ألمانيا .. معجزة إقتصادية لا تتكرر ( جـ 1 )

ألمانيا .. معجزة إقتصادية لا تتكرر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الجزء الأول :
ـــــــــــــــــــ

* بعد إنتهاء الحرب العالمية الأولى تم تحميل الإمبراطورية الألمانية أخطاء الحرب بالكامل ثم تم تجريدها من لقبها الإمبراطورى و أخيراً تم إتخاذ كل التدابير الممكنة لمنعها من إعادة تكوين إمبراطوريتها مجدداً .. شروطاً مجحفة تلك التى نصت عليها معاهدة فرساى أثرت على النمو الإقتصادى الألمانى و ضمنت تبعيته الكاملة لمعسكر الحلفاء المنتصرين فى الحرب ..

– تم تحميل ألمانيا مسئولية إشعال الحرب و عليه تم تغريمها بمبلغ 269 مليار مارك تسددها على 42 قسط سنوى ( لاحقاً تم تخفيضها إلى 112 مليار مارك فقط )

– تم تجريد ألمانيا من مستعمراتها الخارجية إضافة إلى خسارة بعض أراضيها .

– تم تقليل عدد أفراد الجيش إلى 100 ألف جندى فقط .

– تم تقييدها ب 15000 جندى للقوات البحرية مع تجريدها من غواصاتها المقاتلة .

– تم تفريغها من عنصر الكفاءة بتحديد 12 عاماً كأقصى مدة إنخراط للجنود فى الجيش و 25 عاماً للضباط .

– تم إلغاء التجنيد الإلزامى من الأساس .

– أخيراً تم منعها من إنشاء قوة جوية .

ـــــ

* بإثقالها بالديون و إجبارها على عدم تكوين جيش قوى يضمن لها قدرتها على إسترداد هيبتها مجدداً صار من شبه المستحيل على ألمانيا أن تعيد بناء نفسها مرة أخرى و إذا ما تخطينا السياق التاريخى فى العشرون عاماً التالية و ما قام به هتلر من نهضة صناعية و عسكرية فى ألمانيا مكنها من إنشاء جيش قوى و تقليل أعداد البطالة لأقصى حد إلى أخر تلك الأمور فالأثر السلبى الذى عاد على الدولة هو الهزيمة للمرة الثانية فى حرب عالمية أخرى كلفت ألمانيا كل ما تملك .. نحن نتحدث هنا عن دولة خسرت كل مقوماتها الإقتصادية تقريباً و كان مطلوباً منها أن تبنى نفسها من الصفر أو من تحت الصفر إن شئت الدقة ..

ـــــ

* المدن الألمانية كانت خراباً .. البنية التحتية فى كافة المدن الألمانية كانت شبه مدمرة .. نقص حاد فى الغذاء و الدواء .. وزعت السلع بنظام الحصص .. إنهارت قيمة الرايخ مارك لأقصى حد و ضرب التضخم كل شيء .. خسرت ألمانيا حدود ال 6 ملايين جندى و 3 ملايين مدنى فى الحرب .. و هذا بخلاف المصابين بعاهات مستديمة .. أصيب سوق العمل الألمانى بعجز كبير فى القوى العاملة .. من سيملأ هذا الفراغ .. و كيف فى تلك الظروف نتحدث عن نهضة .. النساء فى تلك المرحلة كانت لهم الأغلبية فى سوق العمل بسبب أن أغلب الرجال قتلوا فى الحرب .. صاروا هم المكون الرئيسى لسوق العمل بل إنهم حلوا محل الرجال فى المهن التى كانت حكراً عليهم سابقاً .. برز فى تلك المرحلة ما عرف تاريخياً بإسم نساء الأنقاض أو ال Trümmerfrau حيث ساهم نشاط هؤلاء النسوة فى إعادة تهيئة العاصمة من جديد بإزالتهم أنقاض المنازل و تجميعها فى تلال عالية على أطراف المدينة .. أيضاً كان لهم دوراً فى بث الروح المعنوية فى نفوس الشعب عن طريق ترديدهم لهتافات و شعارات مثل ألمانيا لا تعرف المستحيل ..

ـــــ

* عام 1949 تم تقسيم ألمانيا إلى دولتين .. ألمانيا الشرقية و قد أضحت تابعاً إلى الإتحاد السوفيتى و ألمانيا الغربية التى تبعت المعسكر الغربى بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية .. بدأت بعد هذا الإنقسام تظهر الملامح الإقتصادية لألمانيا التى نعرفها فى يومنا الحالى .. ألمانيا الشرقية إتخذت المسار الإشتراكى منهجاً لها و هو ما لم يثبت أى نجاح يذكر على مدار أربعة عقود .. أما ألمانيا الغربية فقد إتخذت المسار الرأسمالى و قد حققت نجاحاً كبيراً فى تلك التجربة .. ما يهمنا هنا هو تجربة ألمانيا الغربية بحكم أنها الأكثر نجاحاً .. ذلك النجاح الذى تحقق نتيجة عدة عوامل سنحاول توضيحها فيما هو قادم ..

ـــــ

* لودفيج إيرهارد .. إقتصادى ألمانى فذ تم تعيينه وزيراً للمالية و رئيساً للمجلس الإقتصادى بالبلاد بعد إنتهاء الحرب .. ساهم إيرهارد برؤيته فى وضع النظام الإقتصادى الذى ستسير عليه ألمانيا لتحقيق نهضتها .. إيرهارد أطلق عليه إسم نظام السوق الإجتماعى و وصفته الصحف العالمية حينها بالمعجزة الإقتصادية الألمانية بسبب الأثر السريع الذى تركه على الإقتصاد الألمانى المتهالك بشدة وقتها .. بالطبع لا يمكن إغفال دور خطة مارشال و كم الدعم الكبير الذى لاقته ألمانيا الغربية إلا أن هذا الدعم كان من الممكن ألا يأتى بنتيجة إذا لم يكن هناك أساس قوى ينظم و يدير تلك المساعدات .. نظام السوق الإجتماعى هو واضع ذلك الأساس ..

ـــــ

* دمج النظام بين التوجهين الرأسمالى و الإشتراكى حيث أخذ مزايا كل توجه و أخرجها فى صورة قوانين ساعدت فى إقالة الإقتصاد من عثرته .. لودفيج إيرهارد رسم إستراتيجيته على المحاور الآتية :

– استبدل العملة القديمة ( الرايخ مارك ) بعملة أخرى جديدة ( المارك ) لتقليل حدة التضخم و لإستعادة الألمان الثقة فى عملتهم .. كل 50 رايخ مارك تم تحويلهم إلى مارك مع إعطاء منحة لكل مواطن تقدر ب 50 مارك .

– ألغى نظام تحديد أسعار السلع و هو ما مهد الأرض لتقبل السياسات الرأسمالية المزمع تطبيقها .

– بعد تمهيد الأرض قام بتطبيق سياسات رأسمالية صريحة مثل حرية تملك وسائل الإنتاج و الإستثمار .

– إتخذ سياسات إشتراكية فى نفس الوقت و لكن بمنظور إجتماعى مثل التحكم فى أسعار الفائدة من خلال البنك المركزى و هو ما ساهم فى السيطرة على معدلات التضخم المرتفعة .

– سمح بتدخل الدولة فى سن القوانين التى تضمن مستوى معيشة الطبقة الفقيرة .

– سن قوانين تسمح بإشراك العمال فى مجالس الإدارات و هو ما قلل من تسلط أصحاب رؤوس الأموال فيما يخص حقوق العمال .

– إهتم بالمشاريع الصغيرة و متناهية الصغر لأبعد حد و وضعها كأساس للهرم الإقتصادى تليها الشركات المتوسطة و أخيراً وضع الشركات العملاقة على رأس الهرم الإقتصادى الألمانى .

– وضع برنامج لإقراض المتعطلين عن العمل بفوائد بسيطة جداً بشرط أن يكون القرض مخصصاً لبدء مشروعات جديدة لتقليل العجز فى بعض السلع و الخدمات التى احتاج لها السوق .. ساهم هذا فى تقليل نسب البطالة و تقليل معدل الإستيراد و أيضاً رفع معدل الإستهلاك و ضبط الأسعار .

ـــــ

* تطبيق النظام بالشكل السابق أسس لزيادة عدد الشركات العاملة فى السوق فى كافة المجالات فتخصصت الشركات الصغيرة و متناهية الصغر فى تصنيع قطع الغيار و المنتجات التكميلية التى تحتاجها الشركات الكبيرة فى السوق و تخصصت الشركات المتوسطة فى الإستيراد و التصدير و الصناعات المتوسطة و التى يحتاجها السوق بشكل دائم مثل المصنوعات الخشبية و المنسوجات و المنتجات الغذائية و تخصصت الشركات العملاقة فى مجالات صناعة السيارات و الأدوية و الإتصالات و المجالات التكنولوجية فأصبحت الشركات الصغيرة مورداً هاماً للشركات الأكبر حجماً لا يمكن الإستغناء عنه و هذا ساعد على تكافل الإقتصاد بالكامل و أعطى هذا النظام البديع الفرصة للقطاع الخاص للمشاركة بفاعلية فى عملية النهوض بالإقتصاد ممثلاً أغلب عربات القطار الإقتصادى مع إحتفاظ الدولة بدور قائد القطار و صاحبة العربة الأولى فيه ..

ـــــ

* فى ذلك الجزء استعرضنا لمحة تاريخية سريعة على وضع ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى و الثانية و كيف أن خسارة حربان عالميتان حولوا ألمانيا من إمبراطورية أوروبية عظيمة إلى دولة مديونة مقسمة حتى أن عاصمتها برلين قسمت إلى 4 أجزاء بعد إقتحامها من الحلفاء .. استعرضنا أيضاً الملامح الرئيسية لنظام السوق الإجتماعى حسب ما طبقه مبتكره الفذ لودفيج إيرهارد .. نتائج هذا البرنامج ستكون مبهرة بحق .. نحن نتحدث عن شعباً وصل به الحال أن يأكل الحيوانات النافقة فى الطرقات بسبب نقص الطعام فى الأسواق .. لو سألت أى إنسان على وجه الأرض عن رأيه فى هذه الأمة لقال لك أن هذا الشعب سيقتل بعضه بعضاً بمرور الوقت بحثاً عن قوت يومه .. إلا أن ذلك لم يحدث .. على الرغم من كل التحديات التى ستقابل ألمانيا إلا أن إيرهارد و برنامجه الإقتصادى سيثبتان أن ما سيقوما به فى العقود التالية يعد إنجازاً فريداً من نوعه و أن مسمى المعجزة الإقتصادية الألمانية لم يأتى من فراغ ..

ـــــ

* فى الجزء القادم سنتعرف أكثر على الجارة الشرقية و كيف إستفادت ألمانيا الغربية منها .. ماذا عن هدم جدار برلين و الوحدة من جديد .. ماذا عن تحديات ما بعد الوحدة .. و الأهم .. ماذا عن الحالة المصرية و قدرتها على الإستفادة من برنامج إقتصادى عبقرى مثل نظام السوق الإجتماعى ..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* فى الصورة :
ـــــــــــــــــــــــ

الإقتصادى الألمانى لودفيج إيرهارد مبتكر نظام السوق الإجتماعى ..