أثر الخيانة ( 8 ) .. خيانة ذاتية

فى الوقت اللى كان ( أشموط بن هولاكو – Yoshmut ) محاصر فيه ميافارقين إتحرك هولاكو بجيشه تجاه حلب ودمشق اللى كانوا أساس دولة ( الملك الناصر يوسف الأيوبى ) .. لو تفتكروا فى الجزء اللى فات قلتلكم إن هولاكوا إستدعى الملك الناصر لبلاطه لكنه مراحش بنفسه وبعت مكانه إبنه العزيز وده أغضب هولاكو جداً وإعتبره عدم تقدير ليه فقال لإبنه ساعتها :

( نحن طلبنا أباك .. وحيث لم يحضر نسير إليه )

وكتبله رسالة التهديد اللى ذكرتها فى الجزء اللى فات .. عندها حس الناصر بالخطر لأول مرة .. هو كان عاوز يبقى حليف للمغول لكن هولاكو مكانش محتاج حلفاء .. هولاكو عاوزك تبقى مجرد تابع ليه .. فى الوقت ده أعاد الناصر حساباته وإبتدى يفكر إزاى يحافظ على مملكته .. بعد تفكير عميق ومشاورة المقربين ليه قرر الناصر الأيوبى إنه يعلن الجهاد ضد المغول .. خدوا بالكوا إحنا هنا مش بنتكلم عن واحد بيفكر فى الجهاد فى سبيل الله .. لأ .. ده واحد مرفعش راية الجهاد إلا لما حس بالخطر على سلطانه ودولته ..

الناصر تخلى عن ( الكامل محمد بن غازى ) وتعاون مع المغول وطلب مساعدتهم لغزو مصر وكان بينه وبين المماليك فى مصر والمغيث عمر فى الأردن حروب متكررة لتوسيع دولته على حسابهم وللأمانة الأطراف التانية مكانتش بريئة برضه .. هما كمان كانوا طمعانين فى بلاد الناصر لكن محصلش نصيب إن طرف فيهم يغلب التانى ..

ـــــ

أول حاجة عملها الناصر وقتها إنه خرج حريمه وأهل بيته بره دمشق ووداهم على الكرك .. ثانى حاجة عملها هو إنه بعت رسائل إستنجاد للمغيث عمر وللمنصور بن المعز أيبك اللى كان حاكم مصر وقتها عشان يساعدوه فى حربه المنتظرة ضد المغول .. تخيلوا .. بيلجأ للى عاش سنين يحاربهم ويحاول يستولى على بلادهم ..

الرسايل دى وإن لاقت ترحيب فى الأول لكنها متحققتش فعلياً على أرض الواقع لإن المغيث عمر تخلى عنه والمنصور تم عزله على يد سيف الدين قطز .. ورغم إن قطز أعلن للمماليك وللوزراء إن الإنقلاب على المنصور كان بسبب صغر سنه وضعف خبرته وإن هدفه الأساسى هو الجهاد ضد المغول لما قالهم :

( وإنى ما قصدت إلا أن نجتمع على قتال التتر ولا يتأتى ذلك بغير ملك .. فإذا خرجنا وكسرنا هذا العدو فالأمر لكم أقيموا فى السلطنة من شئتم )

ورغم إنه بعت رسالة للناصر الأيوبى بيوعده فيها بالنصرة قاله فيها :

( وإن اخترتنى خدمتك .. وإن اخترت قدمت ومن معى من العسكر نجدة لك على القادم عليك .. فإن كنت لا تأمن حضورى سيرت إليك العساكر صحبة من تختاره )

إلا إن الدعم ده متمش فعلياً ودعوة الناصر الأيوبى للجهاد ملقتش صدى إلا فى نفوس المتحمسين من عوام الناس .. الجنود المحترفين عددهم مكانش أغلبية فى صفوف جيش الناصر اللى وصل فى بعض التقديرات ل 100 ألف جندى .. وحتى الجنود المحترفين مكانش عندهم الرغبة الواضحة فى قتال المغول بإستثناء المماليك البحرية اللى كانوا هربوا من مصر بقيادة ( ركن الدين بيبرس ) بعد خلافهم مع المماليك المعزية بعد قتل زعيمهم ( فارس الدين أقطاى )

ـــــ

الخوف اللى دب فى نفس الناصر وأمراؤه وقتها كان سببه الأساسى واحد من المقربين لبلاط الناصر هو الطبيب ( زين الدين الحافظى ) .. الحافظى كان أحد أركان الخيانة اللى تعرض لها أهل دمشق وقتها واللى ذكر تفاصيلها الطبيب والمؤرخ ( إبن أبى أُصيبعة ) فى كتابه عيون الأنباء فى طبقات الأطباء لما قال :

( ولم يزل الملك الناصر بدمشق وهو عنده – أى الحافظى – حتى جاءت رسل التتر من الشرق إلى الملك الناصر وهم فى طلب البلاد والتشرط عليه بما يحمله إليهم من الأموال وغيرها .. فبعث زين الدين الحافظى رسولاً إلى خاقان هولاكو ملك التتر وسائر ملوكهم فأحسنوا إليه الإحسان الكثير .. واستمالوه حتى صار من جهتهم ومازجهم .. وتردد فى المراسلة مرات وأطمع التتر فى البلاد .. وصار يهول على الملك الناصر أمورهم ويعظم شأنهم ويفخم مملكتهم .. ويصف كثرة عساكرهم ويصغر شأن الملك الناصر ومن عنده من العساكر .. وكان الملك الناصر مع ذلك جباناً متوقفاً عن الحرب )

الظاهر بيبرس لما لاحظ إن الناصر والأمراء بدأوا يخافوا من المواجهة صب غضبه على ( زين الدين الحافظى ) فشتمه وضربه وقاله جملة ذكرتها كتير من المراجع التاريخية .. قاله :

( أنتم سبب هلاك المسلمين )

وبعدها خد رجالته من المماليك البحرية وطلع على غزة ومن هناك بعت رسالة للمظفر قطز بيطلب منه الأمان عشان يرجع مصر وينضم لجيش المماليك .. بيوافق قطز وبيرجع بيبرس وبالفعل بيبقى أبرز مفاتيح إنتصار المماليك على المغول فى عين جالوت بعد كده ..

ـــــ

إتحرك هولاكو بجيشه من العراق لحلب وفى طريقه غزا مدن نصيبين وحران وسُروج والرها والبيرة وكل المدن دى فى جنوب تركيا حالياً .. الرحلة دى خدت حوالى سنة قبل ما يوصل لحلب ويضرب عليها الحصار .. حلب وقتها كان بيحكمها ( توران شاه بن الظاهر غازى ) حفيد صلاح الدين الأيوبى وعم الملك الناصر فى نفس الوقت ..

توران شاه رفض تسليم حلب للمغول وقرر يدافع عنها لكن للأسف أغلب أمراؤه موقفوش معاه .. كمان عامة الناس فى حلب كانوا رافضين للمقاومة وزاد من ضعف نفوسهم وصول الأخبار بسقوط ميافارقين .. فلما حس توران شاه برغبتهم فى الإستسلام سابهم وتحصن برجالته فى قلعة المدينة فخرج أشراف حلب بعد 7 أيام وسلموها للمغول بعد ما إدوهم الأمان .. لكن كما هى عادة المغول أول ما دخلوا المدينة قتلوا كتير من أهلها وسبوا النساء ونهبوا الأموال .. المقريزى بيقول فى وصفه للى حصل :

( فحصرها التتار سبعة أيام وأخذوها بالسيف .. وقتلوا خلقاً كثيراً وأسروا النساء والذرية .. ونهبوا الأموال مدة خمسة أيام استباحوا فيها دماء الخلق حتى امتلأت الطرقات من القتلى وصارت عساكر التتر تمشى على جيف من قُتل .. فيقال إنه أُسر منها زيادة على مائة ألف من النساء والصبيان )

بعد 10 أيام من حصار قلعة المدينة بيستسلم توران شاه ورجالته ولكن هولاكو مبيقتلوش لإن سنه كان كبير جداً وكمان عشان ميخوفش أمراء الأيوبيين اللى أعلنوا طاعتهم ليه .. بعد أيام بيموت توارن شاه من حسرته على ضياع المدينة وموت أهلها ..

ـــــ

كل ده بيحصل من غير ما يتحرك الناصر الأيوبى من مكانه .. ليه بقى ؟ .. لإنه بخلاف إنه ملوش فى الجهاد وتخاذل عن نصرة الكامل محمد قبل كده وتخاذل عن نصرة عمه توران شاه اللى كان بيحمى أراضى دولته بالأساس فهو كان راجل جبان .. حياته عنده أغلى من أى شيء .. الباشا ساب حلب تتحاصر وتتاخد منه واستنى هو بجيشه فى منطقة إسمها برزة كانت على حدود دمشق وقتها .. ليه ؟ .. عشان لو إتهزم يقدر يهرب على الأردن بسهولة .. أما لو كان فى حلب فكان وارد إنه يتأسر جوه المدينة أو فى طريق رجوعه لدمشق ..

ورغم التخطيط ده كله فخوفه غليه هو وأمراؤه .. أول ما أخبار سقوط حلب وصلت لدمشق هرب هو وأمراؤه على غزة وخلال ساعات دمشق بقت من غير جيش .. أعتقد إنى مشوفتش الحركة دى بالوضوح ده فى التاريخ إلا مرتين .. المرة دى وساعة غزو أمريكا للعراق .. دايماً نسمع إن الخيانة بتحصل من المحيطين بالملوك بسبب طمعهم فى السلطة لكن دى أعتقد كانت أول مرة نشوف الخيانة بتحصل من الملك نفسه .. إنسان خان دينه وخان شعبه وحتى خان نفسه ..

وصل هولاكو لدمشق بعد 16 يوم من إحتلاله لحلب وخلال شهرين بالكتير وتحديداً فى صفر سنة 658 هجرياً إتسلمت المدينة للمغول .. المغول وقتها مقتلوش حد فعلاً ولكنهم عاملوا المسلمين أسوأ معاملة ودعموا المسيحيين ضدهم ورفعوا قدرهم لإن والدة هولاكو وزوجته كانوا مسيحيين وعاش المسلمين وقتها أوقات صعبة جداً لا داعى لذكر تفاصيلها ..

ـــــ

إيه بقى اللى حصل للملك الناصر بعد ده كله ؟

فى البداية هرب من دمشق وطلع على غزة عشان يستخبى من المغول وكان معاه بعض خاصته من أمراء الدولة الأيوبية فلما وصلوا لغزة شاف أغلب الأمراء إنهم يروحوا على مصر لكن الناصر خاف يروح معاهم بسبب العداوة القديمة مع المماليك فسابهم وإتحرك بإتجاه الكرك وتحصن هناك لفترة لكنه إتحرك مرة تانية بسبب خوفه من المغيث عمر فخرج واستخبى فى الجبال مع الأعراب وبقى عايش زى المطاريد بالظبط لدرجة إن شربة الماء كانت بتتباعله ب 100 دينار ..

بعد فترة مش طويلة وصلت أخبار لهولاكو بتقول إن الملك الناصر عايش مع بعض أمراء الأعراب فى منطقة إسمها بركة زَيزَى ( بركة زيزاء فى الأردن حالياً ) فبعتلهم فرقة من الجيش المغولى قتلتهم وسبت نساءهم وأسروا الملك الناصر وبعتوه لهولاكو اللى كان فى حلب وفضل مأسور عنده لمدة سنة تقريباً يتنقل بيه من مكان لمكان لحد ما استقر معاه فى تبريز فى إيران ..

فى السنة دى حصلت معركة عين جالوت ومات فيها أعظم قادة هولاكو ( كتبغا نويَن – Kitbuqa Noyan ) وبعدها حصلت معركة حمص اللى إتهزم فيها المغول برضه فغضب هولاكو جداً وأمر بإحضار الناصر وأخوه الظاهر وقتلهم .. فى رواية قتلهم بيقول ( الإمام الذهبى ) فى كتابه تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام إن هولاكو أحضر الملك الناصر وقاله :

( أنت زعمت أن البلاد ما فيها أحد وأن من فيها فى طاعتك حتى غررت بى وقتلت المُغل )

فقال الناصر :

( أما إنهم فى طاعتى فلو كنت فى الشام ما ضرب أحد فى وجه غلمانك بسيف .. ومن يكون ببلاد توريز كيف يحكم على من فى الشام ؟ )

فاتغاظ منه هولاكو ورماه بسهم فوقع على الأرض واستغاث بيه عشان يرحمه فلما شافه أخوه بيستغيث قاله :

( اسكت .. تقول لهذا الكلب هذا القول وقد حضرت )

بمعنى إنك بتستغيث بيه وإنت خلاص بتموت .. فرماه هولاكو بسهم تانى قضى عليه وأمر جنوده بإعدام أخوه الظاهر ومعاه بقية أهلهم ..

ـــــ

أقل من سنة وربع كانت هى الفرق بين وفاة الملك الكامل محمد بن غازى وبين وفاة الملك الناصر يوسف الأيوبى لكن سبحان الله .. شوف ده كتب التاريخ قالت عليه إيه وده قالت عليه إيه .. واحد مات بطل ثابت على الحق دافع عن بلاد المسلمين لحد أخر لحظة فى عمره وواحد خان وهرب وعاش الباقى من عمره مأسور ذليل لحد ما مات على إيد الشخص اللى ياما حاول يسترضيه ..

حقيقى الإنسان سيرة والتاريخ مبيرحمش وسبحان من له الدوام ..

ـــــ