سلسلة سيرة الفاروق عمر.. الجزء الرابع عشر

الجزء الرابع عشر
ــــــــــــــــــــــــــــــ

* خرج وفد المسلمين برئاسة #النعمان_بن_مقرن لملاقاة #يزدجرد ملك الفرس فلما وصلوا دخلوا عليه فسألهم :

( ما الذى جاء بكم و دعاكم إلى غزونا و الولوغ ببلادنا .. أمن أجل أننا تشاغلنا عنكم اجترأتم علينا ؟ )

فتكلم النعمان و قال :

( إن الله رحمنا فأرسل إلينا رسولاً يأمرنا بالخير و ينهانا عن الشر و وعدنا على إجابته خيرى الدنيا و الآخرة .. و أمرنا أن نبتدئ بمن خالفه من العرب .. فبدأنا بهم .. فدخلوا معه على وجهين .. مكره عليه فاغتبط و طائع فازداد .. فعرفنا جميعاً فضل ما جاء به على الذى كنا عليه من العداوة و الضيق .. ثم أمرنا أن نبتدئ بمن جاورنا من الأمم فندعوهم إلى الإنصاف .. فنحن ندعوكم إلى ديننا .. و هو دين حَسَّن الحسن و قبح القبيح كله .. فإن أبيتم فأمر من الشر أهون من آخر شر منه .. الجزية .. فإن أبيتم فالمناجزة .. فإن أجبتم إلى ديننا خلفنا فيكم كتاب الله .. و أقمنا على أن تحكموا بأحكامه و نرجع منكم و شأنكم و بلادكم .. و إن بذلتم الجزاء قبلنا منكم و شأنكم و بلادكم و منعناكم – أى دافعنا عنكم إن احتجتم إلينا – و إلا قاتلناكم )
فقال يزدجرد :

( إنى لا أعلم أمة فى الأرض كانت أشقى و لا أقل عدداً و لا أسوأ ذات بين منكم .. فقد كنا نوكل لكم قرى الضواحى فيكفونا أمركم .. و لا تطمعون أن تقوموا لفارس .. فإن كان غرور لحقكم فلا يغرنكم منا .. و إن كان الجهد فرضنا لكم قوتاً إلى خصبكم و أكرمنا وجوهكم و كسوناكم و ملكنا عليكم ملكاً يرفق بكم )

فقام #المغيرة_بن_زرارة فقال :

( أما ما ذكرت من سوء الحال فكما وصفت و أشد – و ذكر من سوء عيش العرب – ثم ذكر رحمة الله بهم بإرسال النبى ﷺ ثم خطب فى يزدجرد خطبة عصماء إختتمها بقوله فاختر إن شئت الجزية و أنت صاغر و إن شئت فالسيف أو تسلم فتنجى نفسك )

فأغضبت خطبة المغيرة يزدجرد فقال :

( لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكم .. لا شيء لكم عندى )

ثم صاح فى رجاله بأن يأتوا بحمل ثقيل من التراب فلما أتوا به قال لرجاله :

( احملوه على أشرف هؤلاء ثم سوقوه حتى يخرج من باب المدائن )

كان يرغب بإهانة الوفد بعد أن رأى منهم تعنتاً فى المفاوضات .. فقام #عاصم_بن_عمرو و قال :

( أنا أشرفهم )

و أخذ التراب فحمله و خرج إلى راحلته فركبها فلما وصل إلى سعد قال له :

( أبشر يا سعد .. فوالله لقد أعطانا الله أقاليد – أى مفاتيح – ملكهم )

ــــــــــ

* أمر يزدجرد جيوشه بالتحرك فجهزت الجيوش بقيادة #رستم الذى سار بجيشه حتى عسكر على نهر يسمى #نهر_العتيق و فى الجهة المقابلة عسكر جيش المسلمين و قبل أن تبدأ المعركة أراد رستم اللعب على العامل النفسى لهزيمة المسلمين فأراد أن يظهر لهم أى عز يعيش فيه الفرس و أى قوة يتحلون بها فأمر بأن يقف الجند فى صفوف على أن يتقدمها أقوى فرسانهم و أضخمهم جثماناً و سلحهم جميعاً بأعلى تسليح ممكن ثم أمر جنوده بإعداد متكئاً له يشمل سريراً مطعم بالذهب و بُسُط و وسائد مزخرفة بالذهب و الفضة فلما انتهوا من إعداد تلك الزخارف أرسل رستم إلى #سعد_بن_أبى_وقاص لكى يرسل له رسولاً يناقشه و يحاوره و لما كان أمر حقن الدماء عند المسلمين أولى و أعظم فقد رأى سعد بأن يستجيب لطلبه عسى الله أن يحقن بهذا اللقاء دماء المسلمين و أن يمن على الفرس بالإسلام فتقوى بهم شوكته فقرر أن يرسل لهم واحداً من أدهى رجال العرب و أفصحهم لساناً .. #ربعى_بن_عامر_التميمى

ــــــــــ

* ما أن وصل ربعى بن عامر إلى خيمة رستم حتى فهم ما يدور فى خلد الرجل فأراد أن يرد له الصاع صاعين و يعلمه من هم المسلمون .. فى البداية قرر الدخول عليهم بفرسه و لم ينزل من عليه ثم قرر أن يطأ البساط المرصع بالذهب بأقدام الفرس فاستوقفه جنود الفرس طالبين منه أن ينزع سلاحه فرد عليهم قائلاً :

( لو أتيتك فعلت ذلك بأمركم و إنما أنتم من دعانى للمجيء )

فعل هذا و رستم مضجع على سريره فى أخر البساط و يرى ما يحدث فأمرهم أن يتركوه يعبر فنزل من على فرسه و ربطه بوسادتين من الوسائد المنثورة على جانبى البساط بعد أن شقهما شقاً ثم أمسك رمحه فجعل يتوكأ عليه قاصداً حتى يخرب بها البساط مع كل خطوة يخطوها فلما اقترب من رستم رشق رمحه فى البساط و جلس على الأرض لا يستند إلى أحد تلك الوسائد ثم قال :

( إنا لا نقعد على زينتكم )

فسأله رستم بعد أن ظهر له عدم اكتراث الرجل بما حوله من زخارف :

( ما الذى جاء بكم إلينا ؟ )

فرد ربعى :

( الله جاء بنا .. هو بعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله .. و من ضيق الدنيا إلى سعتها .. و من جور الأديان إلى عدل الإسلام .. فأرسل لنا رسوله بدينه إلى خلقه فمن قبله قبلنا منه و رجعنا عنه و تركنا أرضه .. و من أبى قاتلناه حتى نفضى إلى الجنة أو الظفر )

فقال رستم :

( قد سمعنا قولكم .. فهل لكم أن تؤخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه ؟ )

فقال ربعى :

( نعم .. و إن مما سن لنا رسول الله ﷺ ألا نمكن الأعداء أكثر من ثلاث فنحن مترددون عنكم ثلاثاً فانظر فى أمرك و اختر واحداً من ثلاث بعد الأجل .. إما الإسلام و ندعك و أرضك .. و إما الجزية فنقبل و نكف عنك و إن احتجت إلينا نصرناك .. و إما المنابذة فى اليوم الرابع إلا أن تبدأ بنا .. و أنا كفيل عن أصحابى )

فقال رستم :

( أسيدهم أنت )

قال :

( لا .. و لكن المسلمين كالجسد الواحد بعضهم من بعض .. يُجيز أدناهم أعلاهم )

ثم انصرف ربعى بعد أن أوصل رسالته على أفضل طريقة ممكنة فها هو يستهين بالدنيا و زخارفها و ها هو يخبر رستم رسالة التوحيد و ها هو يريه أن كتاب الله و سنة نبيه هى المنهاج الذى يسير عليه المسلمين و ها هو يتحدث بلسان المسلمين أجمعين و يوضح له مدى توحدهم و كأنهم بنيان مرصوص ..

ــــــــــ

* رستم هنا سمع كلاماً عجيباً .. ما بال هؤلاء القوم لا يخشون عددنا و لا يهتمون بزخارفنا و لا يقيمون وزناً لقوتنا .. أراد رستم أن يسمع أكثر فطلب من سعد أن يرسل إليه نفس الرجل الذى جاءه أمس إلا أن سعداً رضى الله عنه أرسل إليه #حذيفة_بن_محصن فأجاب بنفس الطريقة و ما اختلف عن ربعى فى شيىء فلما انتهى من حديثه قال له رستم :

( ما قعد بالأول عنا ؟ ” يقصد ربعى ” )

فقال حذيفة :

( إن أميرنا يعدل بيننا فى الشدة و الرخاء .. و هذه نوبتى )

فقال رستم :

( و المواعدة إلى متى ؟ )

فرد حذيفة :

( إلى ثلاث )

ثم صمت لحظة و بعدها أكمل ..

( من أمس )

ملمح أخر يضيفه حذيفة إلى ما سبق و أضافه ربعى فها هو يظهر لهم مدى عدل الإسلام حتى بين عامة الجنود و المساواة بينهم فى الحقوق و الواجبات و ها هو يوضح لرستم أن المهلة تحتسب منذ زيارة أول رسول إليه و لا تعاد من البداية مع زيارة كل رسول .. لديك ثلاثة أيام فقط .. فإما الإسلام و إما الجزية و إما الحرب ..

ــــــــــ

* رستم الآن يسمع كلاماً أعجب من ذى قبله فأرسل إلى سعد لكى يرسل له رسولاً أخر فبعث له #المغيرة_بن_شعبة فأراد رستم أن يؤثر عليه معنوياً عسى أن يرجع إلى قادته فيثبط عزيمتهم .. بدأ رستم لقاءه مع المغيره بتقليله من شأن العرب و معايرته بضيق حالهم و بداوتهم التى نشأوا فيها و كيف أنهم كانوا قبائل متناثرة يُغير بعضها على بعض و يستعبد قويها ضعيفها ثم أكمل حديثه بذكر تاريخ الإمبراطورية الساسانية و كيف أن فارس كانت لها السيطرة الكاملة على ممالك و دول و كيف أنهم كانوا يساعدون العرب بإمدادهم بالطعام فى مواسم القحط .. و بينما هو يتحدث كان المغيرة يستمع إليه دون أن ينطق حرفاً فلما انتهى قال له :

( أما الذى وصفتنا به من سوء الحال و الضيق و الاختلاف فنعرفه و لا ننكره و الدنيا دول و الشدة بعدها الرخاء .. و لو شكرتم ما أتاكم الله لكان شُكركم قليلاً على ما أوتيتم .. و قد أسلمكم ضعف الشكر إلى تغير الحال )

فنظر رستم إليه قائلاً :

( يا هذا .. إنى لأرى أن ما جاء بكم إلا الجَهْد – أى ضيق حالكم – فعودوا أدراجكم و نحن نُوقِرُ لكم ركائبكم قمحاً و تمراً .. و أنا آمر لأميركم بكسوة و بغل و ألف درهم و كل رجل منكم له وِقْر من تمر و قمح و ثوبين و تعودون إلى أرضكم .. فإنى لا أشتهى قتلكم )

فوقف المغيرة و قد تغيرت ملامحه و قال :

( إن الله بعث إلينا نبيه فسعدنا بإجابته و اتباعه .. و أمرنا بجهاد من خالف أمرنا .. و أخبرنا أن من قُتل منا على دينه فله الجنة و من عاش ملك و ظهر على من خالفه .. و نحن ندعوك أن تؤمن بالله و برسوله ﷺ و تدخل فى ديننا .. فإن فعلت كانت لكم بلادكم .. و لا يدخل عليكم فيها أحد إلا من أحببتم .. و إن أبيت ذلك فالجزية عن يدٍ و أنت صاغر .. و إن أبيت فالسيف بيننا و بينكم و الإسلام أحب إلينا منهما )

فاستشاط رستم غضباً من حديثه و قال :

( و الله ما كنت أظن أنى أعيش حتى أسمع هذا الكلام منكم .. ارجع إلى قومك لا شيء لكم عندى .. و إنى أقسم بالشمس أن أدفنكم غداً فى القادسية )

ــــــــــ

* منذ تلك اللحظة علم الطرفان أنها الحرب و لا شيىء غيرها ..

– على المسلمين التجهز لواحدة من أصعب المعارك فى تاريخهم ..

– القادسية ستكون أخر المسامير فى نعش فارس ..

– بعدها لن يتبقى الكثير على سقوط المدائن ..

– و لكن .. تلك قصة أخرى ..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ