قبل بعثة النبى ﷺ عاش رجل فى مكة يدعى ( حُسَيل بن جابر ) .. فى إحدى الليالى إختلف ( حُسيل ) مع أحد الأشخاص وتطور الخلاف بينهما إلى أن وصل إلى الإقتتال .. بعد دقائق ضرب ( حُسيل ) الرجل ضربة أردته قتيلاً فاضطره ذلك إلى الهرب تجاه يثرب خشية ثأر قبيلته منه .. عاش ( حُسيل ) هناك فترة قبل أن يحالف – وبغرض الأمان الشخصى – ( بنو عبد الأشهل ) أحد بطون قبيلة الأوس وتزوج منهم إمرأة تدعى ( الرباب بنت كعب ) .. بذلك التحالف وتلك الزيجة عُرف ( حُسيل ) بين الناس بإسم ( اليمان ) لأن قبيلة الأوس أصولها تعود إلى اليمن .. بتوالى السنين أنجبت له ( الرباب ) خمس من الأبناء برز منهم واحد يدعى ( حُذيفة ) فكان ( حذيفة بن اليمان )
بعض الروايات ذكرت أن مسمى ( اليمان ) لا يعود بالأساس إلى والد حذيفة ولكنه يعود إلى أحد أجداده يدعى (جروة بن الحارث ) وقالت بأنه هو الذى أصاب الدم فى مكة وهو من لجأ إلى يثرب وليس ( حُسَيل ) وإن كانت الرواية الأولى أشهر ..
ـــــ
لما بدأت دعوة الإسلام فى الإنتشار ووصل صداها إلى يثرب آمن بها كثير من المقيمين فيها لدرجة أنهم آمنوا وآمن معهم أهل بيوتهم قبل حتى أن يروا النبى ﷺ وهو ما جرى على اليمان الذى كان ضمن وفد من عشرة أفراد ذهبوا إلى مكة للقاء رسول الله ﷺ لإعلان إسلامهم أمامه قبل هجرته إلى المدينة ..
إسلام اليمان وضع ( حذيفة ) ولده الشاب فى حيرة لأن أصوله مكية ولكنه نشأ فى يثرب فلم يكن يدرى إذا كان من المهاجرين أم من الأنصار وظل هذا التساؤل يلح عليه وإشتياقه لرؤية النبى ﷺ يزداد بالتدريج حتى اصطحبه والده معه لرؤيته فلما رآه سأله :
( أمهاجر أنا أم أنصارى يا رسول الله ؟ )
فقال رسول الله ﷺ :
( إن شئت كنت من المهاجرين وإن شئت كنت من الأنصار )
فاختار حذيفة أن يكون من الأنصار ..
ـــــ
بعد هجرة النبى ﷺ إلى المدينة لازمه حذيفة وخاض معه كل غزواته ما عدا غزوة بدر ولتخلفه عنها قصة يرويها بنفسه فيقول :
( ما منعنى أن أشهد بدراً إلا أنى خرجت أنا وأبى فأخذنا كفار قريش وقالوا إنكم تريدون محمداً .. فقلنا ما نريده .. ما نريد إلا المدينة .. فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفن إلى المدينة ولا نقاتل معه )
فلما عادا إلى المدينة ذهبا إلى رسول الله ﷺ وأخبراه بالخبر فقال لهما :
( إنصرفا .. نفى لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم )
أما فى غزوة أُحد فقد شارك فيها حذيفة ووالده .. أما حذيفة فقد أبلى بها أحسن البلاء وأما والده فقد رزقه الله بالشهادة فيها .. ولإستشهاده قصة تبرز مدى إيمان حذيفة وحسن إسلامه حيث وضع رسول الله ﷺ اليمان رضى الله عنه ورجل أخر يدعى ( ثابت بن وقش بن زعوراء ) فى الحصون مع النساء والصبيان لأنهما كانا شيخين طاعنين فى السن فامتثلا للأمر ولكن مع اشتداد المعركة نظر اليمان إلى ثابت وقال له :
( لا أبا لك ما ننتظر ؟ .. فوالله ما بقى لواحد منا من عمره إلا ظِمْأ حمار – أى الفترة التى يحتاجها الحمار ليشعر بالعطش – إنما نحن هامة القوم – أى كبرائهم نسبة إلى عمريهما – ألا نأخذ أسيافنا ثم نلحق برسول الله ﷺ ؟ )
وعلى الفور قام الرجلان ودخلا غمار المعركة دون أن يدرى المسلمون بأمرهما .. أما ثابت بن وقش فقد رزقه الله بالشهادة على يد المشركين وأما اليمان فقد فوجىء به المسلمين فظنوا أنه واحد من المشركين فقتلوه خطأً وحذيفة ينادى فيهم :
( أبى .. إنه أبى )
لكنهم لم يسمعوه فلما قضى الله الأمر أخبروه أنهم لم يكونوا يعلمون بأمره فنظر إليهم حذيفة وقال :
(يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين )
حاول رسول الله ﷺ بعد المعركة أن يعطى حذيفة دية أبيه إلا أنه تصدق بها على المسلمين فزاده هذا فى نظره ﷺ ..
ـــــ
حذيفة بن اليمان رضى الله عنه كان يتميز بالعديد من الصفات أبرزها سرعة البديهة والذكاء بالإضافة لكتمان الأسرار فأراد رسول الله ﷺ أن يستفيد من تلك القدرات فأسّر له عن أسماء المنافقين حيث كانوا يمثلون الخطر الأكبر على المسلمين خاصة فى بدايات عمر الدولة وأمره بمراقبتهم ومتابعة تصرفاتهم وإخباره ﷺ بأى شيء يشعر معه بالريبة .. ذلك السر لم يفضى به رسول الله ﷺ لأى شخص أخر بخلاف حذيفة بن اليمان حتى أقرب أصحابه إليه ولأجل هذا فقد لقب حذيفة بصاحب سر رسول الله ﷺ ..
موقف أخر إحتاج فيه النبى ﷺ لمهارات حذيفة حدث فى نهاية غزوة الخندق حين حاصر المشركين واليهود المدينة من كل جوانبها فأصاب المسلمين هماً وغماً شديدين وضاقت عليهم الدنيا وبلغ منهم الجهد والشدة مبلغهما فأراد الله عز وجل أن ينصر رسوله ﷺ فأرسل على المدينة برداً زمهريراً وظلمة شديدة حتى يكاد المرء لا يستبين كف يده وأصاب المشركين بريح دائمة اقتلعت خيامهم وأهلكت كثيراً من دوابهم وكل ذلك يحدث والمسلمين لا يدركون ترتيب الله عز وجل لهم .. فى ذلك الوقت أراد النبى ﷺ أن يستعلم عن أمور المشركين واليهود بالخارج فنادى فى الناس :
( من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثم يرجع ؟ .. أسأل الله أن يكون رفيقى فى الجنة )
ورغم الوعد النبوى بسلامة القائم بالمهمة لأنه ﷺ ذكر أنه سيرجع وعظيم المكافآة الأخروية برفقته ﷺ فى الجنة إلا أن أحد من الحاضرين لم يتقدم لقبول المهمة من شدة الخوف والجوع والبرد وهو ما يوضح عظم الإبتلاء الذى مر به المسلمون وقتها .. لا طعام .. لا شراب .. برد شديد .. وريح لا تهدأ .. وجحافل المشركين تحيط بالمدينة من كل مكان ولو أدركوا مسلماً قطعوه إرباً .. فلما رأى رسول الله ﷺ ذلك نادى على حذيفة وقال له :
( يا حذيفة .. إذهب فادخل فى القوم فانظر ماذا يفعلون .. ولا تُحْدِثن شيئاً حتى تأتينا )
فخرج رضى الله عنه وتسلل إلى صفوف المشركين فإذا بالريح تفعل بهم ما تفعله فلا يَقر لهم قِدر ولا تُقاد لهم نار وبينما هو يتحسس أخبارهم إذا بسيد قريش وقتها ( أبو سفيان بن حرب ) يقوم بين الناس خطيباً ولكنه أخبرهم أنه يريد أن يقول كلاماً لا ينبغى أن يصل إلى رسول الله ﷺ فقال :
( يا معشر قريش .. لينظر امرؤ من جليسه ؟ )
فى تلك اللحظة تجلت سرعة بديهة حذيفة بوضوح .. لو أنه ارتبك أو ظل صامتاً لربما شك فيه المحيطين به ولكان مقتولاً خلال لحظات لكنه عوضاً عن ذلك أمسك يد الرجل الذى بجانبه وسأله عن هويته فأجابه أنه فلان بن فلان فكان هذا مخرجاً له مما كان ينتظره ..
لما هدأت الناس وقف بينهم أبو سفيان وقال :
( يا معشر قريش .. إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام .. لقد هلك الكُراع والخف – أى أرجل الدواب التى نحلت وضعفت – وأخلفتنا بنو قريظة وبلغنا عنهم الذى نكره .. ولقينا من شدة الريح ما ترون .. ما تطمئن لنا قدر ولا تقوم لنا نار ولا يستمسك لنا بناء .. فارتحلوا فإنى مرتحل )
ـــــ
حذيفة بن اليمان رضى الله عنه عاش حياته تقياً ورعاً مؤتمناً على سر رسول الله ﷺ لم يخبر به أحد لدرجة أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه لما تولى الخلافة حاول أن يستعلم عنهم فلم يخبره بأسماءهم وهو ما جعل عمر يتحرى فى حضور صلوات الجنازة فكان يسأل قبل الصلاة عن حذيفة إن حضر الصلاة صلى على المتوفى وإن لم يحضر حذيفة لم يصلى عليه خشية أن يصلى على أحد المنافقين دون علمه ..
بخلاف كل ما سبق فقد كان رضى الله عنه مجاهداً من الطراز الرفيع حيث حضر كل غزوات النبى ﷺ وحضر فتوح فارس بل إن كثير من الناس لا يعلم أنه تقلد القيادة فى بعض المعارك وفتحت على يديه مدن نهاوند وهمدان والرِى والدينور وهى من كبار مدن فارس ..
ـــــ
أيضاً كان رضى الله عنه عظيم الخشية من الله وليس أدل على ذلك مما حدث فى مرض موته لأنه حين تأكد له أن الأجل قد حضر بكى بكاءاً شديداً فسألوه عن سبب بكاؤه فقال :
( ما أبكى أسفاً على الدنيا بل الموت أحب إلى .. ولكنى لا أدرى علام أقدم .. على رضا أم على سخط )
وروى أنه كان يدعو قبل وفاته قائلاً :
( اللهم إنى لم أحب الدنيا لحفر الأنهار ولا لغرس الأشجار ولكن لسهر الليل وظمأ الهواجر وكثرة الركوع والسجود والذكر لله عز وجل كثيراً والجهاد فى سبيله ومزاحمة العلماء بالركب )
وقال أيضاً :
( اللهم إنك تعلم لولا أنى أرى أن هذا اليوم أول يوم من أيام الآخرة وآخر يوم من أيام الدنيا لم أتكلم بما أتكلم به .. اللهم إنك تعلم أنى كنت أختار الفقر على الغنى .. وأختار الذلة على العز .. وأختار الموت على الحياة .. مرحباً بالموت وأهلاً .. مرحباً بحبيب جاء على فاقة .. لا أفلح من ندم )
وروى أن أخر ما نطق به قبل وفاته هو :
( اللهم إنك تعلم أنى أحبك فبارك لى فى لقائك )
رحم الله حذيفة بن اليمان ورضى عنه وجزاه خيراً عن سائر المسلمين إلى قيام الساعة ..
ـــــ
مصادر للإستزادة :
ــــــــــــــــــــــــــــ
- المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابورى
- المعارف لإبن قتيبة الدينورى
- شرح صحيح مسلم للنووى – كتاب الجهاد والسير
- الطبقات الكبرى لابن سعد
- سير أعلام النبلاء للذهبى
- أسد الغابة فى معرفة الصحابة لابن الأثير
- الإستيعاب فى معرفة الأصحاب للحافظ بن عبد البر
- البداية والنهاية لابن كثير
- تحفة الأحوذى بشرح جامع الترمذى – باب مناقب حذيفة بن اليمان
ـــــ