سلسلة سيرة الفاروق عمر.. الجزء الحادي عشر

الجزء الحادى عشر
ــــــــــــــــــــــــــــــ

* انتصر المسلمون فى موقعة النمارق و استمر زحفهم حتى وصلوا إلى منطقة تسمى كُسكر و فيها وقعت معركة حامية الوطيس مع جيش الفرس أفاء الله على المسلمين فيها بالنصر .. المعركة كانت مؤشراً إيجابياً لصالح المسلمين .. الفرس انهزموا فى تلك المعركة بجيشان كان أولهما جيش #جابان و ثانيهما جيش #الجالينوس و الذى أتى لنصرة الجيش الأول فانهزم هو الآخر و فر عائداً إلى المدائن ..

ـــــــ

* برجوع الجالينوس إلى المدائن منهزماً بدأ الفرس فى التذمر و بدأ يظهر جلياً أنه إذا لم يتم إحراز نصراً قريباً فقد تنكسر معنويات الجند تماماً .. لاحظ أننا نتحدث هنا بعد أن فتح المسلمون القسم الغربى للعراق كاملاً بقيادة خالد بن الوليد حتى استكمل الفتوحات القائد #أبو_عبيد_بن_مسعود_الثقفى و معاونه #المثنى_بن_حارثة .. كانت المؤشرات تشير إلى قوة المعركة القادمة .. #رستم القائد العام لجيش الفرس أخذ إحتياطه جيداً تلك المرة .. حشد جيشاً مؤلف من سبعين ألفاً و أرسله تحت قيادة قائد عظيم من قادة الفرس يدعى #بَهمن_جاذَويه و أمره بأن يعسكر قرب نهر الفرات و أرسل معه راية كسرى التى لم تكن تخرج سوى مع الملوك و كانوا يسمونها #درفن_كابيان و هى راية عظيمة فى حجمها ترى على مسافة كبيرة و كان الفرس يتيمنون بها و لم يكتفى رستم بعوامل التفوق تلك و إنما أضاف لجيشه أكثر من عشرة أفيال .. تلك الظروف كانت مقدمة لمعركة عظيمة سميت تاريخياً بمعركة الجسر أو #معركة_جسر_أبو_عبيد ..

ـــــــ

* الفرس كانوا مهرة فى بناء الجسور و قد وصلوا و عسكروا قبل وصول المسلمين فقاموا ببناء جسراً يربط الضفتين ببعضهما و كان ذلك ضمن خطتهم .. لعبوا على العامل النفسى للعرب .. العرب كانوا معروفون بشجاعتهم و جرأتهم على القتال .. كانت الشجاعة بالنسبة لهم أمراً لا يقبل الإنتقاص منه .. كانوا يعتبرون الخوف مسبة يجب إثبات عكسها حتى و إن كان فيها هلاكهم .. كان هذا بالضبط ما رغب به بهمن و من قبله رستم ..

* أرسل بهمن جاذويه رسولاً إلى المسلمين حاملاً لهم رسالة مفادها :

( إما أن نعبر إليكم و إما أن تعبروا إلينا )

فأتى الرد مثلما توقع الفرس تماماً .. أخذت الحمية أبو عبيد فقال لأصحابه :

( و الله لا أتركهم يعبرون فيقولون إنا جَبُنا عن لقائهم )

فما أن سمع الصحابة ما قاله حتى تشاوروا فيما بينهم و اجتمعوا على عدم العبور إليهم و قالوا :

( كيف تعبر إليهم و تقطع على نفسك خط الرجعة فيكون الفرات من خلفك ؟ )

و كان العرب معتادين فى معاركهم على أن يتركوا خلفهم طريقاً إلى الصحراء فتكون فيه نجاتهم إذا وقعت الهزيمة لكن على ما يبدو أن ثلاث إنتصارات متتالية للمسلمين تحت قيادة أبو عبيد و أيضاً بسبب حميته و رغبته فى إعزاز المسلمين فى أعين الفرس فإنه قد أصر على رأيه ..

ناقشه الصحابة مرة أخرى و ذّكروه بوصية #عمر_بن_الخطاب له بضرورة الأخذ برأى الصحابة و هو ما كاد أن يؤتى ثماره .. كل تلك المشاورات كانت تحدث أمام أعين رسول الفرس الذى كان يقف مستمعاً لنقاشهم فلما رأى أبو عبيد و قد بدأ يلين استغل الفرصة ليصل لمبتغاه فقال له :

( أيها القائد .. إنهم يقولون إنكم جبناء و لن تعبروا إلينا أبداً .. فهل هذا قراركم النهائى ؟ )

فرد أبو عبيد و هو ينظر إللى الصحابة :

( إذاً نعبر إليكم .. و الله لا نكون عندهم جبناء أبداً )

أخطأ أبو عبيد مرتين فى تلك المعركة .. أولاً عندما سمح بالمشاورة أمام رسول الفرس الذى استغل اختلاف المسلمين و ثانياً عندما تشبث برأيه خلافاً لرأى الصحابة الكرام و خلافاً لوصية عمر .. الجسر الذى بناه الفرس بأنفسهم حقق هدفه تماماً ..

ــــــ

* لما هم المسلمين بالعبور أخلى الفرس لهم مساحة صغيرة لا تكاد تكفيهم فتكدس المسلمين فيها مما أعاقهم عن تنظيم أنفسهم فما كان من المثنى بن حارثة إلا أن حذر أبو عبيد مرة أخرى قائلاً له :

( يا أبا عبيد .. إنما تلقى بنا إلى الهلكة .. فانظر إن رأيت أن نتراجع الآن )

إلا أن أبو عبيد كان يصر معتمداً على شجاعة المسلمين و خفة حركتهم و قوة خيولهم مقارنة بخيول الفرس .. كان هذا ليكون مجدياً نسبياً حتى مع صعوبة الظروف التى كان فيها المسلمين .. كان هذا ليكون مجدياً لولا المفاجأة التى أذهلت المسلمين .. عشرة أفيال عملاقة يتوسطهم فيل أبيض كان أضخمهم تخرج إليهم من بين صفوف الفرس .. لم يعمل المسلمين حساباً لهذا العدد من الأفيال .. بالطبع واجه المسلمين أفيالاً مع الفرس من قبل و لكنهم كانوا فيلاً أو إثنين .. أما هذا العدد فقد كان كبيراً بالفعل .. الأفيال كانت عاملاً حاسماً بالفعل فى المعركة .. خيول المسلمين كانت تهاب الهجوم عليها بسبب حجمها الكبير و أيضاً لأن الفُرس كان يحيطون رقاب الأفيال بالأجراس فكانت كلما تحركت أصدرت صليلاً يرهب الخيول فتهرب إلى الوراء ..

* الآن اتضح حجم المكيدة التى أعدها الفرس للمسلمين .. هناك جسراً صغيراً لا يسمح بالإنسحاب المنظم .. هناك مساحة ضيقة لا تعطى الجيش حريته فى القتال .. هناك أفيالاً ساهمت فى فقدان المسلمين لأهم عوامل تفوقهم و هو سلاح الخيالة .. هناك الغدر و الخديعة فالفرس لم ينتظروا المسلمين لكى ينظموا صفوفهم و إنما أطلقوا أفيالهم و خيالتهم سريعاً .. حدث بالضبط ما كان يخشاه الصحابة ..

ـــــــ

* قبل المعركة رأت زوجة أبو عبيد رؤيا أن رجلاً نزل من السماء بإناء فيه شراب فشرب أبو عبيد و ابناءه و ناسٌ من أهله فلما أخبرته بها أولها بأنها الشهادة .. و كان عمر قد أوصاه بأن تكون القيادة بعده للمثنى بن حارثة أو سليط بن قيس و لكن تلك الرؤيا أوحت لأبو عبيد بأن يسمى أقاربه على القيادة بعده فجمع الناس و قال لهم :

( إن أنا قتلت فعلى الناس فلان ثم فلان ثم فلان حتى انتهى من ذكر السبع أسماء التى أخبرته بها زوجته و كانوا جميعاً من قبيلته بنى ثقيف و كان بينهم أخوه و ابناؤه الثلاث )

ثم أكمل :

( فإن مات السبعة فعلى الناس المثنى بن حارثة )

و هنا يبرز موقف أخر للمثنى بن حارثة حيث أنه لم يرفض ذلك الأمر و لم تأخذه الحمية لنفسه خاصة و أن من ولاه نيابة الجيش كان عمر و لكنه رضى أن يكون ثامن القادة دون أن يسأل حتى عن السبب و هو الذى رضى مسبقاً أن يكون نائباً لخالد بن الوليد رغم أنه من أهل العراق و من أدرى الناس بطبيعة أرضها و لكنه رضى بهذا دون إثارة مشاكل قد تضرب استقرار و وحدة الجيش .. رحم الله المثنى و جزاه الله خيراً عن أمة المسلمين ..

ــــــــ

* لما اشتد القتال أصر أبو عبيد على الإستمرار و عدم التراجع .. كان يحارب حباً فى الشهادة أولاً و أيضاً لكى لا يهجم الفرس عليهم من الخلف فى حالة إنسحابهم فيبيدوا الجيش عند الجسر .. أقوى أسلحة الفرس كانت الأفيال فقد أضرت كثيراً بالمسلمين فلما رأى أبو عبيد أذاها قال :

( دلونى على مقاتل الأفيال )

فأشاروا عليه أنها تموت إذا قطعت مشافرها – أى خراطيمها – فأمر فرقة من المسلمين أن تهاجم الأفيال و تقطع أحزمتها و تُسقط عنها أهلها – أى راكبيها – و هو بالفعل ما تحقق فهجمت فرق المسلمين على الافيال و أسقطت من كان عليها و هاجم أبو عبيد الفيل الأبيض بنفسه و قطع حزامه و قتل قائده و لكن الفيل كان مدرب تدريباً عالياً و لم يستطع قتله فتراجع محاولاً إيجاد طريقة لقتله و قرر الهجوم مرة أخرى فقال له الناس :

( يا أبا عبيد .. إنما تلقى بنفسك إلى التهلكة و أنت الأمير )

فرد قائلاً :

( و الله لا أتركه .. إما يقتلنى و إما أقتله )

ثم واصل هجومه عليه محاولاً قطع خرطومه إلا أن الفيل كان عظيم الحجم بالفعل و كان إذا وقف على قدميه الخلفيتين صار كأنه كائناً أسطورياً من كبر حجمه و فى أحد تلك المرات دفع الفيل أبو عبيد فأسقطه أرضاً ثم رفع قدميه الأماميتين و سقط بهما عليه فسحقه فتسلم الراية من بعده أخوه و استمر فى الهجوم على الفيل فنال الشهادة بنفس الطريقة و استمر انتقال القيادة بين من سماهم أبو عبيد حتى استشهدوا جميعاً حتى وصل الأمر إلى المثنى الذى كان بالفعل قد وضع خطة انسحاب تضمن للجيش الحفاظ على ما تبقى منه و بدأ بالفعل فى تنفيذها إلا أن أحد المسلمين يدعى #عبد_الله_بن_مرثد_الثقفى لم يكن يعلم بأمر الخطة فلما رأى الجنود تتراجع لعبور الجسر ظنهم يهربون من القتال فقام بقطع حبال الجسر صارخاً فيهم :

( و الله لا يفر المسلمون من المعركة فقاتلوا حتى تموتوا على ما مات عليه أمراؤكم )

فضغط الفرس المسلمين أكثر و نالوا منهم شر منال فجاء الناس بعبد الله بن مرثد للمثنى فضربه و قال له :

( ماذا فعلت بالمسلمين ؟ )

فقال :

( إنى أردت ألا يفر أحداً من المعركة )

فقال المثنى :

( ما كان هذا فراراً و إنما كانت خطة لحفظ دماءنا )

و استطاع المثنى اصلاح الجسر فى وقت قياسى عن طريق بعض الفرس الذين كانوا قد أسلموا ثم وقف بين الناس قائلاً :

( عباد الله .. إما النصر و إما الجنة .. يقف أشجع المسلمين على الجسر لحمايته حتى يعبر الجيش )

فاستطاع بكلماته إثارة حماس المسلمين و تقدم العديد من صحابة رسول الله لحماية الجسر كان على رأسهم المثنى نفسه حتى عبر باقى الجيش و بينما كانت الجنود تعبر الجسر كان ينادى المثنى فيهم :

( أيها الناس .. اعبروا على هيئتكم و لا تفزعوا .. فإنا نقف من دونكم .. و الله لا نزايل – أى نترك المكان – حتى يعبر أخركم )

و ظل المثنى و من معه يقاتلون عن الناس حتى عبروا جميعاً و كان هو – أى المثنى – أخر من عبر الجسر من المسلمين بعدما ضمن نجاة خمسة آلاف مقاتل من أصل عشرة آلاف .. رحم الله المثنى و أسكنه الفردوس الأعلى ..

ــــــــ

* مات من جيش المسلمين قرابة الخمسة آلاف مقاتل و تراجع من الناجين حوالى آلفان ناحية المدينة و بقى مع المثنى ثلاثة آلاف مقاتل فقط و قد تداركتهم رحمة الله أنه قد حل المساء بعدما عبر المسلمين الجسر فعسكر الفرس انتظاراً للصباح و هو ما ساعد المسلمين على الإنسحاب و فى الصباح اكتملت رحمة الله بالجنود حيث تراجع جيش الفرس إلى المدائن و لم يستمر فى تتبع المسلمين و لو كانوا تبعوهم لكانوا استطاعوا استعادة الاراضى التى خسروها غرب العراق و لكن الله ألقى فى قلوبهم الوهن و حب الدنيا ..

* جيش الفرس كان ينقسم إلى فرق و كل فرقة كانت تدين بالولاء لأحد قادة الجيش .. فهؤلاء يتبعون الفيرزان و هؤلاء يتبعون جابان و هؤلاء رجال بهمن جاذوية و الجزء الأكبر كان يتبع رستم و هذا الجزء خشى على قائده المتواجد فى القصر الأبيض وحده دون حراسة كافية و أنه إذا طال القتال فى العراق فقد يميل عليه أحد رجال القادة الآخرين فيقتله و يستولى على الحكم .. كانت علاقة القادة و الجند يشوبها الكثير من عدم الثقة و بذلك أوقع الله بينهم فتراجعوا دون أن يميلوا على المسلمين ..

ـــــــــ

– الخبر سيصل عمر و هو على المنبر

– عمر سيحفز الناس مرة أخرى

– لينتقمن المسلمين من الفرس أشد انتقام

– القادسية على الأبواب

– و لكن .. تلك قصة أخرى ..

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ