سلسلة سيرة الفاروق عمر.. الجزء العاشر

الجزء العاشر
ــــــــــــــــــــــ

بسم الله الرحمن الرحيم

أوصيك بتقوى الله الذى يبقى و يفنى ما سواه .. الذى هدانا من الضلال و أخرجنا من الظلمات إلى النور .. و قد استعملتك على جُند خالد بن الوليد فقم بأمرهم الذى يحق عليك .. لا تقدم المسلمين إلى هلكة رجاء غنيمة .. و لا تُنزلهم منزلاً قبل أن تستريده و تعلم كيف ما أتاه .. و لا تبعث سرية إلا فى كثف من الناس و إياك و إلقاء المسلمين فى الهلكة .. و قد أبلاك الله بى و أبلانى بك فغمض بصرك عن الدنيا و اله قلبك عنها و إياك أن تُهلكك كما أهلكت من كان قبلك فقد رأيت مصارعهم ..

( نص رسالة #عمر_بن_الخطاب التى أرسلها إلى #أبو_عبيدة_بن_الجراح لتوليته أمر الجيش )
ـــــــ

* عمر بن الخطاب أصبح الخليفة الآن و أول قرار سيأخذه هو عزل #خالد_بن_الوليد أفضل قادة المسلمين و فارسها الأول بلا منازع .. قراراً فى ظاهره شراً للمسلمين و لكن فى باطنه كان يُراد به خير .. مسألة عزل خالد إستغلها بعض زارعى الفتنة لينالوا من الصحابيان و يوقعوا بينهم العداوة و البغضاء و يشككوا المسلمين فيهم فتهتز بتلك الشبهات صورة الصحابيان الجليلان فى عيون المسلمين فلا يبقى لهم رمزاً يلتفون حوله و لا قائداً يقتدون به .. رأى عمر أن عزل خالد ضرورة ملحة الآن .. الناس كادت أن تُفتن بخالد .. خالد لا يُهزم فى معركة .. كان على عمر التدخل ..

ـــــــ

* استغل زارعى الفتنة قرار عمر و بدأت ألسنتهم على الفور باللعب على وتر الكراهية بين الرجلين فأعادوا سبب العزل إلى أنه عندما كان خالد و عمر فى شبابهما قد كانوا يتنافسون فى المصارعة و الفروسية و كان خالد و عمر أكثر الناس شبهاً لبعضهما البعض فى الصفات الجسدية و القوة البدنية و الفروسية و مهارة استخدام السلاح فكان التنافس بينهم شديد و فى أحد الأيام و هما يصطرعان كسر خالد ساق عمر فظل عمر حاملاً لخالد إياها حتى دان له الحكم فعزله مقابل فعلته .. أيضاً ادعوا على خالد قسوة قلبه و شدته و كيف أنها السبب فى عزله من قبل عمر و استدلوا بحوادث قتله لبنى جذيمة و قتله لمالك بن نويرة متخذين مقولة عمر

( إن فى سيف خالد رهقاً )

كدليل وحيد على تلك الإدعاءات دون النظر إلى الظروف المحيطة بكل حادثة من تلك الحوادث و اعتمدوا على أضعف الروايات لتبرير إدعاءاتهم ..

ــــــــ

* فى الواقع عزل خالد كان فيه ما يكفى من الضرورة فعلى الرغم من أن عزله كانت له سلبيات بالتأكيد إلا أن عمر – رضى الله عنه – بعزل خالد قد اختار أخف الضررين من وجهة نظره و قد اختلفت الرؤى فى مسألة العزل و لكن يمكن تفنيد تلك الرؤى فيما يلى :

– أول الأسباب و أقواها أن عمر خشى من إفتتان الناس بخالد و تعلق قلوبهم به و نسيانهم أن النصر من عند الله لا من عند خالد أو عمر أو أى شخص .. خالد لم يخسر معركة واحدة فى حياته لا فى إسلام و لا فى جاهلية و الجنود وقتها كانت تتمنى أن تقاتل تحت إمرة خالد ليقينهم أن الإنتصار حليفهم .. كان هذا أدعى بعمر أن يعزله حتى يتعلق قلب الجند بالله لا بخالد و لا بغيره ..

– ثانى الأسباب هى شدة خالد و التى لا تتوافق مع طبيعة عمر الشديدة أيضاً و كان عمر يرى أن ولى الأمر يجب أن تكون طبيعة نائبه عكس طبيعته الشخصية فهو كان يرى أن أبو بكر رجلاً رقيقاً و قد إختاره ليكون معاونه فاشتد فى رأيه حتى يعتدل ميزان الحكم و بنفس المنطق إختار أبو بكر خالداً على شدته ليكون قائداً للجيوش فلما تولى عمر زمام الأمور أراد أن يكون نائبه لين الطباع فاختار على بن أبى طالب و عثمان بن عفان ليعاونوه إدارياً و اختار أبو عبيدة ليكون قائداً للجيش ..

– ثالث الأسباب كان توزيع خالد للغنائم دون الرجوع إلى الخليفة فكان يقسم المال فى أهل الغنائم بما يترائى له دون الرجوع إلى أبى بكر فأنكر عمر هذا و أشار على أبا بكر بأن يكتب إليه بألا يعطى شيئاً إلا بأمره فكتب بالفعل فكان رد خالد عليه هو :

( إما أن تدعنى و شأنى و إلا فشأنك بعملك )

كان يعنى أنك وليتنى الأمر فاتركنى أتصرف فى حدود ما منحتنى من إختصاصات و كان أبو بكر – رضى الله عنه – يترك مساحة كبيرة من الحرية لقادته فى التصرف بما تقتضيه الأمور دون الرجوع إليه على عكس عمر الذى تميزت فترته بالمركزية المفرطة حتى إنه كان يتابع عماله فى أدق الأمور و ابسطها و كان يردد دائماً أنه يخشى أن يسأله الله عن هذا الأمر إن فرط فيه أو تركه لغيره .. كان يرى أن كل أفعال الرعية تصب فى النهاية فى وعاؤه هو و أنه مسئول أمام الله عنها ..

لما تولى عمر كتب إلى خالد أن لا تعطِ شاة ولا بعيراً إلا بأمرى فجاء رد خالد مماثلاً لما كان يقوله لأبى بكر فقال عمر وقتها :

( ما صدقت الله إن كنت أشرت على أبى بكر بأمر فلم أنفذه )

فقام بعزل خالد و كان يدعوه كل فترة أن يعمل برأيه فيأبى خالد إلا أن ينفذ الأمر بطريقته الخاصة فيأبى عمر توليته حتى نُقل عن عمر قوله :

( إنى ما عتبت على خالد إلا فى تقدمه و ما كان يصنع فى المال )

* ما سبق يؤكد أن عزل عمر لخالد لم يكن بسبب أهواءاً شخصية أو ضغائن كتمها عمر فى نفسه حتى يتحين الفرصة للإنتقام منه بل إنها كانت رؤية تحكمها مقتضيات الأمور و ما من شأنه مصلحة البلاد و العباد من وجهة نظره .. عمر كان يحب خالد و يوقره بل إنه كان يخطط أن يوليه الخلافة من بعده إلا أن القدر سبق و توفى خالد قبل عمر و لما توفى بكى عمر عليه و تذكر أبا بكر و قال :

( رحم الله أبا بكر .. كان أعلم بالناس منى )

عمر لم يعزل خالد عن الجيش بالكلية و إنما تركه فى الصف الثانى للقيادة و أشار على أبو عبيدة بإستشارة خالد و الأخذ برأيه .. كان خالد مقدماً عند عمر حتى و إن عزله من منصبه .. رضى الله عن عمر و خالد و عن صحابة رسول الله الكرام ..

ـــــــــ

* فى ذلك الوقت أتى إلى المدينة #المثنى_بن_حارثة و كان من أهل العراق الذين فتحوها مع خالد بن الوليد و ظل فيها بعد أن ذهب خالد لفتح الشام فى عهد أبى بكر الصديق و كان على سدة الجيش هناك إلا أنه رأى أن عدد الجند فى العراق يعد قليلاً لمواجهة الفرس خاصة إذا ما خططوا لاستعادة الأراضى التى فتحها المسلمون فذهب إلى المدينة لمقابلة عمر ليطلب منه المدد .. قرر عمر استنفار الناس فوقف بينهم يحثهم على قتال الفرس إلا أنه لم يستجيب له أحد فأعاد الكرة فى اليوم التالى و اليوم الذى يليه و أيضاً لم يستجب أحد و ذلك لأن الناس كانوا يكرهون قتال الفرس لقوتهم و شدتهم فى القتال فما كان من عمر إلا أن قدم المثنى ليتحدث إلى الناس فأخبرهم بما أفاء الله على المسلمين فى بلاد العراق على يد خالد بن الوليد و كيف أن المسلمين اعتادوا قتال الفرس و علموا أن فيهم ضعفاً فما أتى اليوم الرابع حتى تطوع #أبو_عبيد_بن_مسعود_الثقفى فكان أول المتطوعين للجهاد و تبعه قوم كثير فجهز عمر بهم جيشاً من سبعة آلاف مقاتل وضع على قيادته أبو عبيد ..

ــــــــ

* المثنى لم يكن يبالغ .. الفرس كانوا إمبراطورية عظيمة بالفعل و لكنها كانت فى نهايتها و تنازع حكامها الملك و كل منهم كان يطمع فى السلطة حتى وصل بهم الأمر إلى قتل كل الحكام الرجال من نسل كسرى و لم يبقى سوى النساء و حتى هؤلاء لم يسلموا من المؤامرات و الدسائس فها هى الملكة #أزرميدخت قد قتلت و استقر بعدها الحكم فى يد ملكة أخرى تدعى #بوران و بوران تلك لم تقوى على الحكم بمفردها فتركت الحكم فى يد قائد يدعى #رستم_بن_فرخزاد لمدة عشر سنوات على أن يعود بعدها الحكم لآل كسرى و قد قبل الرجل بهذا .. هذه أمة مهترئة وضح جلياً أنها فى نهاية عمرها و حق عليها أن تفنى .. المثنى كان يعلم هذا .. و عمر كان يعلم هذا أيضاً ..

ــــــــــ

* سبعة آلاف خرجوا من المدينة و خرج أربعة آلاف آخرين من جزيرة العرب و أرسل عمر إلى أبو عبيدة بن الجراح فى الشام لكى يرد جند خالد الذين خرجوا معه من العراق فكان هؤلاء عشرة آلاف آخرين .. أصبح للمسلمين جيشاً فى العراق تخطى العشرون ألف مقاتل كان على رأسهم #أبو_عبيد_الثقفى أول من تطوع للجهاد كما أسلفنا .. تجهز هذا الجيش ليواجه الفرس فى أول معاركه .. #موقعة_النمارق و التى جرت أحداثها فى العام الثالث عشر من الهجرة .. كانت المعركة عنيفة بشكل كبير و سقط فيها جند كثر من الطرفين إلا أن الله قضى بالنصر للمسلمين فى تلك المعركة و أفاء عليهم فى تلك المعركة بأسر #جابان قائد الفرس و فى ذلك الأمر قصة لها دلالة عظيمة على سماحة المسلمين حتى فى حروبهم ..

* من أسر جابان كان رجلاً يدعى #مطر_بن_فضة_التميمى و كان لا يعرفه فخدعه جابان بأن أوهمه أنه جندى عادى من جنود الفرس و استأمنه على نفسه مقابل الفدية و أخذ من مطر العهد على ذلك فلما وصل معسكر المسلمين عرفه بعض الجند و أخذوه إلى أبو عبيد و أعلموه بمنصبه و أشاروا عليه بقتله كون قتله يفت فى عضد المشركين و يكون سبباً فى رفع الروح المعنوية للمسلمين إلا أن أبو عبيد رفض أن يقتله و قال لمن حوله :

( إنى أخاف الله أن أقتله و قد أمّنه رجل مسلم .. و المسلمون فى التواد و التناصر كالجسد ما لزم بعضهم فقد لزمهم كلهم )

فلما ألحوا عليه منبهينه بمزايا قتله قال :

( و إن كان .. أنا لا أغدر )

موقف أبو عبيد و من قبله موقف المثنى بن حارث و الذى قبل أن يكون جندياً تحت إمرة خالد ثم قبل أن يكون جندياً تحت قيادة أبو عبيد رغم أنه من أهل العراق و كان من الممكن أن يطالب بالقيادة و كثير من المواقف الأخرى التى تدل على أن دعوة الإسلام ما جائت لتطلب ملكاً أو سلطة أو رغبة فى الدنيا و زينتها و إنما اجتمع هؤلاء القوم على كلمة سواء يرغبون بها إعلاء كلمة التوحيد .. بفضل قيادة عمر و بفضل هؤلاء الرجال ستستمر فتوحات المسلمين فى عهده حتى تصل إلى إيران و تركيا و دول آسيا الوسطى ..

ـــــــــــ

– عمر أحسن إختيار رجاله و قادته إلى الآن ..

– عمر ينجح بالتدريج فى مهامه كخليفة للمسلمين ..

– معركة كسكر على الأبواب ..

– و لكن .. تلك قصة أخرى ..

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ