سلسلة سيرة خالد بن الوليد.. الجزء التاسع عشر

الجزء التاسع عشر :
ــــــــــــــــــــــــــــــــ

* مر شهر كامل دون أن تبدأ المعركة .. #ماهان نفذ رغبة هرقل بعدم البدء بالهجوم لكن تسيير أمور جيش كهذا هو أمر فى غاية الصعوبة .. طعام و شراب و ملابس .. كلما طال الإنتظار كلما تكلفت الإمبراطورية الكثير دون أى مكسب حتى و لو معنوى بل على العكس سيظهروا بمظهر الخائف الذى لا يجرؤ على مهاجمة أربعين ألفاً من المسلمين .. عرض ماهان عرضه السخى على المسلمين إلا أنهم رفضوه .. حاول الهجوم عليهم بجيش الغساسنة لإرهابهم إلا أنهم قاموا بصده .. فقرر الخروج بنفسه لعل مكانته تؤثر فى عزيمة المسلمين ..

* خرج ماهان فى حراسته بين الجيشان و صاح :

( أريد أن أتحدث إلى خالد .. إبعثوا لى بإبن الوليد )

فخرج له خالد حتى إقترب منه فقال ماهان :

( يا خالد .. لقد علمنا أنه لم يُخرجكم من بلادكم إلا الجهد و الجوع .. فإن شئتم أعطيت كل واحد منكم عشرة دنانير .. و كسوة .. و طعاماً .. و ترجعون إلى بلادكم .. و فى العام القادم أبعث إليكم بمثلها )

غضب خالد غضباً شديداً بسبب ما قاله ماهان فرد قائلاً :

( إنه لم يخرجنا من بلادنا الجوع كما ذكرت .. و لكننا قوماً نشرب الدماء .. و قد علمنا أنه لا دم أشهى و لا أطيب من دم الروم فجئنا لذلك .. نحن قوم نحرص على الموت كما تحرصون أنتم على الحياة )

عندها احتقن وجه ماهان غضباً و التف عائداً إلى صفوف جيشه .. هو يعلم أن العرب لا يريدون مالاً .. هو بالأساس عرض عليهم أكثر من هذا بكثير و رفضوه .. كان يريد أن يُظهر لهم كبرياء الروم و عظمتهم و تذكيرهم بأنهم مجرد قبائل عربية تعيش فى الصحراء و لا قبل لهم بمواجهة الروم .. كان يريد التأثير عليهم نفسياً .. كان هذا ليجدى مع قوماً أخرين .. أما المسلمين و تحديداً خالد فلن يجدى هذا نفعاً ..

* ميدان المعركة كان سهلاً منبسطاً يحده من الجنوب #منخفض_اليرموك و #وادى_العلان و هو منخفض ينحدر للأسفل بشكل حاد يصل عمقه فى بعض المناطق إلى مئات الأمتار و يحده من الشمال الطريق المؤدى إلى مصر .. نشر ماهان جيشه بين تلك النقطتين بحيث يحمى نفسه بالمنحدر و يمسك أول الطريق المؤدى إلى مصر فى حالة إنسحابه و جعل نهر اليرموك من خلفه .. هكذا لن يستطيع المسلمون الإلتفاف عليه .. مكان ممتاز .. لكن لماذا لم يختاره خالد من البداية و هو من أتى لميدان المعركة أولاً .. لابد أن فى الأمر سر ..

* قسم ماهان جيشه أربعة أقسام رئيسية متكافئة القوة فكان على الميمنة #جريجورى و على الميسرة #قناطير و يمين الوسط #ديرجان و يسار الوسط ماهان نفسه و خلف الجيوش وضع الروم خيالتهم .. فى المقابل قسم خالد جيشه إلى أربع أقسام رئيسية هو الأخر و وضع على الميمنة #عمرو_بن_العاص و على الميسرة وضع #يزيد_بن_أبى_سفيان و يمين الوسط #شرحبيل_بن_حسنة و يسار الوسط #أبو_عبيدة_بن_الجراح و وضع فرق الخيالة خلف كل جيش بقيادة #قيس_بين_هبيرة و أضاف للجيش فرقة خيالة متحركة وضع نفسه على قيادتها تكون خلف الجيوش مهمتها مساندة أى جيش يحتاج إلى مساعدة و جعل #ضرار_بن_الأزور نائباً له فى حالة إنشغاله لأى سبب .. تخطيط خالد كان دفاعياً بحتاً لأنه لم يرغب فى فتح خطوطه أمام جيش بذلك الحجم ..

* اصطف الجيشان .. ثلاثون صفاً متتالياً لجيش الروم مقابل 6 أو 7 صفوف لجيش المسلمين منتشرين على مسافة 13 كيلو متر من الشمال إلى الجنوب .. بدأ كل فريق فى دب الحماس فى صفوف جيشه .. يمر أبو عبيدة بين الصفوف ليثير حماستهم و يذكرهم برضوان الله و ثواب الأخرة و فى الناحية الأخرى يمر الأساقفة على الجنود لمباركتهم و قرع الأجراس و رفع الصلبان .. الجيشان كانا متحفزان لأقصى درجة .. وسط تلك الأجواء يخرج قائداً رومياً من جيش ديرجان فى الوسط الأيمن إسمه #جورج أو كما ينطق اسمه العرب #جورجه .. خرج جورج حتى اقترب من جيش المسلمين و صاح منادياً أنه يريد لقاء خالد ..

* لما خرج له خالد طلب منه جورجه الأمان فأعطاه ثم إقتربا من بعضهما حتى اختلفت أعناق فرسيهما فقال له جورجه :

( يا خالد .. أخبرنى فاصدقنى و لا تكذبنى فان الحر لا يكذب .. و لا تخادعنى فان الكريم لا يخادع المسترسل بالله .. هل أنزل الله على نبيكم سيفا من السماء فأعطاكه فلا تسله على أحد إلا هزمتهم ؟ )

رد عليه خالد مندهشاً :

( لا )

قال :

( فبم سميت سيف الله المسلول ؟ )

فقال خالد :

( إن الله بعث فينا نبيه .. فدعانا .. فنفرنا منه .. و نأينا عنه جميعا .. ثم إن بعضنا صدقه و تابعه .. و بعضنا كذبه و باعده .. فكنت فيمن كذبه و باعده .. ثم إن الله أخذ بقلوبنا و نواصينا فهدانا به و بايعناه .. فقال لى صلى الله عليه و سلم :

” أَنت سيف من سيوف اللَّه سله على المشرِكين ”

و دعا لى بالنصر فسميت سيف الله بذلك .. فأنا من أشد المسلمين على المشركين )

فقال جورجه :

( يا خالد إلام تدعون ؟ )

قال :

( إلى شهادة أن لا إله إلا الله و أن محمداً عبده و رسوله و الإقرار بما جاء به من عند الله عز و جل )

قال :

( فمن لم يجبكم ؟ )

قال :

( فالجزية و نمنعهم )

قال :

( فإن لم يعطها ؟ )

قال :

( نؤذنه بالحرب ثم نقاتله )

قال :

( فما منزلة من يجيبكم و يدخل فى هذا الأمر اليوم ؟ )

قال :

( منزلتنا واحدة فيما افترض الله علينا .. شريفنا و وضيعنا .. أولنا و آخرنا )

قال :

( فلمن دخل فيكم اليوم من الأجر مثل ما لكم من الأجر و الذخر ؟ )

قال :

( نعم و أفضل )

قال :

( و كيف يساويكم و قد سبقتموه ؟ )

فقال خالد :

( إنا قبلنا هذا الأمر عنوة و بايعنا نبينا و هو حى بين أظهُرنا تأتيه أخبار السماء و يخبرنا بالكتاب و يرينا الآيات .. و حق لمن رأى ما رأينا و سمع ما سمعنا أن يسلم و يبايع .. و إنكم أنتم لم تروا ما رأينا و لم تسمعوا ما سمعنا من العجائب و الحجج .. فمن دخل فى هذا الأمر منكم بحقيقة و نية كان أفضل منا )

فقال جورجه :

( بالله لقد صدقتنى و لم تخادعنى و لم تألفنى ؟ )

قال :

( تالله لقد صدقتك و إن الله ولىّ ما سألت عنه )

وقف جورجه صامتاً لدقيقة ثم قال :

( علمنى الإسلام يا خالد )

فعادا معاً إلى جيش المسلمين فعلمه الوضوء و صلى به ركعتان ثم انضم جورج بعدها إلى فرقة خالد إستعداداً للمعركة .. استشهد جورج فى نفس اليوم و لم يكن صلى سوى هاتان الركعتان ..

* مع بداية المعركة أمر ماهان بهجوم جزئى من الأربعة جيوش دفعة واحدة .. عشرة صفوف من أصل ثلاثين هجموا على المسلمين .. هجوماً لم يأتى بأى ثمار نظراً لتحفز المسلمين للمعركة أكثر من الروم .. إستمر الحال على ما هو عليه حتى حلول المساء فانصرف كل جيش إلى معسكره .. على كل حال اليوم الأول كان يعتبر قياساً لقوة الفريقين و ملاحظة للثغرات فى صفوفهما ..

* مع بداية اليوم الثانى و فى ساعات الفجر الأولى اشتد الهجوم بشكل أكبر على جناحى المسلمين .. بدأت بوادر الإختراق تظهر فى جيش يزيد و جيش عمرو بن العاص فقسم خالد فرقته إلى قسمين ساند هو جيش عمرو فى الميمنة و أرسل ضرار لمساندة يزيد فى الميسرة .. يومها تمكن ضرار من إقتحام جيش الوسط الأيمن للروم و قتل ديرجان قائد الجيش .. استطاع الجناحان الصبر على هجوم الروم بمساعدة خالد و ضرار و فرقة التدخل السريع التى ابتدعها خالد ضمن تكتيكه الدفاعى الجديد .. تكتيك خالد لازال يثبت جدارته حتى الآن ..

* بعد نهاية اليوم الثانى أدرك ماهان أن إستمرار الوضع على هو عليه لن يحسم المعركة .. أيضاً العوامل النفسية لن تكون فى صالحه خاصة بعد مقتل ديرجان .. كان عليه تغيير تكتيكه و استقر بالفعل على تركيز هجومه هذه المرة على النصف الأيمن لجيش المسلمين .. شرحبيل و عمرو بن العاص سيكون عليهم العبء الأكبر ذلك اليوم .. لو إخترق الروم صفوفهما فعندها ستكون نهاية المعركة .. عدد المسلمين القليل كان يجعلهم فى خطر محدق مع أى إختراق أما الروم فأعدادهم كبيرة و تعطيهم أفضلية الدعم فى حالة الإختراق .. المسلمين لم يكن لهم إلا الله ثم خالد و فرقته المتحركة من ورائهم ..

* ثالث أيام المعركة بدأ فيها الهجوم فجراً و بشكل مفاجىء لم يستطع معه لوائى شرحبيل و عمرو الصمود كثيراً فتراجعوا للخلف كرد فعل طبيعى .. لما رأى خالد ما حدث قسم فرقته قسمين مرة أخرى و التف عليهم من أقصى اليمين فى حين التف ضرار من أقصى اليسار فأحدثوا خللاً فى صفوفهم .. بذلك الهجوم خف الضغط على لوائى المسلمين فى الوسط فتمكنوا من تنظيم أنفسهم و استعادوا زمام الأمور نسبياً حتى حل المساء و عاد الطرفين إلى معسكريهم مرة أخرى .. تكتيك خالد لازال يحقق نجاحاً باهراً حتى الآن ..

* رابع أيام المعركة و أصعبها على المسلمين .. هاجم ماهان من نفس الجبهة مستغلاً إرهاق المسلمين فى اليوم السابق .. خالد أشار على أبو عبيدة و يزيد بالهجوم بميسرة المسلمين حتى يمنعوا ميمنة الروم من مسانده قواتهم فى الناحية الأخرى .. لو لم يشير خالد بذلك الهجوم لقام الروم بدعم ميسرتهم و لكان إختراق جبهة المسلمين اليمنى أمراً مفروغاً منه .. هجم أبو عبيدة و يزيد و استطاعوا صدهم إلا أن عدد الروم كان كبيراً بدرجة لا يمكن وصفها .. إرتد الهجوم الرومى عليهم مرة أخرى و صار التراجع فى كل خطوط المسلمين .. الآن إما الصمود و إما الإبادة .. من أين يأتى الحل يا ترى ؟

* قد تقولون خالد .. خالد كان بطلاً بلا شك لكنه فى ذلك الوقت كان مشغولاً بمساندة ميمنة المسلمين فأراد الله أن تأتى النجدة على يد واحد من كبار الصحابة و من أعلاهم منزلة .. #عكرمة_بن_أبى_جهل .. وقف عكرمة فى وسط الجيش و هو يرى تراجع لوائه و أدرك أن الهزيمة قادمة لا محالة فصاح فيهم قائلاً :

( أيها المسلمون .. من يبايع على الموت )

فالتف حوله حوالى أربعمائة مقاتل و اندفعوا مخترقين صفوف الروم لا يعنيهم شيىء إلا صد هجومهم أو الموت .. لم يمر الكثير حتى يسقط عكرمة شهيداً فى ذلك الهجوم .. سقط منهم كثير إلا أن جرأتهم أجبرت الروم على التراجع فاستطاع المسلمين تنظيم أنفسهم مرة أخرى و إستكمال دفاعهم .. لولا فقدان الروم لدعم ميمنتهم لكانت الهزيمة من نصيب المسلمين فى تلك الليلة بالتأكيد ..

* أربعة أيام مرت و المسلمين فى وضع دفاع .. بعضهم تسائل إلى متى ؟ .. علينا أن نهجم حتى نخفف الضغط عنا و لو قليلاً .. ثم لماذا لم نختار موقع الروم و نحن أتينا قبلهم .. هم محميين من كل الجهات .. معظمهم لم يرى الخطة بعيون خالد .. عبقرية خالد كانت تتجلى فى قدرته على رسم الخطة مسبقاً و توقعه لخطوات عدوه قبل حتى أن يفكر بالقيام بها .. حتى الآن كل شيىء يسير وفق ما أراد ..

– كان فقط ينتظر إشارة حتى يقوم بخطوته التالية ..

– إشارة لم تتأخر كثيراً .. و خالد كان مستعداً ..

– فى اليوم الخامس حدث أن ….

– و لكن .. تلك قصة أخرى ..

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ