرج_راهط حتى وصل إلى #مدينة_دمشق .. أغلبهم استسلموا طواعية .. سمعة خالد كانت قد ملأت الآفاق حتى إن كثيراً من القرى و الحصون كانت تفتح بمجرد ذكر اسمه .. رحم الله أبا سليمان ..

* خالد وصل إلى مشارف دمشق و رغم أنه يرغب فى فتح تلك المدينة الكبيرة إلا أن أولوياته كانت تنص على الوصول إلى بُصرَى فترك دمشق مؤجلاً فتحها لوقت أخر .. بُصرَى مدينة كبيرة و بها حامية رومانية كبيرة أيضاً يسكنها الروم و العرب معاً و عدد الجنود فيها قدر بإثنا عشر ألف جندى و هذا عدد كبير نسبياً على الحاميات .. على الطرف الشمالى الشرقى للحامية كانت تعسكر قوات أبوعبيدة و تحت قيادته ثلاث ألوية و لم يبقى من قوات المسلمين إلا لواء #عمرو_بن_العاص و الذى كان فى طريقه إليه .. أبو عبيدة أمر لواء#شُرَحبيل_بن_حسنة و الذى كان يضم أربعة آلاف مقاتل بالتوجه إلى الحامية و حصارها حتى يصل خالد بقواته فيقتحموها معاً ..

* ما حدث أن قوات شُرَحبيل وصلت باكراً عن خالد و لم تضبط توقيت وصولها على توقيت وصول جيش خالد فحاصروا الحامية لمدة يومين .. خلال اليومان راقبهم حاكم بُصرَى فأغراه قلة عدد الجيش الذى يحاصر الحامية فقرر فى اليوم الثالث الهجوم عليهم .. استمرت المعركة بينهم لمدة ساعتين و استطاع المسلمون المقاومة لكن كثرة عدد الروم ساعدتهم على الإلتفاف عليهم و كادوا يفتكون بهم و قبل أن ينجحوا فى تطويق جيش شُرَحبيل ظهر من بعيد مجموعة من الفرسان يقودهم خالد بن الوليد فأثار هجومهم خوف الروم فتراجعوا إلى الحامية مرة أخرى .. لولا وصول خالد فى الوقت المناسب لكان أبيد لواء المسلمين بالكامل ..

* بعد لجوء الروم للحامية مرة أخرى جمعوا أنفسهم و قرروا الهجوم مرة أخرى مستغلين إرهاق جيش خالد خاصة أنه وصل للتو .. هم لم يكونوا يعلموا أن جيش خالد قد اعتاد خوض الحروب دون راحة .. خالد نفسه كان غير معتاد على الراحة فى الحرب .. عُرف عن خالد أنه لم يكن ينام و لا يترك أحداً ينام طالما كان هناك إحتمال لقتال .. اصطف الجيشان مرة أخرى فى سهل أمام الحامية و كانت المواجهة بينهما عنيفة لكن عدد المسلمين كان قد زاد فأصبحت الغلبة لهم فى النهاية .. لمع فى تلك المعركة الصحابى #ضِرَار_بن_الأزور.. بسبب شدة الحرارة نزع #ضِرَار درعه و قميصه و قاتل الروم عارى الصدر .. هذا حفز الروم على الهجوم عليه لقتله فما كان من ضِرار – رضى الله عنه – إلا أن قتل كل من تجرأ و هجم عليه حتى خشى أكثرهم جرأة على الهجوم عليه .. بسبب ما رأوا منه أطلقوا عليه لقب #الشيطان_ذو_الصدر_العارى ..

* فى ذلك الوقت وصل أبو عبيدة بقواته إلى ميدان المعركة فخاف الروم من كثرة عدد المسلمين فعادوا إلى الحامية .. فى تلك الآثناء رأى خالد أبو عبيدة قادماً إليه على فرسه و كان يهم بالنزول عنه فقال له خالد :

( إبق على فرسك )

فأطاعه أبو عبيده و قال له :

( يا أبا سليمان .. وصلنى كتاب أبى بكر الصديق و علمت بأنك قائد الجيوش )

فقال له خالد :

( و الله .. لولا أمر خليفة رسول الله أن أكون قائداً ما تأمرت على مثلك .. أنت أعلى منى فى الإسلام و أنت أمين هذه الأمة )

لم تمر فترة طويلة حتى استسلم الروم بعد أن رأوا تعداد المسلمين ففقدوا الامل فى الإنتصار عليهم ..

– فُتحت بُصرى ..

– الروم يتجمعون فى #إجنادين ..

– تسعون ألفاً و مازالوا فى إزدياد ..

– كلما تركهم خالد ستقوى شوكتهم أكثر ..

– تجهزى يا إجنادين فخالد قادماً إليكى ..

– إستطاع أن يهزم الروم هناك حـ…..

– لحظة .. تلك قصة أخرى بالتأكيد ..

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ