السلطان صلاح الدين الأيوبى قبل ما يتوفى قسم الدولة بين أولاده فأعلن إن إبنه ( الملك الأفضل ) هو ولى عهده وإداله دمشق ومعاها مدن الساحل الشامى والقدس .. إبنه ( العزيز عثمان ) خد مصر .. إبنه ( الملك الظاهر غازى ) خد حلب وشمال الشام .. أخوه ( الملك العادل ) خد الأردن والكرك والجزيرة الفراتية وديار بكر ..
مع الوقت الإخوة إختلفوا وانهارت الدولة الموحدة اللى أسسها صلاح الدين فاستغل الملك العادل اللى حصل وخلع الأبناء دول واحد ورا التانى ورجع الدولة لسابق عهدها مرة تانية وبقى هو سلطانها وطبعاً خلى أولاده نواب ليه على الأقاليم فخلى إبنه ( المعظم عيسى ) على حكم دمشق وخلى ( الأشرف موسى ) على حكم حَرّان وخلى ( الكامل محمد ) على حكم مصر ..
ـــــ
الحملات الصليبية غالباً كان ليها مسارين أساسيين .. يا إما يعدوا على اراضى الدولة البيزنطية ويدخلوا بلاد المسلمين من الشمال يا إما يطلعوا بمراكبهم على مصر وتحديداً دمياط .. هما الحقيقة كانوا بيحبوا دمياط أوى .. تقريباً كانوا غاويين مشبك .. المهم فى الحملة الصليبية الخامسة سنة 1218 وصلوا دمياط وفضلوا محاصرين المدينة سنة ونص ..
سنة ونص يا مؤمن والملك الكامل مش عارف يجهز جيش يفك الحصار عن دمياط ويوم ما ربنا كرمه وقال أعمل حاجة عرض التفاوض على فك الحصار عن دمياط مقابل التخلى عن القدس مع عقد صلح لمدة 30 سنة .. الحملة رفضت العرض وكملوا حصار لحد ما وقعت المدينة فى إيديهم فنهبوا البلد وقتلوا أهلها .. يعمل إيه الملك الكامل ؟ .. يتفاوض تانى طبعاً أومال إنت فاكره هيعمل إيه ؟
المرة دى تشاور مع إخواته وتوصلوا لعرض لا يمكن رفضه .. هيتنازلوا للصليبيين عن القدس وعسقلان وطبرية وكل أراضى الساحل الشامى اللى فتحها عمهم صلاح الدين الأيوبى .. ومش بس كده .. ده هيتنازلوا فوقيهم عن ميناء جبلة وميناء اللاذقية فى سوريا .. الصليبيين رفضوا برضه واشترطوا تسليمهم قلعتى الكرك والشوبك فى الأردن .. تفتكروا الكامل واخواته عملوا إيه ؟ .. وافقوا .. أه والله العظيم وافقوا ومكانش فاضل غير التوقيع الرسمي على الهدنة لولا إن الصليبيين لما عرفوا إن أسوار مدينة القدس إتهدت طلبوا 300 ألف دينار مقابل تكاليف إصلاحها فتم إلغاء التفاوض .. بالمناسبة الأسوار دى إتهدت بأوامر من المعظم عيسى لما سمع إن الصليبيين فى دمياط فخاف إنهم يدخلوا المدينة فقال يهد أسوارها قال يعنى كده هو بيديهالهم خربانة .. يعنى هو كان عنده قناعة إنه عادى ممكن يخسر المدينة لكن المهم إن أسوارها تبقى مهدودة ..
المهم إن الحملة دى فشلت لإن من كرم ربنا علينا فيضان النيل جه سنة 1221 زيادة عن كل سنة وده طبعاً غرق الدلتا كلها وضاعت ملامح الطرق وغرست الخيول والعربات الحربية فى الوحل فاضطرت الحملة إنها ترجع بعد ما كانت وصلت لمدينة فارسكور ..
ـــــ
المفترض إن بعد الموقف ده الإخوات يقربوا من بعض أكتر ويعرفوا إن إتحادهم ضرورة قصاد الخطر الصليبى اللى كل شوية بيهددهم لكن اللى حصل فى الحقيقة مختلف خالص عن ده .. كل واحد منهم بدأ يدور على مصلحته وده طبعاً رفع درجة التوتر بينهم بسبب تضارب المصالح .. التوتر ده إتحول لصراع بين الكامل محمد والمعظم عيسى والصراع كبر وبدأ كل طرف منهم يدور على حليف يسانده فى صراعه العسكرى ضد أخوه ..
المعظم عيسى لجأ لجلال الدين الخوارزمى ملك خوارزم والكامل محمد لجأ لفريدريك الثانى إمبراطور الإمبراطورية الرومانية ..
وهو ده اللى يهمنا .. ( فريدريك الثانى – Frederick II of Sicily )
ـــــ
فريدريك ده بقى كان راجل لطيف أوى .. أبوه هو ( هنرى الثانى ) ملك ألمانيا وأمه هى ( كونستانس ) وريثة عرش صقلية .. يعنى مولود فى بقه معلقة دهب .. طموح أه وعاوز يبقى ملك أه لكنه فى المقابل راجل حالم بيحب الفنون وبيتعلم لغات والدنيا بالنسبة له وردى .. يحب إن ملكه يتوسع أه لكنه فى نفس الوقت راجل قلبه رهيف ومبيحبش الحروب والدم ووجع القلب ده كله ..
فى ظل نشأته فى ظل دولة دينية الكنيسة مسيطرة فيها على كل شيء كان لازم عشان يوصل لكرسى الإمبراطورية الرومانية إنه يوعد بعمل عسكرى كبير مصبوغ بصبغة دينية ضد المسلمين العدو الأول لأوروبا فوعد بقيادة حملة صليبية جديدة لإستعادة القدس من يد المسلمين .. ليه ( فريدريك ) عمل كده ؟ .. لإنه أساساً كان مغضوب عليه من الكنيسة ومن ملوك أوروبا لإنه هرب من المشاركة فى الحملة الصليبية الخامسة فلما الحملة فشلت رجع الملوك والأمراء وحملوه الهزيمة فكان لازم يوعد بقيادة الحملة دى بنفسه عشان يكفر عن خطئه السابق ..
المجمع الكنسى وقتها مكانش مالى إيده منه برضه فطلعوا بتوصية فى اجتماع الحملة بتقضى بزواج ( فريدريك ) من ( يولاندا دو برين – Yolande of Brienne ) بنت ملك بيت المقدس ( جون دو برين – John of Brienne ) عشان يحس على دمه ويعرف إن هو ملك بيت المقدس بحكم زواجه من وريثة العرش .. وأيوة متستغربوش .. هما كانوا بينصبوا ملوك على بيت المقدس حتى لو المدينة مش تحت سيطرتهم والملك وظيفته كانت تنحصر فى متابعة مصالح الحجاج المسيحيين ورعايتهم ..
شوف بقى يا أخى رغم كل الإجراءات دى إلا إن عمنا ( فريدريك ) فضل يماطل فى الخروج بالحملة من سنة 1223 لحد سبتمبر 1227 .. 4 سنين و ( فريدريك ) عمال يماطل ومش راضى يطلع بالحملة لحد ما بابا الفاتيكان هدده بحرمانه من لقب ملك بيت المقدس ولو كان ماطل أكتر كان ممكن يحرمه من منصب الإمبراطور .. فى وسط كل البهدلة دى بتوصل لفريدريك رسايل الملك الكامل الأيوبى بيطلب فيها مساعدته فى حربه ضد أخوه وبيوعده فيها بالتنازل عن القدس وشوية مدن تانية إذا وافق على نصرته وطبعاً دى كانت فرصة ذهبية لفريدريك إستغلها وخرج بالحملة على طول ..
ـــــ
فى الوقت ده وتحديداً سنة 1227 بيتوفى ( المعظم عيسى ) ملك دمشق ونواحيها وبيمسك مكانه إبنه ( الناصر داوود ) وده طمع الصليبيين فى الملك الجديد فأول ما وصلوا الشام سيطروا على كام مدينة ساحلية زى بيروت وعكا وصور وصيدا .. الطبيعى فى وقت زى ده هو نبذ الخلافات والإتحاد لعقاب الصليبيين اللى أخلفوا العهد واستولوا على مدن مش من حقهم لكن اللى حصل إن ( الملك الكامل ) وأخوه ( الأشرف موسى ) طمعوا هما كمان فى ممتلكات أخوهم اللى مات فتآمروا ضد إبن أخوهم وقسموا بلاده بينهم .. ( الأشرف ) خد من دمشق لدرعا و ( الكامل ) أخد باقى نواحى دمشق وفى المقابل عوضوا إبن أخوهم بحرّان والرُها والرَقّة عشان يبقى إسمهم راضوه بأى حاجة .. كتر خيرهم والله ..
الحملة الصليبية السادسة نفسها كانت حملة ضعيفة جداً عسكرياً وأعداد جنودها مكانش كبير لإن ( فريدريك ) مكانش جاى يحارب بالأساس وجه بناءاً على التعهد اللى قدمه الملك الكامل بتسليم القدس .. المهم لما وصل فريدريك لقى إن الخلاف الأيوبى فى نهايته وإن الملك الكامل قرب يستولى على دمشق وبالتالى فسبب حضوره هيكون إنتهى ومش هيكون لوجوده لازمة .. كمان قلة عدد جنوده خلته مقتنع إنه هيخسر أى حرب هيدخلها وبالتالى فضيحته فى أوروبا هتبقى بجلاجل فاضطر إنه يسرع وتيرة المفاوضات مع الكامل اللى كان لسه مستولاش على دمشق من ابن أخوه ..
( فريدريك ) بعت أكتر من رسالة للكامل طالبه فيها بتنفيذ وعده بتسليم القدس وفضل يلح عليه ويستعطفه ويتذلل ليه فى رسايله لحد ما وافق والظاهر كده إنه كان فاهم الكامل كويس وعارف إن بيحب كده .. يعنى فى رسالة مشهورة ذكرها الذهبى فى سير أعلام النبلاء وابن العماد الحنبلى فى شذرات الذهب فريدريك بيقول فيها :
( أنا عتيقك وأسيرك .. وأنت تعلم أنى أكبر ملوك البحر .. وأنت كاتبتنى بالمجيء وقد علم البابا وسائر ملوك البحر باهتمامى وطلوعى فإن أنا رجعت خائباً انكسرت حرمتى بينهم .. وهذه القدس فهى أصل اعتقادهم وحجهم والمسلمون قد أخربوها وليس لها دخل طائل فإن رأى السلطان – أعزه الله – أن ينعم على بقصبة البلد والزيادة تكون صدقة منه وترتفع رأسى بين الملوك وإن شاء السلطان أن يكشف عن محصولها وأحمل أنا مقداره إلى خزانته فعلت )
يا سلام .. يعنى أنا البلد بتاعتى وفى إيدى أقوم أديهالك إنت عشان خاطر سيادتك ترفع راسك وسط ملوك أوروبا .. وكل ده مقابل إيه ؟ .. محاصيل المدينة ؟!!! .. طب ما كده كده المحاصيل دى بتاعتى !!! .. حاجة عجيبة جداً .. ورغم غرابة الرسالة وضعف الأسباب إلا إن الملك الكامل تنازل فعلاً عن القدس ووقع مع فريدرك معاهدة يافا فى فبراير 1229 تنازل فيها مش عن القدس بس .. لأ .. ده تنازل كمان عن كافة الشريط الساحلى من عكا للقدس بخلاف اللى كانوا إستولوا عليه قبل المعاهدة .. يعنى بقى تحت سيطرتهم كل المدن من أول بيروت لحد القدس .. بس الشهادة لله الراجل شرط عليهم فى بنود المعاهدة إنهم ميجددوش أسوار القدس وإنهم ميجوش جنب المسجد الأقصى ويبقى للمسلمين الحق فى زيارته فى أى وقت ويبقى ليهم حاكم خاص بيهم فى المدينة ..
ـــــ
التنازل ده كان كارثة على كل المسلمين .. إبن واصل بيقول فى كتابه مفرج الكروب :
( لما نودى بالقدس بخروج المسلمين وتسليم القدس إلى الفرنج وقع فى أهل القدس الضجيج والبكاء وعظم ذلك على المسلمين وحزنوا لخروج القدس من أيديهم وأنكروا على الملك الكامل هذا الفعل واستشنعوه منه إذ كان فتح هذا البلد الشريف واستنقاذه من الكفار من أعظم مآثر عمه الملك الناصر صلاح الدين )
ابن تغرى بردى بيقول فى النجوم الزاهرة :
( ووصلت الأخبار بتسليم القدس إلى الأنبرور – الإمبراطور – فقامت قيامة الناس لذلك ووقع أمور وتسلم الأنبرور القدس والكامل والأشرف على حصار دمشق )
طبعاً حاول الملك الكامل إنه يدافع عن نفسه ويقول إنه مسلمش الصليبيين إلا بعض الكنائس والدور الخربة وإنه معملش كده إلا درءاً لخطر الصليبيين وحفاظاً على أرواح المسلمين من الهلاك لكن حجته كانت ضعيفة جداً طبعاً وللأسف كلامه وجد بعض الدعم من المؤرخين زى ( ابن أبى الدم الحموى ) اللى قال فى كتابه المختصر فى تاريخ الإسلام :
( كان الانبرور طاغية الفرنجة وعظيمهم خرج بجمع كثير إلى الجزائر والسواحل وخيف على بلاد الإسلام منهم فاجتهد السلطان الملك الكامل رأيه وصالحهم صلحاً تاماً رآه مصلحة للمسلمين وغنيمة لهم .. فكان راعى هذه الأمة المحمدية .. وسلطان الملة الإسلامية .. ومن أعز الله تعالى به الدين وأهله .. والمأمون عليهم .. والناصح المشفق عليهم .. ففعل ما رآه مصلحة رآها .. وغبطة ترجحت فى نظره راعاها .. وصالح الفرنج على أن يسلّم إليهم البيت المقدس حرسه الله تعالى وحده من غير تسليم شيء من أعماله ولا بلاده قليلاً ولا كثيراً وشرط عليهم أن لا يجددوا فيه شيئاً ولا سوراً ولا دوراً ولا يتجاوزوا خندقه .. وأن تقام فيه الجمعة للمسلمين المقيمين به ولا يمنع مسلم من زيارته كيف أراد ولا يؤخذ من زائر مال أصلاً .. وكان ذلك إن شاء الله تعالى من أكبر مصالح المسلمين وأعظمها )
ـــــ