سلسلة سيرة الفاروق عمر.. الجزء التاسع عشر

الجزء التاسع عشر
ـــــــــــــــــــــــــــــ

* أبرز صفات الفاروق عمر .. على مر التاريخ لم يذكر اسم عمر إلا و اقترن به صفه العدل .. كان العدل فى نظره تطبيق عملى لمفهوم الإسلام .. فالإسلام قد جاء ليساوى بين الناس فى الحقوق و الواجبات و أن يكون الحكم بينهم بالعدل .. فإذا رأى الناس أن الإسلام يحفظ حقوقهم و يجازى محسنهم و يعاقب مسيئهم أقبلوا على هذا الدين و أيقنوا أنه الدين الحق .. ربط عمر بين العدل و الدعوة إلى الله .. و تالله لقد نجح فى هذا أيما نجاح ..

ــــــــــــــ

* من أشهر القصص التى دلت على عدل عمر كانت قصته مع ابنه عبد الرحمن ..

كان #عبد_الرحمن_بن_عمر فى مصر وقت ولاية #عمرو_بن_العاص و فى أحد الأيام شرب هو صديق له يدعى #أبو_سروعة_عقبة_بن_الحارث بعض النبيذ فسكرا منه فلما أدركا ما فعلاه ذهبا إلى عمرو بن العاص يطلبا منه أن يقيم عليهما الحد فأدخلهما عمرو إلى بيته و أقام عليهما الحد فعلاً ثم بدأت الأخبار فى الإنتشار حتى وصلت إلى عمر فى المدينة فأرسل إلى عمرو بن العاص يقول :

( من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى العاص بن العاص .. عجبت لك يا ابن العاص و لجرأتك على و خلاف عهدى .. أما إنى قد خالفت فيك أصحاب بدر عمن هو خير منك و اخترتك لجدالك عنى و إنفاذ مهدى فأراك تلوثت بما قد تلوثت .. فما أرانى إلا عازلك فمسيء عزلك .. تضرب عبد الرحمن فى بيتك و قد عرفت أن هذا يخالفنى ؟ .. إنما عبد الرحمن رجل من رعيتك تصنع به ما تصنع بغيره من المسلمين .. و لكن قلت .. هو ولد أمير المؤمنين .. و قد عرفت أن لا هوادة لأحد من الناس عندى فى حق يجب لله عليه .. فإذا جاءك كتابى هذا فابعث به فى عباءة على قتب حتى يعرف سوء ما صنع ” القتب هو رحل صغير على قدر السنام و هو للجمل كالسرج للفرس ” )

* لما وصل عبد الرحمن إلى المدينة جلده عمر بن الخطاب بنفسه أمام الناس تأديباً له و أيضاً لمكانه منه و كان رضى الله عنه إذا نهى الناس عن شيء جمع أهله و قال لهم :

( إنى قد نهيت الناس عن كذا و كذا .. و إنهم إنما ينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم فإن وقعتم وقعوا و إن هبتم هابوا .. و ايم الله لا أوتَى برجل منكم فعل الذى نهيت عنه إلا أضعفت عليه العقوبة لمكانه منى فمن شاء فليتقدم و من شاء فليتأخر )

هكذا كان عمر رضى الله عنه .. يضاعف العقوبة لأهل بيته و يرفض أن يتم عقابهم سراً لقربهم إليه و يعاقبهم بنفسه علانية أمام الناس فى الساحة العامة للمدينة حتى ينتشر بين الناس أن القانون يمضى على الجميع و أنه ليس هناك وساطة أو قرابة لأحد فى حد من حدود الله .. كل هذا حدث من عمر على الرغم من أن عبد الرحمن لم يشرب خمراً و إنما نبيذاً و ظن أن ما سيشربه منه لن يسكره فلما أسكره طلب بنفسه إقامة الحد عليه بل و تم إقامة الحد فعلاً و لم يتم التغاضى عن العقوبة .. كل هذا كان ليغنى عن عبد الرحمن مضاعفة العقوبة و لكنه كان عمر ..

ــــــــــــــ

* أيضاً موقفه الشهير مع عمرو بن العاص أيضاً حينما تسابق ابنه مع أحد الأقباط فهزمه القبطى فاغتاظ ابن عمرو بن العاص و ضربه بالسوط و هو يقول :

( أنا ابن الأكرمين )

فذهب القبطى إلى عمر و قال :

( يا أمير المؤمنين .. عائذ بك من الظلم )

فقال عمر :

( عذت معاذاً )

فلما أخبره بالخبر كتب إلى عمرو يأمره بالقدوم و أن يأتى بإبنه معه و لما واجههم بالأمر و تبين له صدق الرواية أمسك السوط و قال موجهاً كلامه إلى القبطى :

( خذ السوط فاضربه )

فضربه و عمر يتابع ما يجرى و يقول :

( اضرب ابن الأكرمين )

فلما انتهى قال له عمر :

( ضع السوط على صلعة عمرو )

فقال القبطى :

( يا أمير المؤمنين .. إنما ابنه الذى ضربنى و قد استقدت منه ” أى اقتصصت منه ” )

فالتفت عمر إلى عمرو بن العاص و قال :

( مذ كم تعبدتم الناس و قد ولدتهم أمهاتهم أحراراً ؟ )

فقال :

( يا أمير المؤمنين .. لم أعلم و لم يأتنى )

ــــــــــــــ

* رواية أخرى عن عدله حين أمر أحد جيوشه بغزو بلاد فارس فانتهوا إلى أحد الأنهار فأمر أمير الجيش أحد جنوده أن ينزل ليختبر عمق المياه و كان اليوم شديد البرودة فقال الرجل :

( إنى أخاف إن دخلت الماء أن أموت )

فأصر أمير الجيش فدخل الرجل مكرهاً فسمعه بعض الجنود يقول قبل أن يصل إلى الماء :

( يا عمراه .. يا عمراه )

فلما مات بلغ عمر ما حدث فغضب مما حدث و راح يقول :

( يا لبيكاه .. يا لبيكاه )

ثم بعث إلى أمير ذلك الجيش و نزعه من إمارته ثم قال له :

( لولا أن تكون سنة لقَدَتْ منك .. لا تعمل لى عملاً أبداً )

ــــــــــــــ

* لم يكن الموقف السابق فقط الذى يدل على متابعة عمر لمرؤوسيه فقد روى أنه كان يأمر عماله أن يوافوه بالمواسم فإذا اجتمعوا له جمع الناس و أشهدهم عليهم قائلاً :

( أيها الناس إنى لم أبعث عمالى عليكم ليصيبوا من أبشاركم و لا من أموالكم إنما بعثتهم ليحجزوا بينكم و ليقسموا فيئكم بينكم فمن فُعل به غير ذلك فليقم )

فلم يقم إلا رجل واحد قال :

( يا أمير المؤمنين .. إن عاملك فلان ضربنى مائة سوط )

فلما تبين عمر من الأمر قال :

( قم فاقتص منه )

فقام عمرو بن العاص فقال :

( يا أمير المؤمنين .. إنك إن فعلت هذا يكثر عليك و يكون سنة يؤخذ بها من بعدك )

فقال عمر :

( أنا لا أُقيد و قد رأيت رسول الله يقيد من نفسه ؟! )

قال :

( فدعنا فلنرضه ” أى يدفع أموالاً مقابل السياط ” )

قال :

( دونكم فأرضوه ” أى شأنكم به ” )

فاقتدى منه بمائتى دينار .. كل سوط بدينارين .. و لو لم يرضوه لأقاده ..

ــــــــــــــ

* مظهر أخر من مظاهر عدل عمر تجلى حين قدم إلى مكة حاجاً فاستقبله #صفوان_بن_أمية و كان من سادة قريش فى الجاهلية فأتى له بطعام فى جفنة يحملها أربعة من الخدم فوضعوها ثم انصرفوا فلما رأى عمر ما رأى قال :

( أترغبونه عنهم ؟ )

فقال صفوان :

( لا و الله يا أمير المؤمنين و لكننا نستأثر عليهم ” أى نخص بها أنفسنا دونهم ” )

فغضب عمر غضباً شديداً و قال :

( ما لقوم يستأثرون على خدامهم فعل الله بهم و فعل )

ثم قال للخدام :

( اجلسوا فكلوا )

فجلس الخدام يأكلون و لم يأكل عمر نفسه و انتظر حتى انتهوا ..

ــــــــــــــ

* عمر لم يكن يطبق العدل بين الرعية و بعضهم فقط و إنما كان يطبق العدل حتى على نفسه ففى أحد أشهر مواقف عمر التى تدل على عدله و أيضاً على خشيته من الله روى أن أنه كان يمر على الناس مستتراً فرأى عجوزاً فسلم عليها و سألها :

( ما فعل عمر ؟ )

فقالت :

( لا جزاه الله عنى خيراً )

فقال عمر :

( و لم ؟ )

فقالت :

( لأنه و الله ما نالنى من عطائه منذ ولى أمر المؤمنين دينار و لا درهم )

فقال :

( و ما يدرى عمر بحالك و أنت فى هذا الموضع .. ” و كانت السيدة تسكن فى مكان نائى ” )

قال :

( سبحان الله .. و الله ما ظننت أن أحداً يلى عمل الناس و لا يدرى ما بين مشرقها و مغربها )

فبكى عمر ثم قال :

( وا عمراه .. كل الناس أفقه منك حتى العجائز يا عمر )

ثم التفت إليها و قال :

( يا أمة الله .. بكم تبيعينى ظلامتك من عمر فإنى أرحمه من النار )

قالت :

( لا تهزأ بنا يرحمك الله )

فقال :

( لست بهزاء .. و لم يزل بها حتى اشترى ظلامتها بخمسة و عشرين ديناراً )

و بينما هو كذلك إذ أقبل #على_بن_أبى_طالب و #عبد_الله_بن_مسعود رضى الله عنهما فقالا :

( السلام عليك يا أمير المؤمنين )

فوضعت العجوز يدها على رأسها و قالت :

( وا سوأتاه .. أشتمت أمير المؤمنين فى وجهه )

فقال لها :

( لا بأس عليك رحمك الله )

ثم طلب رقعة يكتب فيها فلم يجد فقطع قطعة من ثوبه و كتب فيها :

( بسم الله الرحمن الرحيم .. هذا ما اشترى عمر من فلانة ظلامتها منذ ولى إلى يوم كذا و كذا بخمسة و عشرين ديناراً فما تدعى عند وقوفه فى المحشر بين يدى الله تعالى فعمر منه بريء )

و شهد على ذلك على بن أبي طالب و عبدالله بن مسعود و رفع عمر الكتاب إلى ولده و قال :

( إذا أنا مت فاجعله فى كفنى ألقى به ربى )

ــــــــــــــ

* دلالات عدل عمر كثيرة و الروايات التى تثبت ذلك لا يكفيها جزء من سلسلة .. بالأحرى حياة عمر تحتاج أكثر من مجرد سلسلة تاريخية .. عمر الزاهد .. العابد .. التقى .. الحازم .. الرقيق .. العادل ..

– عمر الذى علا #سعد_بن_أبى_وقاص بالدرة لما زاحم الناس على تقسيم الغنائم و هو سعد أحد العشرة المبشرين بالجنة و فاتح العراق و مدائن كسرى و الذى توفى رسول الله و هو راض عنه ..

– عمر الذى حكم بالإقتصاص من #جبلة_بن_الأيهم ملك الغساسنة بعد أن لطم أحد فقراء المسلمين ..

– عمر الذى التزم بكلمته إلى #الهرمزان قائد الفرس و لم يقتله بعد أن تم أسره وفاءاً لكلمته و تركه مقابل الإسلام ..

– عمر الذى لم يقيد حرية #أبى_لؤلؤه رغم شكه فى أمره ..

– عمر الذى حمل الدقيق على كتفيه حتى وصل إلى إحدى نساء المسلمين لم يجد عندها زاداً فطهى لها و لأطفالها الطعام ثم انتظر حتى رأى الأطفال ينامون بعد أن أسهرهم الجوع ..

– و عمر .. الذى جاءه رسول كسرى و ظن أن الناس تسخر منه حين أوصلوه لمنزله فوجده بيت من طين يعلوه شعر ماعز ليحميه من المطر حتى لا يسقط سقف البيت على من فيه .. و ظن أن الناس تسخر منه مرة أخرى حين دلوه على رجل نائم تحت ظل شجرة يلبس ثوباً تكسوه الرقع ينام على الأرض و يتوسد يده اليسرى و يضع يده اليمنى على عينه لتحميه من حرارة الشمس ..

– عمر الذى حين رآه رسول كسرى لم تصدق عيناه أن ذلك هو الرجل الذى يرتعب منه ملوك فارس حتى قال قولته الشهيرة :

( حكمت .. فعدلت .. فأمنت .. فنمت يا عمر )

ــــــــــــــ

– لم يتبقى الكثير لعمر ..

– يبدو أن قطار العمر يمضى أسرع مما يتوقع أحد ..

– أبو لؤلؤة يشحذ خنجره ذى النصلين ..

– و لكن .. تلك قصة أخرى ..