الجزء السادس عشر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
* القتال لم يبدأ فى اليوم الرابع .. القتال بدأ فعلياً فى ليلة اليوم الرابع .. المعارك عادة فى ذلك الزمان كانت تحسم فى يوم واحد فإن طالت فيومين على الأكثر .. أما المعارك التى تزيد عن يومان فكانت تعتبر معارك فاصلة و تم الإعداد لها جيداً و لهذا تبرز معارك مثل اليرموك التى استمرت ستة أيام و بالطبع تبرز القادسية التى استمرت أربعة أيام .. ثلاثة أيام مضت على الفرس لم يستطيعوا فيها حسم المعركة حتى مع تعدادهم الضخم و تجهيزاتهم الأكبر .. جيش الفرس فى أقل التقديرات التاريخية كان يتكون من ثمانين ألف مقاتل و فى أكثر التقديرات مائتى ألف مقاتل جميعهم مدرعين و مدججين بالسلاح بالإضافة لإمتلاكهم ثلاثة و ثلاثون فيلاً مقاتلاً .. فى المقابل جيش المسلمين لم يتجاوز حاجز الخمسة و ثلاثون ألف مقاتل فى أعلى التقديرات و بدون سلاح نوعى مثل الأفيال و بتسليح يعتبر خفيف مقارنة بتسليح جيش الفرس .. ليس من المنطقى أبداً أن يصمد هؤلاء العرب تلك الفترة .. بالتأكيد كان هذا لسان حال #رستم_فرخزاد قائد جيش الفرس ..
ــــــ
* فى ليلة اليوم الرابع جهز رستم جيشه و أمر جنوده ألا يخرجوا للمبارزة مهما استفزهم المسلمين .. يكفيه ما فقد من قادة خلال الثلاث أيام الأولى .. لم يكن هناك أى نوع من المطاردات قبل الإلتحام .. فقط جيشان يقفان أمام بعضهما البعض .. ثلاثة عشر صفاً للفرس و ثلاثة صفوف للمسلمين .. كان الأمر جدياً حقاً و ظهر أن تحضيرات الفرس لذلك اليوم مختلفة عن الأيام السابقة .. وجوه قاسية .. واجمة .. لا يتحدثون إلى بعضهم البعض سوى بالهمهمة .. فى المقابل تعالت همهات ذكر الله من قبل المسلمين فأصبح الميدان أقرب لخلية نحل يسمع دويها من بعيد .. سميت تلك الليلة بليلة الهرير نسبة إلى تلك الهمهمات .. تركيز كامل لإنهاء المعركة فى تلك الليلة .. لم يصبروا للصباح .. إما الليلة و إما فإنها النهاية ..
هكذا فكر رستم ..
و لكم كان محقاً ..
ــــــ
* بدأ القتال فى أول الليل و استمر حتى الصباح و بات #سعد_بن_أبى_وقاص ليلته فى الصلاة و الإبتهال إلى الله لكى ينعم على المسلمين بالنصر .. قتال بطول الليل دون تحقيق نصر حاسم من أحد الطرفين كان كفيلاً بإحباط الجيش الأقوى فى العدة و العتاد .. ظهر هذا جلياً فى أسلوب القتال .. قطاعات كاملة من الفرس تميل دون تخطيط مسبق على أحد الأجنحة فلا تستطيع أن تكسر دفاعات المسلمين فيرتدوا للخلف على غير هدى فلا يستطيعون تنظيم صفوفهم بسهولة .. كان واضحاً أن اليأس تملك منهم و لم تعد هناك إستراتيجية واضحة المعالم لهجومهم .. استطاع #القعقاع_بن_عمرو_التميمى أن يرى ذلك فى وجوه القوم .. جنوداً تحارب منذ أربعة أيام بلا راحة كافية لم يستطيعوا كسر صمود المسلمين الأقل عدة و عتاداً .. بدأ الإجهاد يظهر عليهم و بدأ صبرهم ينفد حتى إن المجموعة منهم كانوا يتراجعون أمام فرد واحد من المسلمين .. بالطبع الإجهاد نال من المسلمين أيضاً إلا أنهم كانوا يملكون عنصراً هاماً لا يتوفر للفرس .. كانوا يملكون اليقين ..
ــــــ
* وقف القعقاع بين قواته صائحاً :
( إن الدَّبرة بعد ساعة لمن بدأ القوم .. فاصبروا ساعة و احملوا – أى اهجموا – فإن النصر مع الصبر .. فآثروا الصبر على الجزع )
فصاح بعض القادة فى رجالهم :
( لا يكونن هؤلاء – أى أهل فارس – أجرأ على الموت منكم .. و لا أسخى نفساً عن الدنيا )
فكثرت العبارات المثيرة للحماس و سرت بين الجنود فصاح آخرون :
( أنتم أعلم الناس بفارس و أجرؤهم عليهم فيما مضى .. فما يمنعكم اليوم أن تكونوا أجرأ مما كنتم )
و بدأ الكل يتجهز للصبر على هجوم الفرس الأخير فإنهم إن عبروا منه خارت قوى المهاجمين و رد الله الكرة عليهم و هو ما حدث حين استطاع القعقاع مع قبيلته بنى تميم فتح ثغرة فى قلب جيش الفرس حتى اقتربوا من خيمة رستم و عندها تنزلت رحمة الله على المؤمنين حيث هبت ريح عاصفة حملت الرمال فى اتجاه جيش الفرس .. ريح من شدتها اقتلعت خيمة رستم و ألقتها فى نهر العتيق فوجد الرجل نفسه و قد انكشف فهرب منها و اختبى خلف بعض البغال التى كان الفرس ينقلون عليها أحمالهم .. وصل المسلمون إلى الخيمة و كان من بينهم واحد من أبطال بنى تميم يدعى #هلال_بن_علفة_التميمى .. بحث هلال بجوار الخيمة فلم يجد رستم و بسبب الغبار الذى سببته العاصفة كان رضى الله عنه يضرب بالسيف أى عائق قد يعيق تقدمه فأصابت أحدى ضرباته حبال كانت تمسك بأحمال الفرس التى على البغال فسقطت على رستم فكسرت ظهره فصاح متالماً فسمعه هلال و تتبع الصوت حتى وجده و هو يزحف نحو نهر العتيق محاولاً الهرب فأمسك به و قتله ثم صعد على سريره و صاح بعبارته المشهورة :
( قتلت رستم و رب الكعبة )
و ما أن قالها حتى ارتفعت معنويات المسلمين لعنان السماء و خارت قوى الفرس و صاروا يفرون إلى الخلف محاولين الوصول إلى الجسر الذى نصبوه على النهر قبل أن يلحق بهم المسلمين ..
ــــــ
تخيلوا المشهد .. #الجالينوس أبرز قادة الفرس الباقين يرفع رايتهم عالياً ليأمر جيشه بالإنسحاب و التحصن بالمدائن .. جنود الفرس تفر هاربة فيصطدم بعضهم ببعض .. بعض الجنود يخلعون دروعهم التى كانت تُثقل حركتهم و تعيقهم عن الهرب .. يقع المئات من العرب الموالون للفرس فى الأرض بينما يحاولون الفرار بسبب السلاسل التى تم ربطهم بها .. يسقط المئات فى النهر بسبب التزاحم على الجسر .. يفر الآلاف بمحاذاة النهر محاولين إيجاد نقطة ليهربوا منها .. كل ذلك يحدث و فرسان المسلمين يتبعونهم فيقتلون من تطاله أيديهم .. قتل من الفرس فى تلك المعركة قرابة الأربعين ألفاً حسب أغلب التقديرات و استشهد من المسلمين قرابة الثمانية آلاف و خمسمائة شهيد و هو أكبر عدد من الشهداء فى فتوحات المسلمين الأولى .. إن تخيلت المشهد لعلمت أننا أمة عظيمة و أنه كان لتلك الأمة رموزاً و رجال و لكن الكثير من أبناء جيلنا يجهلونهم لا أكثر .. رحم الله المسلمين الأوائل فقد تحملوا ما لا يطيق جيلنا حتى تخيله لكى ننعم الآن بنعمة الإسلام ..
ــــــ
* فى ذلك الوقت كان عمر رضى الله عنه يخرج كل يوم على أبواب المدينة يتحسس أخبار المعركة فكان ينتظر الركبان فيسألهم عن مقدمهم و من كان مقدمه من العراق يسأله عن أخبار المعركة حتى صادف رسول سعد فسأله فرفض الرسول أن يخبره .. كان يريد أن يخبر أمير المؤمنين و لا أحد غيره و عمر لم يكن يعلم بذلك فتركه الرجل و مضى بفرسه داخلاً المدينة و عمر يتبعه مهرولاً و مُلحاً عليه فى السؤال و الرجل يرفض حتى دخلا المدينة .. أمير المؤمنين يهرول خلف أحد رعيته .. عندما دخلوا المدينة علم الرجل أن الذى كان يتبعه مهرولاً هو أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فقال له :
( لماذا لم تخبرنى أنك أمير المؤمنين رحمك الله ؟ )
فرد عمر :
( لا عليك .. أخبرنى بالخبر )
فأخبره أن الله قد من على المسلمين بالنصر و سلمه رسالة سعد بن أبى وقاص فأمسكها عمر و عيناه تذرفان و قرأ :
( أما بعد .. فإن الله نصرنا على أهل فارس ومنحهم سنن من كانوا قبلهم من أهل دينهم بعد قتال طويل وزلزال شديد .. وقد لقوا المسلمين بعُدة لم ير الراؤون مثل زهائها فلم ينفعهم الله بذلك بل سلبهموه ونقله عنهم إلى المسلمين .. واتبعهم المسلمون على الأنهار وعلى طفوف الآجام وفى الفجاج .. وأصيب من المسلمين سعد بن عبيد القارئ و فلان و فلان و رجال من المسلمين لا نعلمهم و الله بهم عالم .. كانوا يُدَوون بالقرآن إذا جن عليهم الليل دَوىَّ النحل و هم آساد الناس لا يشبههم الأسود )
قرأ عمر الرسالة على الناس ثم خطب فيهم ثم مضى ينظم شئون المسلمين فقسم الغنائم و كافىء المجتهدين من المقاتلين ثم استشار كبار الصحابة فى أهل الذمة من أهل العراق و قضى فيهم و لم يرتاح حتى أنهى كل الأمور المتعلقة بالمعركة .. رحم الله عمر فقد عاش عمره يحمل هم الأمة و يشعر بالمسئولية تجاهها ..
ــــــ
* المعارك مع الفرس لم تنتهى بالقادسية و لكنها كانت المعركة الأبرز فى مسيرة المسلمين لفتح بلاد فارس فبخسارة الفرس لتلك المعركة فتحت القرى و المدن تباعاً إما سلماً و إما حرباً حتى وصل المسلمين إلى #قطسيفون أو #المدائن عاصمة الفرس فحاصروها حتى فتحوها ثم كانت #معركة_جلولاء و التى انتصر فيها المسلمين و أجبروا الفرس على التراجع و خسارة المدن الواحدة تلو الأخرى ثم كان فتح #رامهرمز ثم فتح #تستر ثم #معركة_نهاوند و غيرهم و كلما أفاء الله على المسلمين بالنصر كلما تقاطرت الغنائم على عمر فى المدينة فكان ينظر إليها و يبكى فكان الناس يدهشون لحاله و يقولون :
( ما يبكيك يا أمير المؤمنين .. فوالله إن هذا لموطن شكر )
فكان يرد و يقول :
( والله ما ذاك يبكينى.. والله ما أعطى الله هذا قوماً إلا تحاسدوا و تباغضوا .. و لا تحاسدوا إلا ألقى بأسهم بينهم )
ثم إنه كان يردد دائماً حين توضع الغنائم بين يديه :
( اللهم إنك منعت هذا رسولك و نبيك و كان أحب إليك منى و أكرم عليك منى .. و منعته أبا بكر و كان أحب إليك منى و أكرم عليك منى و أعطيتنيه .. فأعوذ بك أن تكون أعطيتنيه لتمكر بى )
* فى كل تلك المعارك كان عمر هو المسئول الأول عن تعيين الأمراء و الوزراء و القادة و قادة الكتائب إلى أخر الأمور التنظيمية فى الجيش .. معارك عظيمة لو أننى استفضت فى وصف تضحيات المسلمين فيها لاحتجت إلى مجلدات و لكن سأكتفى بما سبق فى شق الفتوحات و سأتحول فى الأجزاء الباقية للتركيز على الصفات المعروفة عن عمر من عدل و زهد و حزم و ورع و خشية من الله خاصة و أن فتوحات الشام تم ذكرها فى سيرة سيف الله المسلول خالد بن الوليد .. الأجزاء القادمة ستكون عبارة عن قصص عن تعاملات عمر مع عامة المسلمين .. رحم الله عمر و أسكنه الفردوس الأعلى من الجنة و جمعنا به و بصحابة رسول الله ﷺ ..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ