رومانيا .. قصة ثورة لم تكتمل ( جـ 1 )

* فى نهاية الحرب العالمية الثانية و أثناء تراجع الجيش الألمانى نحو برلين كان الجيش الأحمر السوفييتى يعيد الإستيلاء على كل الدول التى كانت فى قبضة الألمان فى الجبهة الشرقية .. إستونيا .. لاتفيا .. ليتوانيا .. روسيا البيضاء .. أوكرانيا .. مولدوفا .. و بالطبع الدولة محور حديثنا اليوم .. رومانيا .. الإتحاد السوفييتى سيدعم الأحزاب الشيوعية فى تلك الدول و سيوصلها إلى سدة الحكم إما بالقبول العام و إما بالقوة إن لزم الأمر .. شرق أوروبا بالكامل سيصطبغ بالصبغة الشيوعية ..

* قبل ذلك بفترة و تحديداً عام 1929 فى #قرية_أراد إحدى قرى #مقاطعة_أولت عاش المزارع #لودفيتش_هانيسكو مع زوجته و عشرة أبناء .. هانيسكو كان مزارعاً يملك أرضاً زراعية مساحتها حوالى ثمانية أفدنة يزرعها ليستطيع إعالة أسرته الكبيرة .. كان متديناً بشدة بل إذا شئت الدقة قل إنه كان متشدداً .. ذلك التشدد جعل أحد أبنائه يفر هارباً من المنزل متوجهاً إلى العاصمة #بوخارست .. ذلك الإبن كان نيكولاى .. #نيكولاى_تشاوشيسكو

* هرب نيكولاى فى سن الحادية عشر .. عاش فى البداية مع شقيقته #نيكولينا و مع الوقت قرر تعلم مهنة صناعة الأحذية حتى يستطيع إعالة نفسه .. وجد وظيفة شاغرة فى ورشة #أليكساندرو_ساندوليسكو الذى كان بالصدفة أحد الأعضاء الناشطين فى الحزب الشيوعى .. نشاط الحزب كان غير مشروعاً و كان الإنضمام له يحمل مخاطرة كبيرة إلا أن نيكولاى المراهق الصغير مدفوعاً بحماسته الشديدة وجد أن أهداف الحزب الإشتراكية تتماشى مع ظروفه و هو الفقير القادم من عائلة قروية كانت بالكاد تجد قوت يومها .. قرر الإنضمام للحزب فاعتمدوا عليه فى القيام بمهام مناسبة لعمره حتى تم القبض عليه لأول مرة فى عمر الخامسة عشر ثم تكرر القبض عليه أكثر من مرة نظراً لنشاطه حتى وصل الأمر لتلقيبه من قبل جهاز الشرطة السرية #المحرض_الشيوعى_الخطير ..

* بدءاً من عام 1936 أعتقل نيكولاى أكثر من مرة بسبب نشاطه ضد النظام الحاكم و استمرت الأعتقالات حتى عام 1943 حين تم نقله إلى #معسكر_تارجيو و هناك شارك زنزانة واحدة مع #جورجى_جورجيو_ديج أبرز القادة الشيوعيين ذلك الوقت و الذى سيصير قائداً للحزب الشيوعى لاحقاً حتى وفاته عام 1965 .. نيكولاى أثار إعجاب جورجيو للغاية حتى صار ذراعه الأيمن .. فى تلك الأثناء كانت الحرب العالمية الثانية تسير عكس ما يرغب الألمان .. السوفييت يحققون إنتصارات و من الواضح أن كفة الميزان تميل أكثر إلى قوات الحلفاء .. هذا يعنى شيئاً واحداً .. مستقبل الأحزاب الشيوعية قد يكون أفضل كثيراً .. حالهم سيتغير بالتأكيد لو تحقق الإنتصار للسوفييت ..

* عام 1945 تم الإنتصار للحلفاء و صارت دول شرق أوروبا كلها تحت مظلة الإتحاد السوفييتى ما عدا رومانيا لأن شيوعيو رومانيا و على الرغم من كونهم شيوعيون إلا أنهم كانوا مختلفين فى الرؤية نسبياً عن الإتحاد السوفييتى .. التفوق السوفييتى سمح للأحزاب الشيوعية بالتفوق داخلياً بالتأكيد و كان على رأس تلك الأحزاب حزب العمال بقيادة جيورجيو ديج .. أصبح تشاوشسكو أمين إتحاد الشباب الشيوعى ثم بعد وصول الحزب للسلطة فعلياً فى 1947 صار وزيراً للزراعة ثم جنرالاً فى الجيش ثم عضواً فى المكتب السياسى للحزب .. فى تلك الفترة تزوج من #إيلينا_بيترسكو التى ستكون رفيقته طوال عمره و سيكون لها أكبر الأثر على قراراته الداخلية و الخارجية ..

* بعد وفاة جيورجيو ديج رئيس الحزب عام 1965 إنقسم المكتب السياسى على ترشيح واحداً منهم حيث كان كل منهم يرغب بإقتناص المنصب .. هنا برز إسم نيكولاى تشاوشيسكو كمرشح توافقى إتفق عليه الجميع .. حتى تلك اللحظة كان تشاوشيسكو وديعاً يسهل السيطرة عليه من المكتب السياسى و هو ما قد يكون سبباً رئيسياً فى إختيارهم له .. سيخيب ظنهم بالتأكيد حين يمسك بزمام الأمور فعلياً ..

* بعد إنتخابه كأميناً عام للحزب كان من أوائل قراراته تغيير اسم الحزب من #حزب_العمال_الرومانى إلى #الحزب_الشيوعى_الرومانى .. ثم غير إسم الدولة من #الجمهورية_الشعبية إلى #الجمهورية_الإشتراكية عام 1967 .. ثم عزز سلطته عن طريق إختراعه لمنصب #رئيس_مجلس_الدولة مما يجعله رئيس الدولة بحكم القانون .. خطوات لم يتخيل أشد المتشائمين فى المكتب السياسى أن يقوم بها ذلك الرجل اللين الذى إختاروه ..

* فى البداية رفع تشاوشيسكو شعارات القومية و الإشتراكية و رفعة رومانيا و عزتها و إستقلال رأيها .. لم يرتمى فى أحضان السوفييت و لم ينحاز إلى معسكر الغربيين .. كانت رومانيا تحت سلطته حالة متفردة و غريبة و هو ما أشعر الرومان وقتها بالفخر .. لدينا رئيساً لا ينبطح للعالم الخارجى .. أعاد إلينا ذكريات الماضى حينما كانت رومانيا إمبراطورية عظمى .. دعم شخصيته الجذابة و المتفردة بتقليل مشاركة بلاده فى #حلف_وارسو .. لم يكتفى بذلك بل أدان إجتياح السوفييت لتشيكسلوفاكيا و أعلن رفضه لذلك صراحة .. ذلك الأمر كان تحدياً مباشراً و صريحاً لسلطة الإتحاد السوفييتى .. تحديه للسوفييت جعل منه بطلاً شعبياً فى بلاده .. رفعه الرومان لمنزله لم يكن هو نفسه ليتخيلها يوماً .. تلك كانت بداية النهاية ..

* تشاوشيسكو أراد تدعيم تفوقه السياسى بتفوق أخر إقتصادى .. كيف يفعل هذا و هو يحكم دولة من أفقر دول أوروبا .. الحل السحرى كان الإقتراض .. خلال أعوام قليلة سترتفع فاتورة الدين الخارجى بشكل كبير .. كأى إشتراكى يحترم نفسه قام بتوجيه القسم الأكبر من القروض لدعم النشاط الصناعى .. إفتتاح مشروعات جديدة و إستجلاب ماكينات للمصانع القديمة بالإضافة طبعاً لدعم النشاط الزراعى .. بدأت العجلة تدور و بدأ الشعب الرومانى يشعر ببعض الرخاء .. بعد هذا لن يجرؤ أحد على إنتقاد #الكوندوكاتور أو #الزعيم كما كان يُحب أن يُنَادى ..

* تدريجياً تحول تشاوشيسكو إلى طاغية يخشاه الجميع .. جهاز الشرطة السرية #السكيوريتات حول حياة الشعب إلى جحيم .. تلاشت كل شعاراته عن الأخوة و المشاركة و تساوى الرؤوس .. صار الشعب كله يعيش فى رعب .. الجميع يخشى أن ينطق حرفاً فى حق تشاوشيسكو فتنقله عيون السكيوريتات المنتشرة فى كل مكان .. صار هناك جواسيس .. ثم صار هناك جواسيس على الجواسيس .. كان فرضاً على الجميع التصفيق و التهليل للزعيم بسبب و بدون سبب .. ليس ذلك فحسب بل يجب على المثقفين و الشعراء إعطاءه ألقاباً لا يمكن أن يقبلها عقل سوى .. عبقرى رومانيا .. مصدر الضوء .. القائد العظيم و الملهم .. المنار المضىء للإنسانية .. العبقرى الذى يعرف كل شيىء .. دانوب الفكر ” نسبة إلى نهر الدانوب ” .. إذا كنت لا تتخيل الوضع وقتها فما عليك إلا النظر لنموذج كوريا الشمالية حالياً .. دولة بوليسية بإقتدار لا تسمح بأى بصيص من الأمل فى غد مشرق ..

* على الجانب الأخر لم تكن #إلينا زوجته أقل حظاً منه فى تضخم الذات .. إيلينا المولودة لأسرة فقيرة لم يتجاوز تعليمها الصف الرابع الإبتدائى إلا أن هذا لم يمنعها من الحصول على الدكتوراه في الكيمياء الصناعية .. لم يكن ليُسمح بأن يقول الناس إن زوجة الزعيم لم تكمل تعليمها .. قبل أن تناقش أطروحتها بأسبوع تم تغيير القانون الذى ينص على أن يدافع المتقدم للدكتوراه عن أطروحته فى جلسة علنية و الإكتفاء بنسخة مكتوبة .. فيما بعد عرف الجميع أن رسالة الدكتوراه خاصتها كتبها معاونوها .. و مثل زوجها لم تكن تنادى بالرفيقة إيلينا كما هو متبع فى الدول الشيوعية بل اختصت نفسها بألقاب رنانة مثل أم الشعب أو العالمة ذات الشهرة العالمية ..

* لم تكتفى بذلك بل فرضت نفسها سياسياً فانتخبت عضوة فى اللجنة المركزية للحزب الشيوعى عام 1972 ثم عضوة فى المكتب السياسى للحزب فى عام 1973 و بدأت تدير شئون الدولة بالمشاركة مع زوجها خاصة بعدما بدأت صحته بالتدهور .. بسبب هذا تجبرت إيلينا كثيراً و بدأت غريزتها الأنثوية تحركها أكثر خاصة مع تقدمها بالعمر .. لم تكن تطيق أن تكون هناك من هى أجمل منها .. منعت إرتداء الملابس القصيرة أو وضع مساحيق التجميل فى حضورها و حجتها كانت عدم تقليد الغرب الإمبريالى الفاسد ..

* أحد أكثر القصص مأساوية هى قصة #فيوليتا_أندريه الفنانة الرومانية المعروفة .. اشتهرت فيوليتا بجمالها ما أوقع وزير الخارجية الرومانى وقتها #شتيفان_أندريه فى غرامها حتى انتهت قصة حبهما بالزواج و الذى استتبع بالضرورة حضور فيوليتا المناسبات الإجتماعية مع زوجها و هو ما أثار حفيظة إيلينا الأكبر سناً و الأقل جمالاً فقررت الإنتقام منها .. منعتها من الظهور فى المسرح و السينما .. منعتها من مرافقة زوجها فى الإحتفالات الرسمية أو حتى السفر معه فى الزيارات الخارجية .. و أخيراً حكمت عليها بالإقامة الجبرية فى منزلها .. كم معاناة غير طبيعى عاشته فيوليتا و زوجها بسبب غيرة السيدة الأولى ..

* لم يبقى إلا سرد بعض المظاهر التى حولت حياة الشعب الرومانى إلى جحيم حيث كان أغرب قرار إتخذه تشاوشيسكو هو مشروعاً أسماه #Decree770 أو #المرسوم770 الذى نص على الحمل الإجبارى .. من فرط عبقريته كان يرى أن الأمم العظيمة نمت بسبب كثرة عدد سكانها فقرر رفع عدد السكان من 23 مليون إلى 30 مليون فأصدر قانوناً يقضى بتجريم الإجهاض .. إختفت وسائل منع الحمل تماماً .. لم يعفى أى سيدة من الإنجاب إلا من تجاوز عمرها عن 45 عام .. أجبر كل نساء رومانيا على زيارة الأطباء شهرياً لمتابعة أوضاعهم .. قرار مثل هذا لم يزد رومانيا إلا أعباءاً إضافية دون أى مردود إقتصادى يذكر ..

* المظهر المأساوى الأهم كان قراره ببناء #قصر_الشعب .. المبنى الأسطورى الذى قرر بناءه لإثبات سيطرته و سطوته .. ثانى أكبر مبنى إدارى فى العالم بعد #البنتاجون .. أغلى مبنى إدارى فى العالم حيث تكلف بناءه 2 مليار جنيه إسترلينى .. استخدم فى بناءه مليون طن من الرخام .. تم بناءه على مساحة 45000 متر مربع بإرتفاع 100 متر .. احتوى على 1000 غرفة .. قام ببناءه 15000 عامل .. لكى يقوم ببناء هذا القصر قام بإزالة خُمس مساحة العاصمة بوخارست .. تم تهجير أعداداً مهولة من الرومانيين و تسكينهم فى شققاً صغيرة غير مجهزة حتى إنه لم يكن بالشقق حمامات و كانت الحمامات موجودة على مسافة 100 متر خلف المبانى .. بسبب ذلك القصر عانى الرومانيين الفقر و الحاجة و التهجير و سوء المعاملة .. تحول ذلك القصر الذى أراده تشاوشيسكو دليلاً على قوته إلى أحد أكبر الدوافع للثورة عليه ..

* ما فات كان سرداً تاريخياً للأوضاع قبل الثورة و فى الجزء القادم سيتم سرد الآثار الإقتصادية لقرارات تشاوشيسكو الغير مدروسة و آثارها على الشعب الرومانى و ما حدث فى الثورة و ما بعدها ..