فيروز .. فاز فيروز

فى أوائل القرن السادس الميلادى كانت بلاد اليمن تحت قيادة رجل يهودى اسمه ( يوسف بن شرحبيل ) وكنيته ( ذو  نواس ) وعلى ما يبدو فإن هذا الرجل اضطهد بعض النصارى الأحباش الذين عاشوا فى بلاده فغضبت لهذا الإمبراطورية البيزنطية ودعمت الثوار المسيحيين ضده حتى آل لهم الأمر هناك وصارت لهم الكلمة العليا ..

فى الثلث الأخير من نفس القرن غضب ( سيف بن ذى يزن ) وهو أحد أمراء اليمن لاستمرار بلاده تحت سيطرة الأحباش فلجأ إلى إمبراطور بيزنطة ( جستين الثانى ) ليخرج الأحباش من البلاد على أن يعين أحد القادة الروم بدلاً منهم فرفض الإمبراطور طلبه على اعتبار أن الأحباش إنما هم على نفس دينه ولن ينصره ضدهم فغضب ( سيف بن ذى يزن ) لذلك وذهب إلى بلاد فارس وعرض مشكلته على ( أنّو شُروان ) كسرى فارس مستغلاً العداء التاريخى بين الإمبراطوريتين ..

وافق ( أنّو شُروان ) على طلب ( بن ذى يزن ) وأرسل معه جيش فارسى بقيادة قائد يدعى ( وهرز ) تمكن من هزيمة الأحباش وطردهم من البلاد قبل أن يتم تعيين ( سيف بن ذى يزن ) ملكاً على اليمن ولكن مع بعض الشروط التى تسلب منه سيادته الفعلية مثل فرض الجزية على البلاد وأيضاً بقاء ( وهرز ) برفقته وهو ما كان يعنى عدم قدرته على إبرام أى أمر دون الرجوع إليه وأخيراً السماح بزواج رجال الفرس المقيمين هناك من نساء اليمن وهو ما أفرز على مدار السنين طائفة مختلطة بين الشعبين سميت تاريخياً ب ( الأبناء ) ..

واحد من أولائك الأبناء كان رجلاً يدعى .. باذان بن ساسان ..

ـــــ
 
عام 626 ميلادياً – 5 هجرياً كان ( باذان بن ساسان ) على حكم اليمن وسمع عن نبوة محمد بن عبد الله ﷺ وبعد التثبت منها آمن به واستقل باليمن وبدأ فى إرسال الزكاة إلى النبى ﷺ بدلاً من إرسالها إلى كسرى حتى وافته المنية فلما مات ظهر على السطح واحد من أبناء اليمن هو ( عبهلة بن كعب ) وكنيته ( الأسود العَنْسى ) نسبة إلى قبيلته عَنْس .. نادى الأسود بإستقلال بلاد اليمن عن كسرى وعن المسلمين وحارب ( شهر بن باذان ) حاكم صنعاء وقتله وسبى زوجته ( إزاد ) وتزوجها غصباً ورفض آداء الزكاة وحارب عمال النبى ﷺ وقال لهم :

( أيها المتمردون علينا .. أمسكوا علينا ما أخذتم من أرضنا ووفروا ما جمعتم – يقصد الزكاة – فنحن أولى به )

ودانت له أقاليم اليمن بسرعة مذهلة وهو ما فتن الناس وجعل كثير منهم يرتد عن الإسلام خاصة أنهم كانوا حديثو العهد به ولم يثبت الإيمان فى صدورهم بعد ..

أما عن الأسود العنسى فقد كان ضخم الجثة قوى البنيان يمتاز بالشجاعة وكان مشعوذاً دجالاً إدعى النبوة فى أواخر أيام النبى ﷺ واستخدم الكهانة والسحر فى التأثير بالناس وسخر الأتباع وجندهم ليكونوا عيوناً على الناس ويجمعوا أسرارهم ثم ينقلونها إليه فلما يعرضها عليهم يقتنعون بنبوته ويتبعونه .. لقب بين الناس ب ( ذو الخمار ) لأنه كان يلقى على وجهه خمار فلا يرى الناس وجهه لإضفاء القداسة على مظهره .. أشيع أنه لم يسلم يوماً وأنه ادعى نبوته لواحد من آلهة اليمن الوثنية هو ( رحمن اليمن ) وهو إسم أول إله توحيدى فى اليمن القديم حيث وحد الحِمْيَريون – نسبة إلى إقليم حِمْيَر – الآلهة كلها فى إله واحد وذلك قبل دخول اليهودية والمسيحية إلى أرضهم ..

وصلت أخبار ( الأسود العنسى ) إلى النبى ﷺ فأدرك حجم الخطر الذى تمثله تلك الفتنة على دولة الإسلام الوليدة فأرسل رسالة مع صحابى يدعى ( وبر بن يحنس ) إلى المسلمين فى اليمن ودعاهم إلى مقاومة الأسود والقضاء عليه بأسرع ما يمكن فوصلت الرسالة إلى ( معاذ بن جبل ) رضى الله عنه فقام بتمريرها إلى عمال النبى ﷺ فكان من جملة من وصلتهم الرسالة صحابى يدعى ( فيروز الديلمى )

ـــــ

( فيروز الديلمى ) هو واحد من الأبناء الذين نشأوا لعائلات طرفيها الفرس وعرب اليمن وكان من الذين أسلموا بعد إسلام ( باذان بن ساسان ) وظل على عهده وحسن إسلامه إلى أن وقعت فتنة ( الأسود العنسى ) فمالئه وكتم إسلامه وعمل معه غصباً عنه حتى وصله كتاب النبى ﷺ .. فى ذلك الوقت ومن رحمة الله بالمسلمين أصاب ( الأسود العنسى ) لمحة من جنون العظمة فأصبح يتكبر على قادته ويشك فيهم ومنهم واحد يدعى ( قيس بن المكشوخ ) وكان ( قيس ) على علاقة ب ( فيروز ) لأنهما من الأبناء فلما أخبره عن تغير معاملة ( الأسود ) معه أسر له ( فيروز ) بأمر رسالة رسول الله ﷺ فكأنما كانت إشارة له من السماء فوافق على الإشتراك معه فى قتل ( الأسود )

فى البداية ذهب ( قيس ) إلى ( إزاد ) زوجة ( الأسود ) وكانت من أبناء عمومته هو وفيروز وقال لها :

( يا ابنة عمى .. قد عرفت بلاء هذا الرجل عند قومك .. قتل زوجك .. وطأطأ فى قومك القتل .. وفضح النساء .. فهل عندك ممالأة عليه ؟ )

قالت :

( على أى أمر ؟ )

فقال قيس :

( إخراجه )

فقالت :

( أو قتله )

فقال قيس مبتهجاً :

( أو قتله )

فقالت :

( نعم .. والله ما خلق الله شخصاً هو أبغض إلى منه فما يقوم لله على حق ولا ينتهى له عن حرمة .. فإذا عزمتم أخبرونى أعلمكم بما فى هذا الأمر )

فخرج قيس من عندها واجتمع بفيروز وابن عمه ( دَاذَويه ) وأخبرهما بموافقة ( إزاد ) على الإشتراك معهم ..

ـــــ

( الأسود العنسى ) كان يشك فى أمر قيس وفيروز وداذويه وكان لعنه الله قد جاءه شيطانه الذى يستعين به فى أسحاره وأخبره أن يحترس منهم وهو ما جعله يترصد لهم وهو ما حدث فى أحد الأيام حين جمع له قومه مئة بقرة وبعير فقام عليهم فذبحهم جميعاً ثم أتى إلى فيروز وقال له :

( أحق ما بلغنى عنك يا فيروز ؟ .. لقد هممت أن أنحرك فألحقك بهذه البهيمة )

ووجه الحربة ناحية رأسه .. فقال له فيروز :

( اخترتنا لصهرك وفضلتنا على الأبناء .. فلو لم تكن نبياً ما بعنا نصيبنا منك بشيء فكيف وقد اجتمع لنا بك أمر الآخرة والدنيا .. فلا تقبل علينا أمثال ما يبلغك فإنا بحيث تحب )

فأعجب ( الأسود ) بكلامه وتركه يمضى فذهب ( فيروز ) من فوره إلى أصحابه وأخبرهم بما دار معه فأجمعوا أمرهم على معاودة ( إزاد ) مرة أخرى فذهب إليها ( فيروز ) للتثبت من مساعدتها لهم فقالت له :

( إنه ليس من الدار بيت إلا والحرس محيطون به غير هذا البيت فإن ظهره إلى مكان كذا وكذا من الطريق .. فإذا أمسيتم فانقبوا عليه من دون الحرس وليس من دون قتله شيء .. وإنى سأضع فى البيت سراجاً وسلاحاً )

فبقى عندها ونقب الحائط من الداخل حتى يهون عليهم عندما يأتون ليلاً ولا يجذبون إليهم الأسماع فلما انتهى جلس ليستريح فإذا ب ( الأسود ) يدلف من الباب فلما رآه قال ل ( إزاد ) :

( وما هذا ؟ )

فقالت :

( إنه أخى من الرضاعة وهو ابن عمى )

فنهره وأخرجه من الدار فذهب إلى أصحابه وحزموا أمرهم أن يقتلوه فى ليلتهم ..

ـــــ

فى الليل ذهب الثلاثة ( فيروز وقيس وداذويه ) إلى دار ( الأسود ) ونقبوا فى المكان المتفق عليه فما هى إلا ضربة أو ضربتين حتى سقط جزء من الحائط فدخلوا إلى الدار وتقدموا إلى غرفة الأسود فوجدوه نائماً على فراش من حرير وهو سكران يغط وقبل أن يتقدم نحوه ( فيروز ) إذا بشيء عجيب يحدث .. اعتدل الأسود وجلس على السرير رغم أنه ما زال يغط فى نومه وبدأ فى التحدث فقال :

( مالى ومالك يا فيروز ؟ )

وكان شيطانه هو من أجلسه وتكلم على لسانه فلما رأى ( فيروز ) إستعان بالله وألقى به وجعل وجهه تجاه الأرض فحركه شيطانه مرة أخرى فاضطرب جسده وكان جسده عظيماً فجلس ( قيس وداذويه ) على ظهره وشدت ( إزاد ) شعره وألجمت فمه بملاءة فكشفت عنقه إلى ( فيروز ) الذى احتز رقبته بالشفرة فخرج منه خوار كخوار الثوار غير أنه أشد فسمع حراسه صوت خواره وقبل أن يدخلوا عليه نادتهم ( إزاد ) قائلة :

( النبى يوحى إليه )

فرجعوا دون أن يدخلوا .. بعدها جلس الرجال ليتفقوا على طريقة يستأصلون بها شأفة تلك الفتنة وخلصوا إلى أنه إذا أتى الصباح خرج ( داذويه ) ووقف على سور الحصن وصاح بشعارهم فإذا ما تجمع الناس حول الحصن مسلمهم وكافرهم نادى فيهم فيروز بالآذان .. وهو بالفعل ما حدث ووقف فيروز وقال :

( أشهد أن محمداً رسول الله وأن عبهلة كذاب )

ثم ألقى إلى الناس برأسه ففت ذلك فى عضد الكافرين وانهزموا أمام المسلمين وعادت اليمن دياراً للإسلام مرة أخرى ..

ـــــ

فى اليوم التالى أتى الخبر من السماء إلى النبى ﷺ فى المدينة فقال :

( قُتل العنسى البارحة .. قتله رجل مبارك من أهل بيت مباركين )

قيل :

( ومن قتله يا رسول الله ؟ )

قال :

( فيروز .. فاز فيروز )

رضى الله عن أبو عبد الرحمن فيروز الديلمى وغفر له وجميع صحابة رسول الله ﷺ

ـــــ

مصادر :
ــــــــــــــــــــ

البداية والنهاية لابن كثير – الجزء السادس – خروج الأسود العنسى