الجزء الثالث :
ـــــــــــــــــــــ
* الصلح بين جيشا مكة و المدينة قد تم .. إن هى إلا أياماً حتى يسمع معاوية بما حدث .. فلعله يبايع علىّ وقتها .. و عندها .. عندها فقط فلننتظر موتنا ..
إن مر الغد دون أن نجد مخرجاً لكان هلاكنا مؤكد ..
ـــــ
* كان هذا لسان حال أئمة الفتنة و هم يتشاورون فى كيفية الخروج من هذا المأزق حتى إنتهوا إلى فكرة إنشاب الحرب من جديد .. قضوا ليلتهم فى تجهيز أنفسهم .. أكثر من ألفان من الفرسان .. قسموا أنفسهم إلى فرق خرجوا جميعاً قبل صلاة الفجر مقتحمين معسكر جيش مكة .. لم يخلوا الأمر طبعاً من ترديد الهتافات المعادية لإثبات أن من قام بالهجوم هم جند علىّ .. فزع النائمين من نومهم فإذا بالناس بين قتيل و جريح فهرعوا إلى السلاح ظانين أن ما حدث كان بتوجيه من #علىّ_بن_أبى_طالب رضى الله عنه .. و بالرغم من أن منادى أمير المؤمنين راح ينادى فى الناس أن يكفوا أيديهم إلا أن لا أحد استمع ..
ـــــ
* نشبت الحرب و اشتد القتال و الدماء تسيل فى كل مكان و علىّ بن أبى طالب يبكى و يلوذ بإبنه الحسن و يقول :
( يا حسن .. لوددت أنى مت قبل هذا بعشرين سنة )
ثم يكمل :
( اللهم ليس هذا أردت .. اللهم ليس هذا أردت )
إنتهت المعركة بمقتل الزبير و طلحة رضى الله عنهما فرثاهما علىّ و حزن عليهما حزناً شديداً حتى إنه رفض أن يقابل قاتل الزبير رضى الله عنه و قال فيه :
( بشر قاتل بن صفية النار )
ـــــ
* أما عن السيدة عائشة فقد بايعت علىّ بن أبى طالب و فى المقابل حرص هو على إكرامها و أسكنها أفخم دور البصرة و لما أرادت الرجوع لمكة أرسل معها 40 من أشرف نساء البصرة و أرسل معها أخاها محمد بن أبى بكر و خرج بنفسه لوداعها و معه إبناه الحسن و الحسين و قبل أن تعود إلى مكة خطبت فى الناس قائلة :
( لا يعتب بعضنا على بعض .. إنه و الله ما كان بينى و بين علىّ فى القدم إلا ما يكون بين المرأة و أحمائها – أى أقارب زوجها – و إن علياً لمن الأخيار )
فقال رضى الله عنه :
( صدقت .. و الله ما كان بيني و بينها إلا ذاك .. و إنها لزوجة نبيكم فى الدنيا و الآخرة )
حان وقت التحرك نحو دمشق ..
حان وقت مبايعة معاوية ..
ـــــ
* بعث علىّ إلى #معاوية يطلب منه البيعة و يحذره أن لا يشق عصا المسلمين .. فيرد معاوية بطلبه تسليمه قتلة #عثمان أولاً قبل البيعة أو يقتلهم الخليفة بنفسه .. قد يظن البعض أن معاوية رفض مبايعة علىّ رغبة منه فى الإستئثار بالخلافة و هذا غير صحيح أبداً فمعاوية رضى الله عنه لم يثبت عليه أن طلب الخلافة و لو مرة واحدة .. إنما رفضه للمبايعة جاء بعد أن أرسلت إليه السيدة #نائلة_بنت_الفرافصة رضى الله عنها زوجة أمير المؤمنين عثمان قميصه الذى قتله المنافقين و هو يرتديه بالإضافة لأصابعها التى قطعوها و هى تحاول الدفاع عنه و قالت له :
( أنت ولى الدم )
بهذا أصبح لمعاوية الحق الشرعى فى المطالبة بالقصاص من القتلة .. الإختلاف الوحيد هنا هو توقيت البيعة .. حتى تطالب بالقصاص يجب عليك أن تبايع أولاً .. أما معاوية فكان يطالب بالقصاص قبل البيعة لا بعدها .. وضع مثل هذا لم يكن ليقبل به و إلا أصبح سنة يسير عليها كل من يريد الخروج على الخليفة .. الحل إذاً كان تسيير الجيوش إلى دمشق .. وصلت أخبار تحرك جيش الكوفة إلى معاوية فجمع رؤوس القوم و استشارهم فأشاروا عليه بالخروج لملاقاتهم و تلاقوا بالفعل قرب نهر الفرات فى منطقة تسمى #صِفّْيِن ..
ـــــ
* قيل إن المعركة استغرقت 3 أشهر و الإشتباكات فيها كانت بصورة شبه يومية ما عدا شهر المحرم فقد توقف القتال خلاله .. أصعب فترات القتال كان الأسبوع الأخير و قد ظهر أن القوتان متعادلتان تقريباً و لا يبدو أن نصراً وشيكاً يلوح فى الأفق .. إستمرار القتال بهذا الشكل ينبىء بهلكة المسلمين و هو ما دعا بعض العقلاء أن يتدخلوا .. أول من جهر بالموادعة كان #الأشعث_بن_قيس_الكندى رضى الله عنه و كان ضمن جيش الكوفة فوقف يخطب فى قومه قائلاً :
( قد رأيتم يا معشر المسلمين ما قد كان فى يومكم هذا و ما قد فنى فيه من العرب .. فوالله لقد بلغت من السن ما شاء الله أن أبلغ فما رأيت مثل هذا اليوم قط .. ألا فليبلغ الشاهد الغائب أنا إن نحن تواقفنا غداً إنه لفناء العرب و ضيعة الحرمات .. أما و الله ما أقول هذه المقالة جزعاً من الحتف .. و لكنى رجل مسن أخاف على النساء و الذراري غداً إذا فنينا .. اللهم إنك تعلم أنى قد نظرت لقومى و لأهل دينى فلم آل .. و ما توفيقى إلا بالله )
خطاب مثل هذا وصل بطريقة ما إلى معسكر معاوية ..
كان لابد له من رد ..
و لكم كان جميلاً ..
ـــــ
* سمع معاوية مفاد الخطاب فقال :
( أصاب و رب الكعبة .. لئن نحن التقينا غداً لتميلن الروم على ذرارينا و نسائنا .. و لتميلن أهل فارس على نساء أهل العراق و ذراريهم .. و إنما يبصر هذا ذوو الأحلام و النُّهى .. اربطوا المصاحف على أطراف القنا )
فخرجت النداءات من معسكر أهل الشام :
( يا أهل العراق .. من لذرارينا إن قتلتمونا .. و من لذراريكم إن قتلناكم .. الله الله فى البقية )
و إذا بهم قد رفعوا المصاحف على رؤوس الرماح و هم ينادون :
( يا أهل العراق .. كتاب الله بيننا و بينكم )
فقال الأشعث لأمير المؤمنين :
( أجب القوم إلى كتاب الله فإنك أحق به منهم و قد أحب الناس البقاء و كرهوا القتال )
فقال علىّ رضى الله عنه :
( إن هذا أمرٌ يُنظر فيه )
فلما تأخر الرد ظن أهل الشام أن أهل العراق إعتقدوا أنهم خائفين من القتال فأمر معاوية #عبد_الله_بن_عمرو_بن_العاص أن يخاطبهم و كان فصيحاً فوقف بين الجيشين و قال :
( يا أهل العراق .. أنا عبد الله بن عمرو بن العاص .. إنها قد كانت بيننا و بينكم أمور للدين و الدنيا فإن تكن للدين فقد و الله أعذرنا و أعذرتم .. و إن تكن للدنيا فقد و الله أسرفنا و أسرفتم .. و قد دعوناكم إلى أمرٍ لو دعوتمونا إليه لأجبناكم .. فإن يجمعنا و إياكم الرضا فذلك من الله فاغتنموا هذه الفرجة )
إن الإحتكام لكتاب الله فى ذلك الوقت كان عملاً موفقاً يسره الله على ألسنة من ساهم فيه و وافق عليه أمير المؤمنين بسعة صدره حقناً لدماء المسلمين و إصلاح بينهم ..
ـــــ
* قرر الجمعان أن يختاروا حكماً من كل فريق فكان الحكمان هما #أبو_موسى_الأشعرى من طرف جيش الكوفة و #عمرو_بن_العاص من طرف جيش الشام و قد إتفقا على أن يجلسا للحكم فى رمضان من نفس العام و كانوا وقتها فى شهر صفر عام 37 هجرياً حتى تهدأ نفوس القوم فيتقبلوا الحكم أياً كان و قد شهد إجتماعهم عشرة من كل فريق و كان نص التحكيم كالآتى :
( هذا ما تقاضى عليه على بن أبى طالب و معاوية بن أبى سفيان .. أننا نزل عند حكم الله و كتابه .. و نحيى ما أحيا الله و نميت ما أمات الله .. فما وجد الحكمان فى كتاب الله عملا به و ما لم يجدا فى كتاب الله فالسنة العادلة الجامعة غير المتفرقة )
و على الرغم مما نال من الأمة من آلام بسبب موقعة الجمل أولاً ثم موقعة صفين ثانياً إلا أن أمر الإحتكام لكتاب الله و سنة نبيه كان كفيلاً بنزع فتيل أزمة كادت تفنى المسلمين عن بكرة أبيهم إن إستمروا فى الإقتتال .. و برغم ما سبق إلا أن الأمور بدأت فى إتخاذ مسار أخر ..
هل كان يتوقع أحد أن يتم التشكيك فى أمير المؤمنين ؟
ـــــ
* الأشعث بن قيس يمر على جيش الكوفة ليقرأ عليهم نص قرار التحكيم و أثناء ما كان يمر على فريق من بنى تميم خرج له رجل يدعى #عروة_بن_جرير و قال له :
( أتُحَكِمون فى دين الله الرجال ؟ )
كلمة وجدت صداها تدريجياً فى صفوف جيش الكوفة و إعتقد فى صحتها طائفة كبيرة من الجيش و بدأوا فى التساؤل عن جدوى التحكيم من الأساس إذا كان حكم الله واضحاً لا يحتاج لتدخل بشر .. معاوية رجل رفض مبايعة الخليفة الشرعى و يجب قتاله حتى يعود لصفوف المسلمين مرة أخرى .. و بدأوا فى ترديد الكلمة التى ستجذب إليهم الكثير من المؤيدين ..
( لا حكم إلا لله )
ـــــ
* بعد وصول علىّ إلى الكوفة بدأت الإنتقادات الموجهة إليه من تلك الطائفة فى الإزدياد فكان رضى الله عنه يعظهم محاولاً توضيح الأمور لهم و كيف أن الإحتكام لكتاب الله كان هو الحل الأسلم و الأصلح للأمة فكانوا يأبون أن يستمعوا .. ذهب إليهم #عبد_الله_بن_عباس رضى الله عنه و جادلهم فأحسن جدالهم و عاد منهم بأربعة آلاف شخص تائبين و على ما يبدوا فقد أغضب هذا الأمر الباقيين منهم فبدأوا فى التعرض لأمير المؤمنين بما لا يليق به و بدأوا فى توجيه السباب إليه ثم زادوا فى غلوهم حتى قاموا بتكفيره و وجوب الخروج عليه و قتاله .. إعتزلوا الكوفة و لجأوا لمنطقة تسمى النهروان و أطلقوا على أنفسهم إسم #جماعة_المؤمنين إلا أن بخروجهم على أمير المؤمنين صارت الناس تدعوهم بالخوارج و لما شاع الإسم قبلوا به و قالوا إنما نحن خوارج على أئمة الجور و الفسق و الضعف و ما خروجنا إلا جهاد فى سبيل الله ..
ـــــ
* لم يمر وقت طويل حتى بدأ أذاهم يطول كثير من المسلمين .. بدأوا فى الإغارة على المسافرين عبر أرضهم فيسلبوا بعضهم و يتعرضوا للبعض الأخر بالسباب و التجريح .. أحد المارين كان الصحابى #عبد_الله_بن_خباب_بن_الأرت رضى الله عنه .. تعرضوا له و تجادلوا فلم يتركوه إلا و قد قتلوه هو و زوجته الحامل و ثلاث نساء أخريات من قبيلة طيء ..
تلك الفعلة كانت كافية لما سيحدث لاحقاً ..
أمير المؤمنين لم يكن ليدع هذا يمر مرور الكرام ..
ـــــ
– اللقاء قريباً فى النهروان ..
– رحلة أمير المؤمنين شارفت على النهاية ..
– فترة قصيرة و ينتهى عهد الخلافة الراشدة ..
– و لكن .. تلك قصة أخرى ..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ