سلسلة نيلسون مانديلا.. الجزء الرابع

لجزء الرابع :
ــــــــــــــــــــ

* نحن الآن فى عام 1965 .. مانديلا الآن مسجون بتهمة الإرهاب .. سجن مدى الحياة بدلاً من الإعدام .. تصور هو و زملاؤه أنهم سيخرجون بعد 3 سنوات بحد أقصى .. أخطأوا التقدير بالتأكيد ففترة سجنهم ستمتد إلى 27 عاماً .. و بتصنيفه فى الفئة ( D ) أى الفئة الأدنى بين السجناء فقد عانى مانديلا من مضايقات عنصرية لا يمكن وصفها من سجانيه .. أى شخص فى تلك الظروف قد ينكسر و قد يضعف .. و لما لا .. قد يتعاون مع السلطة لإراحة نفسه من كل هذا العذاب .. مانديلا رفض .. لم يقتصر الأمر على الرفض فقط .. مانديلا أثرى نفسه أولاً و أثرى محيطه ثانياً .. كيف تم هذا ؟ .. الإجابة بسيطة لو علمت من هو مانديلا ..

* فى البداية كانت تلك الزنزانة الصغيرة جداً .. ثم الطعام السيىء .. ثم الحرمان من مقابلة أو مراسلة أحد .. ثم العمل الشاق فى محجر الجير .. أيضاً بيئة العمل كانت فى غاية السوء .. عمل مانديلا بدون نظارات .. لهيب الشمس و غبار الجير أصاب عين مانديلا بضعف عام لازمه حتى وفاته .. الأصعب كان حرمانه من التواصل مع باقى المساجين إلا فى أوقات محددة مع منعه من التواصل مع أكثر من سجين واحد فى كل مرة .. كانت السنة الأولى له بالسجن بمثابة الجحيم .. الضغوط الشعبية الخارجية خاصة فى بريطانيا ساهمت فى تخفيف القيود على المعتلقين السياسيين .. وجدها مانديلا فرصة لممارسة ما يحب على نطاق أوسع ..

* بدأ فى التخطيط لإكمال دراسته فى القانون .. شارك مع باقى المعتقلين فى إضرابات عن العمل و عن الطعام بسبب سوء أوضاعهم .. أكثر من هذا أنشأ #جامعة_سجن_روبن و بدأ فى محاضرة المعتقلين حسب تخصصاتهم .. حمل مانديلا هم توعية من حوله .. انفتح على الشيوعيين أكثر .. قرر أنه يجب التعاون بين كل المعتقلين للوصول للهدف النهائى .. درس الإسلام على الرغم من كونه مسيحى .. درس اللغة الأفريكانية #Afrikaans و هى اللغة الرسمية لنظام الفصل العنصرى .. فعل هذا لبناء أرضية مشتركة مع سجانيه لمحاولة إقناعهم بنُبل قضيتهم .. مانديلا فعل المستحيل لتنمية نفسه و تنمية المحيطين به ..

* على الرغم من تغير أوضاعهم للأفضل نسبياً فى السجن إلا أن التعنت ضد مانديلا كان لا يزال موجوداً .. توفيت والدته ثم توفى ابنه فى حادث سيارة .. لم يسمح له بوداعهم .. و فوق هذا تم الضغط عليه عن طريق زوجته #وينى التى اعتقلت أكثر من مرة بسبب نشاطها السياسى و بسبب دفاعها عن زوجها .. سوء الأوضاع كان قد طال الجميع .. زادت الإضرابات .. و معها زادت قسوة مأمور السجن السيد #بيت_بادنهوست فى التعامل مع المعتقلين ما دفع مانديلا لتقديم طلب لمقابلة القضاة لمناقشتهم فيما يحدث لهم .. مانديلا كان سجيناً نعم و لكنه كان سياسى معروف و أخباره داخل السجن كانت تتسرب للخارج بطريقة أو بأخرى .. تسبب ذلك الطلب فى إقالة السيد بادنهوست و تعيين مأموراً جديداً للسجن هو السيد #ويلى_ويلميس الذى تعامل مع مانديلا بطريقة أكثر آدمية و تدريجياً إنتقل مانديلا من الفئة ( D ) إلى الفئة ( A ) و هذا يعنى تواصلاً أكبر بالمحيطين به داخلياً و خارجياً ..

* بدأ مانديلا فى كتابة مذكراته على أجزاء و تهريبها تباعاً إلى لندن دون نشرها حتى لا يتم إيذاؤه .. تم إكتشاف بضع قصاصات منها و تم عقابه بمنع إمتيازاته الدراسية لمدة أربع سنوات حتى عاد مرة أخرى لتكملة دراسته عام 1980 .. فى ذلك العام كان عمره قد وصل إلى 63 عاماً لكنه أصر على تكملة مسيرته التعليمية .. مانديلا كان شخصاً فريداً من نوعه بكل تأكيد ..

* فى عام 1982 تم نقل مانديلا إلى سجن #بولسمور فى #كيب_تاون هو و باقى قادة #حزب_المؤتمر_الوطنى .. تم نقلهم بسبب تعاظم تأثيرهم فى النشطاء السياسيين الجدد .. لماذا ؟ .. بلا شك لأن جبهة المعارضة كانت تتسع يوماً بعد يوم و تضم بين أركانها السود و الهنود و المسلمين و اليهود و الليبراليين و الشيوعيين و حتى بعض البيض الرافضين لطريقة تعامل النظام مع الأزمة و كان خطاب مانديلا وقتها قد تميز بالنضج أكثر من ذى قبل و بدأ يتسع لكل المعارضين لذا فنقل مانديلا و باقى القيادات أصبح ضرورة ملحة .. ماذا يفعل النظام أكثر من هذا ؟! بالطبع كما توقعت .. حاول شق صفوف المعارضة .. قام وقتها الرئيس #بيتر_ويليم_بوتا بالسماح للملونين و الهنود بإنتخاب برلمانات خاصة بهم و أستثنى السود من ذلك الحق .. خطوة ستزيد من حصصهم فى الخدمات الإجتماعية مثل فرص العمل و الإسكان و الصحة و التعليم .. خطوة كانت ذكية منه إلا أن صفوف المعارضة كانت أذكى و استمرت المقاومة رغم تلك الإمتيازات ..

* مانديلا و حزب المؤتمر الإفريقى لم يكونا المعارضين الوحيدين للنظام بل إذا شئنا الدقة كان الحزب يعد أحد أكثر الأحزاب المعارضة إعتدالاً لكنه كان أكثرها شعبية بحكم أسبقية التأسيس و إذا كنا نبرز دور مانديلا كرجل ناضل كثيراً من أجل حقوق شعب جنوب إفريقيا فيجب علينا إبراز دور باقى المعارضين .. كان هناك مؤتمر الوحدويون الأفارقة الذى إنشق من حزب المؤتمر الإفريقى و زعيمه روبرت سوبوكوى صاحب إقتراح التخلى عن بطاقات المرور و الذى أدت فى النهاية إلى مجزرة شاربفيل .. كان هناك الحزب الشيوعى الجنوب إفريقى .. كان هناك حركة الوعى الأسود .. كان هناك منظمة الطلاب الجنوب إفريقيين .. كان هناك النشاط العمالى الكبير و الذى ساهم بإضراباته فى زلزلة الأرض تحت أقدام النظام .. مانديلا لم يكن وحده بل كان هناك عشرات الأحزاب و الحركات و المنظمات و الجبهات التى كانت تعمل ضد عنصرية ذلك النظام ..

* نحن نقترب من العام 1985 و فى تلك المرحلة نحن نتحدث عن مئات التفجيرات كل عام سواء عن طريق القنابل أو عن طريق الألغام بالإضافة لعمليات إغتيال و الهجوم على معسكرات الجيش و الإستيلاء على الأسلحة و تفجير أبراج الكهرباء و خطوط الهاتف و قطع الطرق و المواجهات الدامية ضد الشرطة و الجيش .. المعارضة المسلحة كانت الخيار الأوحد المتبقى أمام أحزاب المعارضة .. هذا زاد من الضغوط الدولية على النظام لتسوية الأمر لأن إستمرار الوضع بهذا الشكل ينذر بكارثة أكبر .. تحت وطأة الضغوط الخارجية قامت البنوك الأجنبية العاملة فى جنوب إفريقيا بسحب إستثماراتها ما اصاب السوق بالركود و ضعف عام فى السيولة .. صار إستمرار النظام أكثر كلفة من إنهياره .. لم يعد البيض فى أمان و صار تأييدهم لذلك النظام يجلب عليهم الخراب أكثر و أكثر .. لابد من تسوية ما .. و لن يجدوا أفضل من مانديلا ليسووا معه الأمر ..

– أولاً عَرض عليه الرئيس الإفراج عنه و عن رجاله بشرط التخلى عن العنف دون أى شروط .. رفض مانديلا و أصدر بياناً قامت بتلاوته إبنته قال فيه :

( كيف تعرضون على حريتى و لازالت حرية السود مقيدة .. كيف أكون حراً و حزب المؤتمر لازال محظوراً .. تلك ليست حرية .. فالرجل الحر هو فقط من يستطيع التفاوض .. أما نحن فلسنا أحراراً )

– ثانياً قابله وفد دولى لمفاوضته على التخلى عن العنف فرفض و بالتبعية رفض بوتا تلك المفاوضات ..

– ثالثاً إجتمع مع وزير العدل 11 إجتماعاً سرياً على مدار 3 سنوات للتوصل إلى حل .. عرضوا عليه الإفراج عنه و عن قادة حزب المؤتمر و الإعتراف بالحزب و إزالته من قائمة الأحزاب الإرهابية بشرط التخلى عن العنف المسلح و قطع العلاقة مع الحزب الشيوعى و التخلى عن مطلب حكم الأغلبية السمراء .. رفض مانديلا مرة أخرى و قال إن حمل السلاح سينتهى حين تكف الحكومة عن إستخدام سلاحها ضد الشعب الجنوب إفريقى ..

* فى ديسمبر 1988 تم نقل مانديلا إلى سجن #فيكتور_فيرستر بسبب كبر سنه و عدم ملائمة محبسه لوضعه الصحى و على ما يبدو كان هذا هو مكان وضع اللمسات النهائية للمفاوضات .. الوضع خارج السجن كان قد وصل إلى حافة الإنهيار و صارت مصالح البيض مستهدفة بشكل أكثر وضوحاً .. و فى ظل هذا الوضع كان يجب على السلطة التنازل .. خلال عام 1989 أصيب الرئيس بوتا بجلطة دماغية ما أجبره على ترك رئاسة الحزب إلى #فريدريك_ويليم_دى_كليرك الذى سيخلفه لاحقاً فى رئاسة الجمهورية.. دعا #بوتا مانديلا إلى جلسه شاى و تم التفاوض حول إطلاق سراحه و بعد أقل من شهرين إنتقلت الرئاسة للرئيس الجديد #دى_كليرك الذى رأى صعوبة إستمرار نظام الفصل العنصرى .. فى 2 فبراير 1990 تم إطلاق سراح كافة السجناء السياسيين بإستثناء مانديلا دون قيد أو شرط و تم الإعتراف بالأحزاب السياسية التى تم حظرها سابقاً.. تم تلبية كل طلبات المقاومة الشعبية و لم يبقى إلا شيىء واحد .. تحرير رمز النضال .. تحرير مانديلا نفسه ..

* بعد تسعة أيام و تحديداً فى 11 فبراير تجمع الآلاف من الشعب أمام بوابة سجن فيكتور فيرستر لمشاهدة مانديلا حراً طليقاً لأول مرة من 27 عاماً .. الرجل الذى دخل السجن كهلاً و خرج منه شيخاً عجوزاً .. الرجل الذى خطا أول خطواته داخل السجن ثورياً متوشحاً بزيه الإفريقى المميز خرج منه أكثر نضجاً و تسامحاً .. خرج ممسكاً بيد زوجته وينى ماديزيكيلا و محيياً ألوف البشر التى إعترفت بنضاله و بدفاعه عن حقوقهم كل تلك السنوات .. أخيراً نال مانديلا التقدير الذى يستحقه ..

– الآن ستبدأ مرحلة لا تقل صعوبة عن سابقتها ..

– الآن بدأت مرحلة المخاض لبناء دولة جديدة ..

– الآن إما مرحلة بناء أو مرحلة تصفية حسابات ..

– مانديلا بالتأكيد سيكون له الدور الأبرز فى هذا ..

– و لكن .. تلك قصة أخرى ..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ