الظاهر بيبرس .. قصة قائد ( جـ 4 )

الظاهر بيبرس .. قصة قائد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الجزء الرابع :
ـــــــــــــــــــ

بعد إنتصار المماليك على التتار وطردهم من الشام جه الوقت لتوزيع الغنائم فطلب بيبرس من قطز إنه يوليه على حلب زى ما وعده لكن قطز رفض لإنه كان خايف منه إستقلاله بيها بعد كده .. الرفض ده رجع الكراهية القديمة اللى فى قلب بيبرس ناحية قطز خاصة إن مبقاش فى سبب لتوحدهم بعد هزيمة التتار .. بيبرس برضه كان شايف إن ده حقه بعد اللى شافه السنين اللى فاتت .. هو بطل معركة المنصورة .. هو اللى إتشرد 5 سنين فى الشام .. هو اللى لما رجع مصر كان فى الصفوف الأولى ووقف بكتيبته قصاد 20 ألف تتارى .. كل ده خلى بيبرس يحسم أمره ويتفق مع 6 من المماليك البحرية على قتل قطز وإتفقوا إنهم ينتظروا اللحظة المناسبة لتنفيذ خطتهم وسبحان الله اللحظة دى متأخرتش كتير ..

فى طريق العودة لمصر عدى قطز وجيشه على قرية إسمها ( القصير ) قرب حمص فى غرب سوريا وهناك لمح قطز أرنب بيجرى جنبه وهو كان بيحب الصيد جداً فانفصل عن الجيش ومشى ورا الأرنب فلما شافه بيبرس ورجالته إستغلوا الفرصة دى بحجة حراسته لحد ما اطمنوا إنهم بعدوا عن الجيش اللى كمل طريقه لمدينة الصالحية على بعد كام كيلو من القصير .. أول ما الدنيا هديت قرب بيبرس من قطز وطلب منه إمرأة تتارية من سبى المعركة فوافق قطز وإداهاله – فى رواية قالت إنه تشفع للعفو عن شخص ما – فلما وافق قطز قرب منه بيبرس عشان يبوس إيده وبدل ما يبوسها مسكها عشان يمنعه من سحب سيفه وكانت دى الإشارة المتفق عليها بين بيبرس وباقى المماليك فجرى عليه واحد من الأمراء إسمه ( بدر الدين أنص الأصبهانى ) وضربه بالسيف بعدين إتلم عليه باقى الأمراء وقتلوه ..

ـــــ

الرواية دى إختلف فيها المؤرخين وإن كانت النتيجة واحدة .. يعنى المقريزى مثلاً قال إن أول من ضربه بالسيف أمير إسمه ( بدر الدين بكتوت ) .. بن تغرى بردى قال إن ( أنص الأصبهانى ) هو اللى قتله .. أبو الفداء وابن عبد الظاهر قالوا إن بيبرس هو اللى قتله والحقيقة اللى حصل بعد كده بيرجح رواية أبو الفداء وابن عبد الظاهر لسبب بسيط وهى إن المتآمرين السبعة بعد ما قتلوه راحوا جرى على الصالحية ودخلوا دهليز السلطان فلقوا فى وشهم ( أقطاى المستعرب ) أتابك العسكر فلما شاف هيئتهم والدم على سيوفهم سألهم عن السبب فحكوله اللى حصل فسألهم :

( من قتله منكم ؟ )

فقال بيبرس :

( أنا )

فقال :

( يا خوند .. إجلس فى مرتبة السلطنة )

شفتوا الدنيا سهلة إزاى .. مش عاوزك تستغرب من اللى إنت بتقرأه لإن دى كانت أدبيات الزمن ده .. ده العرف اللى كانوا ماشيين عليه .. اللى يقتل السلطان يقعد مكانه بحكم التغلب والأمر الواقع .. ومش عاوزك برضه تستغرب ده على بيبرس وتستقله وينزل من نظرك .. إحنا مش بنتكلم عن شيخ أو فقيه أو عالم من العلماء .. بيبرس فى الأول والأخر هو ملك من ملوك المسلمين .. قائد عسكرى قوى يملك صفات الشجاعة والإقدام ورغبة الجهاد وده هيبان أكتر فى الأجزاء الجاية ..

ولو هتستغرب من كلامى فأحب أوضحلك إنك لما تقرأ التاريخ حاول تعيش الفترة دى بخيالك وتتعامل بأساسياتها ومفرادتها وإنت هتتفاجىء إن كل ده ماشى فى نطاق طبيعى جداً بلا مبالغات .. يعنى على سبيل المثال .. توران شاه كان على عرش مصر .. بعدها أقطاى وبيبرس قتلوه .. بعدها تولى عز الدين أيبك السلطنة وأمر بقتل أقطاى واللى قتله قطز ورجالته .. بعدها شجر الدر قتلت عز الدين أيبك لإنه كان عاوز يتجوز عليها .. بعدها المماليك المعزية سلطنوا إبنه المنصور وسلموا شجر الدر لزوجة أيبك الأولى فأمرت خدمها بقتلها .. بعدها قطز عزل المنصور وإستولى على الحكم .. بعدها بيبرس قتل قطز زى ما شفتوا .. جمعية ودايرة مبتقفش .. وده كله خلال أخر كام سنة بس .. يعنى مرجعتش وجبت التاريخ من أوله وبينت قد إيه المؤامرات والخيانة بتلعب دور فى وصول الحكام لكراسيهم ..

بإختصار لو إنت زعلان على قطز فافتكر إنه شارك فى قتل أقطاى وعزل المنصور اللى كان ولى الأمر الشرعى .. طب هل ده ينفى عنه إنه كان قائد عسكرى دافع عن الإسلام والمسلمين ؟ .. لأ طبعاً .. طريقة الوصول للسلطة شيء والهدف من الوصول ليها شيء تانى .. يعنى الطريقة سيئة ودموية طبعاً لكن الهدف من وراها كان رفع راية الجهاد ودرء أى خطر ممكن يتعرض ليه المسلمين بالإضافة طبعاً لبعض المميزات الدنيوية المصاحبة لوصولهم للملك .. ده مش تبرير لكن هو ده اللى كان متبع وقتها .. الحاكم أه ممكن يتآمر ويخون ويقتل عشان يوصل للسلطة بس لما يوصل بيجاهد بنفسه وماله وبيبقى فى أول الصفوف عشان يتصدى لأى خطر يهدد الإسلام والمسلمين ..

ـــــ

رغم إن العادة وقتها هو تولى اللى قتل السلطان منصب السلطنة لكن وبحكم إن ده حصل بعد معركة كبيرة ضد أكبر خطر واجهه المسلمين من سنين طويلة فكان لازم يبقى فى إجماع من الأمراء على تولى بيبرس منصب السلطان .. المهم .. الأتابك ( أقطاى المستعرب ) عمل اجتماع للأمراء وطلب حضورهم بأسرع وقت وفى الاجتماع ده أعلن بيبرس إن هو اللى قتل قطز وهدفه من كده حسب كلامه إنه يقيم الدولة الصالحية على ما كانت عليه من نواميس ورسوم .. طبعاً الكلام إختلف عليه الأمراء فوقف بينهم الأتابك أقطاى وقالهم :

( اسمعوا يا أصحابنا .. والله لو كان الملك المظفر حياً أو له ولد له فى عنقنا يمين أول ما كان أقاتلكم بسيفى .. وإنما الساعة قد فات فيه الفوت .. ولا شك أن الذى قتله وغرر بنفسه وفعل هذا الأمر العظيم ما فعله لغيره ولا بذل نفسه وخاطر بها ليكون الأمر والنهى لغيره .. فمن قتله فهو أحق بمكانه )

فقام بيبرس وقعد على كرسى السلطان وبص للأمراء وقالهم :

( احلفوا )

فبص الأمراء لبعض ومتكلموش وهنا إتكلم الأتابك أقطاى مرة تانية وقال لبيبرس :

( هؤلاء الجماعة أكثرهم بطالون وقد خرجوا من شدة .. وإنما السلطان يحلف لهم أنه يواسيهم بما تصل قدرته إليه فى عاجل الوقت وبعد ذلك يحلفون للسلطان )

واخدين بالكم من الكلام .. إعتراف واضح وصريح إن عملية القتل تمت بغرض المصلحة وإن بيبرس على بلاطة كده مقتلش قطز عشان يطلع من المولد بلا حمص .. لأ .. ده هدفه إن الأمر والنهى يبقى ليه هو مش لحد تانى .. ومش بس كده .. ده حتى الأمراء المعزية اللى هما كانوا أعوان لقطز مكانتش مشكلتهم الأولى قتله ولكن اللى صرفوه فى الحرب ضد التتار فكانوا عاوزين وعد من بيبرس بتعويضهم قبل ما يبايعوه ..

هنا أنا مش هدفى الطعن فى بيبرس ولا حتى الأمراء المماليك ولكن هدفى أوضحلكم إزاى الناس دى كانت بتتعامل مع موضوع الإنقلاب والإغتيال وإن ده كان هو المنطق المقبول والمعتاد فى زمانهم بعكس نظرتنا للأمور فى زماننا الحالى ..

ـــــ

بيبرس فى الوقت ده كان عاوز يفضل فى الشام لفترة لحد ما وفود الأمراء تجيله وتبايعه لكن الأتابك أقطاى قاله :

( لا يتم لك الملك إلا بدخولك الى قلعة الجبل )

فقرر إنه يتحرك من الشام فوراً عشان يوصل القاهرة ليلة 19 ذى القعدة سنة 658 هجرياً .. أهل القاهرة وقتها كانوا زينوها وناموا ليلتهم وهما مجهزين نفسهم لإستقبال قطز وكانوا فرحانين جداً بعد الإنتصار على التتار فإذا بيهم يفاجئوا تانى يوم بالمنادى وهو بيقول :

( يا معشر الناس رحمكم الله .. ترحموا على الملك المظفر وادعوا لسلطانكم الملك ” القاهر ” ركن الدين بيبرس )

طبعاً الناس بصت لبعضها وإغتمت بشدة لإن سلطنة بيبرس معناها رجوع المماليك البحرية مرة تانية ودول كانوا ساقيين الشعب المرار قبل ما أيبك يطردهم من مصر فخافوا ليرجعوا ينتقموا منهم ولكن مكانش قدامهم إلا تحية بيبرس ورجالته والهتاف ليهم .. أما عن لقب الملك القاهر فده هو اللقب اللى أُطلق على بيبرس فى الأول ولكن تم تغييره بعد فترة قصيرة للملك الظاهر بناءاً على نصيحة الوزير ( زين الدين ابن زبير ) اللى قال لبيبرس عن اللقب ده :

( ما لقب به أحد فأفلح .. لُقب به القاهر ابن المعتضد فلم تطل إمامته وخُلع وسُمل .. ولقب به الملك القاهر بن صاحب الموصل فسم ولم تزد أيامه فى المملكة على سبع سنين )

ـــــ

أول شهرين لبيبرس فى السلطة كان نشيط جداً فيهم .. كان عاوز يمحى الصورة الذهنية السلبية للبحرية من أذهان الناس .. إعتمد على المماليك اللى كانوا شغالين مع الملك الصالح أيوب .. بعت رسايل للمماليك البحرية اللى هربوا زمان وعاشوا فى بلاد سلاجقة الروم عشان يرجعوا للقاهرة تانى .. ألغى كتير من الضرائب وقيل إن تم تخفيض حوالى 600 ألف دينار عن المصريين كان فرضها عليهم قطز بهدف تجهيز الجيوش لحرب التتار .. خاطب أمراء الأقاليم البعيدة وبلغهم بتوليه السلطة وطالبهم بإعلان طاعتهم ليه .. أفرج عن المساجين اللى إتحبسوا فى عهد قطز .. تقريباً كان بياخد إجراءات إصلاحية كل يوم بغرض كسب الشارع ..

بخلاف اللى فات فهو طرد ( المنصور بن عز الدين أيبك ) وأمه وأخوه لإمبراطورية نيقيا – غرب تركيا حالياً – عشان محدش منهم يطالب بالعرش مرة تانية .. أمر بموكب ليه يمر عبر القاهرة كلها من أول باب النصر لحد باب زويلة وده بهدف تأكيد السيادة .. بقى يشارك فى مسابقات القبق والقبق إسم تركى معناه القرع العسلى .. ودى لعبة أساسها مهارة الرماية بحيث يبقى فى هدف موجود وسط ساحة كبيرة بيتم إستهدافه عن طريق السهام والنشابات والهدف بيبقى أحياناً دايرة جواها كرة ذهبية أو فضية شبيهة بالقرع العسلى .. بإختصار كده .. كان عنده رغبة شديدة فى تأكيد الواقع الجديد وهو إنه أخيراً بقى على رأس السلطنة .. لكن مين قال إن ده كان كافى .. زى ما فى ناس وافقت على سلطنة بيبرس فى ناس تانية رفضت ..

بيبرس هتقوم ضده ثورتين فى أقل من سنة ونص ..

ـــــ