سلسلة سيرة الفاروق عمر.. الجزء السابع عشر

الجزء السابع عشر
ـــــــــــــــــــــــــــــــ

* #عمر_بن_الخطاب .. سفير قريش و المنافر عنها و المدافع عن سمعتها بين القبائل .. ذلك الفتى بائن الطول مفتول العضلات .. منذ صباه و قد توافرت له العديد من الصفات و الخصال التى لازمته طيلة عمره سواء فى جاهلية أو فى إسلام .. فهو صادق .. واضح و مباشر فى رأيه .. حازم .. لا ينافق أحداً .. شديداً فى الحق و لو على نفسه و أهله .. و بعد اسلامه ظهرت على السطح صفات أخرى كانت موجودة و لكن كانت تغلفها غلظة الجاهلية فظهر عمر بن الخطاب ذلك الرجل الزاهد العابد التقى الورع رقيق القلب .. و بخلاف كل ما سبق فإن عمر كان يملك عبقرية إدارية و تنظيمية مكنته من إدارة دولة الإسلام منذ مراحلها الأولى تقريباً حتى وصلت فى نهاية عهده لأن تكون الدولة الأقوى فى العالم .. لنتعرف أكثر على بعض صفات عمر رضى الله عنه فى السطور التالية ..

ـــــــــ

* حتى قبل إسلامه كان حازماً صارماً .. سخر كل قوته فى محاربة هذا الدين الجديد .. كان أكثر الشباب جلوساً فى دار الندوة مع كبار قريش و صفوة رجالها .. فى الوقت الذى كان يتكفل سادة قريش بالسيطرة على قبائلهم كان عمر من يتولى السيطرة على قومه #بنى_عدى و هو مازال شاباً .. كانت شخصيته جارفة بالفعل و لم يكن يجرؤ أحداً على معارضته .. فى قصة إسلامه دليلاً على شدة حزمه ..

* فى أحد الأيام و بعد أن أسلم #حمزة_بن_عبد_المطلب اقترح سادات مكة أن يقتلوا محمد ﷺ خوفاً من أن ينفرط عقد قريش فقرر عمر أن يتطوع لتلك المهمة فذهب إلى بيته و توشح سيفه راغباً فى قتل رسول الله ﷺ فلقيه #نُعيم_بن_عبد_الله و كان أحد الذين أسلموا و أخفوا إسلامهم و قد رأى من عمر أنه ينوى شراً فقال له :

( أين تريد يا عمر ؟ )

فرد عمر قائلاً :

( أريد محمداً .. أريد أن أقتل هذا الصابىء الذى فرق أمر قريش و سفه أحلامها و عاب دينها و سب ألهتها )

فخاف نُعيم على رسول الله ﷺ فأراد أن يثنيه عما يريد فقال له :

( و الله لقد غرتك نفسك يا عمر .. أترى بنو عبد مناف تاركيك تمشى على الأرض و قد قتلت محمداً .. أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم أولاً .. أختك فاطمة و زوجها #سعيد_بن_زيد قد و الله أسلما و تابعا محمد على دينه فعليك بهما )

فيظهر حزم عمر مرة أخرى عندما يقرر التوجه لأخته و زوجها ليقتلهما أولاً قبل أن يقتل محمداً .. هذه الصرامة فى الطباع كانت من أكثر صفات عمر وضوحاً ..

ــــــ

* بعد إسلام عمر مباشرة و فى نفس اليوم قرر المرور على بيوت سادة قريش واحداً واحداً ليواجههم و يعلمهم أنه قد أسلم ثم ذهب إلى #الجميل_بن_معمر أكثر أهل مكة نقلاً للحديث و أخبره بأمر إسلامه ليُشيعه بين الناس ثم وقف أمام الكعبة و أخبر الناس بأمر إسلامه ثم قاتل عشرات المشركين من الصباح إلى المساء حتى أدركه التعب و كاد أن يقتله القوم لولا أن مر بهم #العاص_بن_وائل و أمرهم بأن يتركوه ثم ذهب لبنى عدى ليعلمهم بأمر إسلامه و ليعتذر منهم .. كل هذا فى أول يوم له فى الإسلام .. ثم لم يكتفى بما فعل بل إنه بعد فترة قصيرة من إسلامه طلب من النبى ﷺ أن يخرج المسلمين فيصلوا فى الحرم بعد أن كانوا يصلون خفية فوافق النبى على طلبه بعد أن إمتلك الإسلام وسائل التمكين التى تحميه فخرج المسلمون فى صفان على رأس أحدهما عمر و على رأس الأخر حمزة و توسطهم رسول الله ﷺ ..
ـــــــ

* من المواقف التى تظهر مدى حزم عمر موقفه من #حاطب_بن_أبى_بلتعه الذى أنذر قريشاً بهجوم المسلمين عليهم فلما علم النبى ذلك الأمر واجهه فكان عذر حاطب أنه أراد بذلك أن يصنع معروفاً لقريش لكى يأمن شرهم على أقاربه فى مكة حيث أن حاطب لم يكن له قبيلة تمنع أهله من أذى المشركين فقبل منه النبى عذره .. ما يهمنا هنا هو موقف عمر منه حين قال للرسول :

( إئذن لى يا رسول الله أن أضرب عنقه )

و هو نفس ما قاله عندما علم بما قاله #عبد_الله_بن_أُبى_بن_سلول من أنه عندما يعود المسلمين من غزوتهم ليُخرجن الأعز منها الأذل و كان يقصد أنه هو الأعز و أن رسول الله – حاشا لله – هو الأذل ..

موقف أخر لعمر حدث مع #عُمير_بن_وهب عندما جاء للنبى فى المدينة قبل إسلامه بغرض قتله فلما رآه عمر قال :

( هذا الكلب عدو الله عمير بن وهب ما جاء إلا لشر )

فلما أذن رسول الله ﷺ بدخوله دخل معه عمر و هو ممسك بحمالة سيفه لكى يمنعه من إستخدامه و أمر عدداً من المسلمين بحراسة النبى ..

ـــــــ

* لم يكن عمر شديداً على المشركين فقط و إنما كان حازماً على أهل بيته فيما يخص أمر المسلمين فعن #عاصم_بن_عمر قال :

( قدم على عمر بن الخطاب مال فأمر به إلى بيت المال فجئت و أنا غلام صغير فوجدت درهماً فأخذته )

فلما رآه قال لى :

( من أين لك هذا الدرهم يا عاصم ؟ )

فقلت :

( أعطتنيه أمى )

فأرسل إلى أمه يسألها عن الدرهم فقالت أنها لم تعطه شيئاً فقال عاصم :

( وجدته فى الحجر – أى الفناء )

فأخذه عمر منه و رده إلى بيت المال مرة أخرى و هذا الموقف يبين مدى حزم عمر فى مراقبة أهله و تتبع أخبارهم على الرغم من أن الدرهم لا يساوى شيئاً تقريباً و هو أمير المؤمنين فى النهاية إلا أن ذلك لا يفوت على عمر .. عمر الذى كان حازماً حتى فى أمر اختيار ولاته و عزلهم فكان دقيقاً جداً فى مسألة إختيارهم و كان حاسماً جداً فى أمر عزلهم و كان يقول دائماً ..

( خير لى أن أعزل كل يوم والياً من أن أُبقى ظالماً ساعة نهار )

هكذا كان عمر رضى الله عنه .. مبادراً .. حازماً .. حاسماً .. شجاعاً .. لماحاً ..

ـــــــــ

* و إذا تركنا صفة الحزم فى عمر فإننا سنرى صفة أخرى يظن الكثير أنها لا تتوفر فى شخصية عمر و هى الرقة .. على عكس ما كان يظهر من عمر من شدة و غلظة فى بعض الأحيان كان هناك جانباً آخر لشخصيته ظهر أحياناً فى جاهليته و ظهر كثيراً بعد إسلامه .. دعونا نتعرف أكثر على عمر رقيق القلب ..

ــــــ

* فى أحد الأيام قبل إسلامه كان أحد المسلمين و يدعى #عامر_بن_ربيعة_العنزى يتجهز هو و زوجته ليلى #أم_عبد_الله_بنت_أبى_حثمة للهجرة خوفاً من بطش سادات مكة و كان عمر من أشدهم عليهما .. ذهب عامر ليقضى حاجة و ترك زوجته عند متاعهما فلمحت عمر قادماً نحوها فخافت منه و قبل أن تنطق سابقها عمر بقوله :

( إنه الإنطلاق يا أم عبد الله ؟ )

فاستجمعت قوتها ثم ردت قائلة :

( نعم .. و الله لنخرجن فى أرض الله .. آذيتمونا و قهرتمونا .. حتى يجعل الله لنا فرجاً )

فنظر لها عمر لحظة ثم قال :

( صحبكم الله )

فى هذا الموقف لمحت أم عبد الله فى نبرة صوت عمر رقة لم تعتد عليها و لين فى الكلام لم تره فيه من قبل .. فى الواقع فى تلك اللحظات كان عمر أقرب للإسلام من أى وقت مضى ..

ـــــــ

* فى أحد الأيام بعد توليه الخلافة قدمت على المدينة رفقة من التجار فنزلوا المصلى فقال عمر لعبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه :

( هل لك أن نحرسهم الليلة من السرقة ؟ )

فباتا يحرسانهم و يصليان ما كتب الله لهما فسمع عمر بكاء صبى صغير فذهب لأمه و قال لها :

( اتقى الله و أحسنى إلى صبيك )

ثم عاد إلى مكانه فلما استمر بكاء الصبى إلى أخر الليل ذهب إليها قائلاً :

( ويحك .. إنى لأراك أم سوء .. مالى أرى ابنك لا يقر منذ الليلة )

فردت قائلة :

( يا عبد الله .. قد أبرمتنى منذ الليلة .. إنى أُريغه عن الفطام فيأبى )

فقال :

( و لم ؟ )

قالت :

( لأن عمر لا يفرض إلا للفطم )

” أى لا يفرض نفقة إلا للأطفال بعد الفطام ”

فسألها :

( و كم له ؟ )

قالت :

( كذا و كذا شهراً )

قال :

( ويحك .. لا تعجليه )

فى تلك الليلة صلى عمر الفجر لا يستبين الناس قراءته من غلبة البكاء فلما سلم قال :

( يا بؤساً لعمر .. كم قتل من أولاد المسلمين )

ثم أمر منادياً فنادى :

( أن لا تعجلوا صبيانكم عن الفطام فإنا نفرض لكل مولود فى الإسلام )

ـــــــ

* فى أحد الأيام دخل عليه #عُيَيْنَة_بن_حصن فقال له :

( إيهٍ يا بن الخطاب .. و الله ما تعطينا الجزل و لا تحكم بيننا بالعدل )

فغضب عمر حتى هم أن يقع به فقال #الحر_بن_القيس إبن أخا عيينة :

( يا أمير المؤمنين .. إن الله تعالى قال لنبيه ” خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ” و إن هذا من الجاهلين )

لما سمع عمر مقالته هدأ و لم يرد بحرفاً بعدها .. كان عمر رضى الله عنه يرق قلبه لكتاب الله فإذا تلى أحدهم عليه آية منه وقف عندها و لم يتجاوز ..

ــــــــ

هذه هى رقة قلب عمر التى غمرتها شدته أحياناً و غمرها حزمه أحياناً أخرى .. رجلاً كان يبكى باستمرار من خشية الله حتى خُط فى خداه خطان أسودان من كثرة البكاء .. رجلاً كان لا يستبين الناس قراءته فى الصلاة من شدة بكاءه .. رجلاً رحم الضعيف و كان قوياً عنده حتى يأخذ حقه ممن ظلمه و أخذ على يد القوى و كان ضعيفاً عنده حتى يأخذ الحق منه .. رجلاً أسس دولة و أقر نظاماً .. رجلاً أشاع العدل بين المسلمين حتى أمن الناس على أنفسهم و أموالهم و علم كل منهم ما له و ما عليه و علموا أنهم فى عهده لا يظلمون ..

رحم الله عمر و جازاه الله عن المسلمين خير ما جازى به حاكم عن أمته ..

ــــــ

– صفات عمر لم تنتهى فما زال هناك الكثير لنعرفه عن تلك الشخصية العظيمة ..

– عمر .. كان إسلامه عزاً للمسلمين و كانت هجرته فتحاً جديداً لهم ..

– نتحدث لاحقاً عن زهد عمر و عن عدله ..

– و لكن .. تلك قصة أخرى ..

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ