سلسلة سيرة الفاروق عمر.. الجزء الثاني عشر

الجزء الثانى عشر
ــــــــــــــــــــــــــــــ

* المثنى بن حارثة كان قائداً عظيماً ازدادت خبرته بتوالى المعارك و منذ أن كان نائباً لخالد بن الوليد فى فتوحات العراق و هو يزداد تمرساً و دراية .. تعلم على يد خالد كثير من فنون الحرب و كيفية التعامل النفسى الأمثل مع جيشه أو مع جيش عدوه .. بعد معركة جسر أبو عبيد كان التعامل النفسى مع جيش المسلمين مهماً للغاية .. إن لم تحسن التعامل مع جيشك فى حالة الهزيمة فقد يكون إنهياره مسألة وقت لا أكثر .. و مع انهياره فقد تخسر كل فتوحاتك التى حققتها .. المثنى كان عند حسن الظن به .. لازالت إختيارات عمر يجانبها الصواب ..

ـــــــ

* انهزم جيش المسلمين و استشهد نصفه أو يزيد و إضافة لذلك فقد عاد ألفان من الجنود إلى المدينة و لم يبقى مع المثنى سوى ثلاثة آلاف جندى يدافعون عن ما حققه المسلمون من فتوحات فى غرب العراق .. وصل الخبر إلى عمر و علم بأمر الهزيمة فنادى فى الناس يستحثهم على نصر اخوانهم و يرغبهم فى القتال و نيل الشهادة فلم تمر فترة طويلة حتى بدأت الإمدادات الإسلامية فى التحرك ناحية العراق .. من ناحية أخرى أرسل المثنى لأمراء المسلمين فى العراق يطلب منهم المدد فأمدوه بما استطاعوا .. تجمع لجيش المسلمين تسعة آلاف مقاتل فى وقت وجيز بخلاف الثلاثة القدامى .. جيش المسلمين أصبح إثنا عشر ألفاً ..

ـــــــ

* فى الجهة المقابلة كان الفرس مشغولون بصراعهم على الحكم .. الفرس اعتقدوا أن المسلمين قد انفرط عقدهم بهزيمتهم و أنهم بالرغم مما أثبتوه من شجاعة فى القتال إلا أنهم فى النهاية يظلوا جيشاً صغيراً من حيث العدد و يصعب عليهم إمداد أنفسهم بإستمرار .. فترة قصيرة حتى نستعيد كل الأراضى التى استولى عليها هؤلاء العرب .. كان هذا مخططهم لولا علمهم بتلك الإمدادات التى رصدتها عيونهم .. ما هذا ؟! .. هذا جيشاً قتل نصفه تقريباً منذ فترة قصيرة .. لم يتصور أحداً من الفرس أن يفكر المسلمين فى تنظيم صفوفهم بتلك السرعة خاصة بعد الهزيمة الأخيرة .. هذا دعاهم لأن يحشدوا جيشهم فى أسرع وقت ممكن و صار الأمر أشبه بسباق سرعة فى تجهيز الجيوش .. و على الرغم من معاناة الفرس من صراعات سياسية داخلية إلا أنه كان لديهم قدرة فائقة على تجهيز الجيوش فى أقصر وقت ممكن مستغلين فى هذا إتساع إمبراطوريتهم و خضوع الكثير من الشعوب تحت سلطانهم .. فى نفس الفترة التى جمع فيها المسلمين تسعة آلاف مقاتل جمع الفرس أكثر من مائة ألف جندى .. كانت وجهة الجيشان منطقة تُدعى #البُويب ..

ـــــــ

* اجتمع الجيشان ليس بينهما سوى نهر الفرات فأرسل قائد الفرس و كان اسمه #مهران_الهمذانى رسالة إلى المثنى تحوى نفس نص رسالة موقعة الجسر ..

( إما أن تعبروا إلينا و إما أن نعبر إليكم )

المثنى كان أكثر حيطة من أبو عبيد رحمه الله فأجاب الرسول بأن اعبروا أنتم إلينا ثم شرع فى بث الحماس و رفع روح جنوده المعنوية .. كان هذا أكبر تحدى واجهه حينها .. تخيل المشهد وقتها .. إثنا عشر ألف مقاتل ينظرون إلى عدوهم يعبر إليهم بعشرات الآلاف .. جيش جرار يكاد لا يرى أخره مسلح بأحدث أسلحة عصره و مدعم بأسلحة غير تقليدية مثل سلاح الأفيال .. إضافة لهذا هزيمتهم فى أخر معاركهم معاً .. مشهد مثل هذا كان كفيلاً بتحطيم معنوياتهم تماماً .. قائد المسلمين فى تلك اللحظات لابد و أن يتحلى بالفطنة و الحكمة .. إن لم يستطع المثنى استنفار همم جيشه لكانت نهايتهم بلا شك ..

ــــــــ

* فى البداية بدأ يمر على رايات المسلمين ليشجع أهلها و يطلب منهم الثبات .. بدأ يتألف قلوب جنوده و يتودد إليهم قائلاً :

( إنى لأرجو أن لا تُؤتى العرب من قبلكم – أى يتمنى أن لا يكونوا سبباً فى خذلان العرب – و الله ما يسرنى اليوم لنفسى شىء إلا و هو يسرنى لعامتكم )

ثم وقف بين الناس خطيباً عندما رأى فى أعينهم الرهبة من كثرة أعداد الفرس و قال لهم :

( أيها الناس .. إنى قد قاتلت العرب و العجم فى الجاهلية و الإسلام .. و الله لمائة من العجم فى الجاهلية كانوا أشد على من ألف من العرب .. و لمائة اليوم من العرب أشد على من ألف من العجم .. إن الله أذهب مصدوقتهم .. و وهّن كيدهم .. فلا يروعنَّكم هيئتهم و لا كثرتهم فانهم كالبهائم أينما وجهتموها اتجهت )

فلما جهز المثنى جيشه قال لهم :

( أيها الناس .. إنى مُكبر ثلاثاً فتهيأوا ثم احملوا مع الرابعة )

فما أن كبر الأولى حتى عاجله الفرس بالهجوم محاولين مفاجأة المسلمين فكانت معركة عظيمة صبر فيها المسلمون أيما صبر و أبلى فيها المثنى أحسن البلاء على مستوى القتال و على مستوى القيادة فبجانب مهارته فى القتال كان يراقب جيشه بشكل مستمر و ما أن يرى فيه خللٌ ما حتى يقوم بدعمه أو يستثير حماس الجند فى موضع الخلل فيرسل أحد الجُند إليهم فيقول :

( إن الأمير يُقرؤكم السلام و يقول لكم لا تفضحوا المسلمين اليوم )

فيستحى الجند أن يكونوا سبباً فى هزيمة المسلمين فيزداد حماسهم و يعتدل ميزان المعركة مرة أخرى على الرغم من فارق الإمكانيات .. و لم تكن تلك أخر لمحات المثنى فى المعركة فقد أثبت – رحمه الله – أنه كان صاحب الفضل بعد الله سبحانه و تعالى فى تماسك جيشه أمام هجمات الفرس المتتالية ..

ـــــــــ

* خطة المثنى كانت دفاعية فى البداية لامتصاص هجوم الفرس ثم محاولة إختراق صفوفهم على ما يقتضيه الحال وقتها و بالفعل استطاع الصمود كما سبق و أسلفنا و حان وقت تطبيق الهجوم و لكن جيش الفرس كان كبيراً بالفعل و صفوف جيشهم كانت أضعاف صفوف جيش المسلمين و يصعب اختراقها .. حان الوقت إذاً لتطبيق الحل الذى طبقه المسلمون كثيراً أمام الفرس و الروم .. أيها المسلمون .. من يبايع على الموت ؟

* فى غالبية المعارك الصعبة التى شارك فيها #خالد_بن_الوليد و كان يواجه فيها مقاومة شرسة من عدوه كان حله الأخير هو الضغط بكثافة من القلب مع فرقة من الفرسان الأشداء المبايعين على الموت أى الذين يهجمون هجمة رجل واحد إما أن ينتصروا فيها و إما أن يهلكوا دونها و المثنى رأى ذلك كثيراً بل و شارك فى تلك الهجمات أيضاً فقرر تطبيق تلك الخطة هنا ..

* جمع المثنى بعض رجاله على رأسهم #أنس_بن_هلال و #ابن_مردى_الفهر_التغلبى و أخيه #مسعود_بن_حارثة و كان قائد مشاة المسلمين و أخرين من فرسان المسلمين و أمرهم بالهجوم مرة واحدة على قلب الفرس و الذى كان يوجد فيه قائدهم مهران فضغطوا عليه حتى اهتزت صفوفهم و تداخل قلبهم على ميمنتهم فأصابتهم الفوضى .. فى تلك اللحظة استدار مسعود بن حارثة إلى رجاله و أمرهم بعدم التقدم ورائهم حتى و إن رأوا الفرقة المهاجمة قد أصيبت فإنهم إن تقدموا إنكشف جناحى المسلمين و استدار عليهم الفرس و أحاطوهم .. على ما يبدوا فإن مسعود –رحمه الله – قد شعر بما ينتظره فما هى إلا دقائق حتى أصيب إصابة بالغة فلما رآه رجاله من فرقة المشاة اضطربوا و كادوا يتراجعون فما كان منه إلا أن وقف على قدمه و نادى فيهم :

( أيها الناس .. إلزموا مصافكم .. و اغنوا غناء من يليكم .. يا معسكر بكر بن وائل .. ارفعوا راياتكم رفعكم الله .. لا يهولنكم مصرعى )

فلما أدرك المثنى مصرع أخيه صاح فى الجنود :

( يا معشر المسلمين .. لا يَرُعكم مصرع أخى فإن مصارع خياركم هكذا )

فما كان من الجيش إلا أن اعتدل مرة أخرى و حملوا جميعاً على الفرس مرة واحدة حتى انبعجت صفوفهم تماماً و تداخلت ففقد سلاح خيالتهم قدرته على المناورة فاستغلت فرقة المشاة تراجع فرسانهم فهجموا مرة أخرى حتى توغلوا فى قلبهم و قتلوا منهم آلافاً منهم قائدهم الأعلى مهران و قائد فرسانهم #شهربراز .. بتراجع قلبهم استدار بعض المسلمين من القلب و مالوا على جناحى الفرس فأصابوهم فى مقتل و شتتوهم تماماً و انتصر المسلمون فى معركة البويب على الرغم من أن ميزان القوى معنوياً و عسكرياً كان يميل تماماً لصالح العدو و كل هذا بسبب كفاءة الصحابة الكرام رضوان الله عليهم بالإضافة لحنكة و دراية قائد عظيم من قادة المسلمين لم يأخذ حقه الكافى من الشهرة للأسف يدعى #المثنى_بن_حارثة_الشيبانى ..

ـــــــ

* هزيمة لم يحسب لها الفرس حساباً .. لم يتوقعوا أنه يمكن للمسلمين أن يجمعوا جيشاً بتلك السرعة و إن جمعوا فإنهم بالتأكيد لن يجمعوا من هو بكفاءة من قتل منهم فى معركة الجسر .. هزيمة استدعت سادة و كبراء الفرس أن يجتمعوا بالقائدين الأبرز فى فارس و الذى بسبب اختلافهما فى أمور الحكم و الصراع عليه نال فارس ما نالها .. #رستم و #الفيرزان ..

إجتمع كبراء فارس بهما و قالا لهما :

( أين يذهب بكما الاختلاف حتى أوهنتما أهل فارس و أطمعتما فيهم عدوهم .. و الله ما جر هذا الوهن علينا غيركم يا معشر القواد .. لقد فرقتم بين أهل فارس و ثبطتموهم عن عدوهم .. إنه لم يبلغ من خطركما أن يقركما فارس على هذا الرأى و أن تعرضها للهلكة .. ما تنظرون و الله إلا أن ينزل بنا و نهلك .. ما بعد ساباط و تكريت إلا المدائن .. و الله لتجتمعان أو لنبدأن بكما قبل أن يشمت بنا شامت .. و الله لولا أن فى قتلكم هلاكنا لعجلنا لكم القتل الساعة .. و لئن لم تنتهوا لنهلكنكم ثم نهلك و قد اشتفينا منكم )

ــــــــ

كان اجتماعهم تنبيهاً لهم بأثر ما فات و تحذيراً لما هو آت و بات ظاهراً لرستم و الفيرزان أن تصدرهما للمشهد العسكرى أكثر من هذا قد يكون فيه هلاكههم و هلاك فارس أيضاً .. أصبحت هناك حاجة لخطة بديلة تضمن لهم مواقعهم و تحميهم أيضاً من المسائلة .. حان الوقت للبحث عن أخر الذكور من آل كسرى .. #يزدجرد_بن_شهريار فى طريقه إلى عرش فارس ..

و لكن .. تلك قصة أخرى ..

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ