الجزء الثانى :
ــــــــــــــــــــــ
تجهز وفد المسلمين للذهاب إلى المدائن عاصمة فارس لمقابلة ( يزدجرد ) .. أربعة عشر رجلاً على رأسهم واحد من صحابة رسول الله هو ( النعمان بن مقرن المزنى ) .. وصل الوفد فاقتادهم الحرس إلى عرش كسرى وبعد السلام سألهم يزدجرد :
( ما الذى جاء بكم ودعاكم إلى غزونا والولوغ ببلادنا .. أمن أجل أننا تشاغلنا عنكم اجترأتم علينا ؟ )
فتكلم النعمان وقال :
( إن الله رحمنا فأرسل إلينا رسولاً يأمرنا بالخير وينهانا عن الشر ووعدنا على إجابته خيرى الدنيا والآخرة .. وأمرنا أن نبتدئ بمن خالفه من العرب .. فبدأنا بهم .. فدخلوا معه على وجهين .. مكره عليه فاغتبط وطائع فازداد .. فعرفنا جميعاً فضل ما جاء به على الذى كنا عليه من العداوة والضيق .. ثم أمرنا أن نبتدئ بمن جاورنا من الأمم فندعوهم إلى الإنصاف .. فنحن ندعوكم إلى ديننا .. وهو دين حَسَّن الحسن وقَبَّح القبيح كله .. فإن أبيتم فأمر من الشر أهون من آخر شر منه .. الجزية .. فإن أبيتم فالمناجزة .. فإن أجبتم إلى ديننا خلفنا فيكم كتاب الله وأقمنا على أن تحكموا بأحكامه ونرجع منكم وشأنكم وبلادكم .. وإن بذلتم الجزاء قبلنا منكم وشأنكم وبلادكم ومنعناكم – أى دافعنا عنكم إن إحتجتم إلينا – و إلا قاتلناكم )
فقال يزدجرد :
( إنى لا أعلم أمة فى الأرض كانت أشقى ولا أقل عدداً ولا أسوأ ذات بين منكم .. فقد كنا نوكل لكم قرى الضواحى فيكفونا أمركم .. ولا تطمعون أن تقوموا لفارس .. فإن كان غرور لحقكم فلا يغرنكم منا .. وإن كان الجَهْد – أى مشقة العيش – فرضنا لكم قوتاً إلى خصبكم وأكرمنا وجوهكم وكسوناكم وملكنا عليكم ملكاً يرفق بكم )
فقام واحد من الوفد هو ( المغيرة بن زرارة الأسدى ) وكان من أصحاب الرأى والفصاحة فقال :
( أيها الملك .. إن هؤلاء رؤس العرب ووجوههم وهم أشراف يستحيون من الأشراف وإنما يكرم الأشراف الأشراف ويعظم حقوق الأشراف الأشراف .. وليس كل ما أرسلوا له جمعوه لك ولا كل ما تكلمت به أجابوك عليه وقد أحسنوا ولا يحسن بمثلهم إلا ذلك فجاوبنى فأكون أنا الذى أبلغك ويشهدون على ذلك ..
إنك قد وصفتنا صفة لم تكن بها عالماً .. فأما ما ذكرت من سوء الحال فما كان أسوأ حالاً منا .. وأما جوعنا فلم يكن يشبه الجوع .. كنا نأكل الخنافس والجعلان والعقارب والحيات ونرى ذلك طعامنا .. وأما المنازل فإنما هى ظهر الارض ولا نلبس إلا ما غزلنا من أوبار الابل وأشعار الغنم .. دَينُنَا – أى طبعنا – أن يقتل بعضنا بعضاً وأن يبغى بعضنا على بعض وإن كان أحدنا ليدفن ابنته وهى حية كراهية أن تأكل من طعامه وكانت حالنا قبل اليوم على ما ذكرت لك .. فبعث الله إلينا رجلاً معروفاً نعرف نسبه ونعرف وجهه ومولده فأرضه خير أرضنا وحسبه خير أحسابنا وبيته خير بيوتنا وقبيلته خير قبائلنا وهو نفسه كان خيرنا فى الحال التى كان فيها أصدقنا وأحلمنا فدعانا إلى أمر فلم يجبه أحد ..
أول تَرِبْ كان له الخليفة من بعده .. فقال وقلنا وصدق وكذبنا وزاد ونقصنا فلم يقل شيئاً إلا كان فقذف الله فى قلوبنا التصديق له واتباعه فصار فيما بيننا وبين رب العالمين .. فما قال لنا فهو قول الله وما أمرنا فهو أمر الله فقال لنا إن ربكم يقول : أنا الله وحدى لا شريك لى كنت إذ لم يكن شيء وكل شيء هالك إلا وجهى وأنا خلقت كل شيء وإلى يصير كل شيء وإن رحمتى أدركتكم فبعثت إليكم هذا الرجل لأدلكم على السبيل التى أنجيكم بها بعد الموت من عذابى ولأحلكم دارى دار السلام فنشهد عليه أنه جاء بالحق من عند الحق .. وقال من تابعكم على هذا فله مالكم وعليه ما عليكم .. ومن أبى فاعرضوا عليه الجزية ثم امنعوه مما تمنعون منه أنفسكم .. ومن أبى فقاتلوه فأنا الحكم بينكم فمن قتل منكم أدخلته جنتى ومن بقى منكم أعقبته النصر على من ناوأه .. فاختر إن شئت الجزية وأنت صاغر .. وإن شئت فالسيف .. أو تسلم فتنجى نفسك )
فقال يزدجرد :
( أتستقبلنى بمثل هذا ؟ )
فقال المغيرة :
( ما استقبلت إلا من كلمنى ولو كلمنى غيرك لم أستقبلك به ؟! )
فغضب يزدجرد وقال :
( لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكم .. لا شيء لكم عندى )
ثم صاح فى رجاله بأن يأتوه بحمل ثقيل من التراب فلما أتوا به قال لرجاله :
( احملوه على أشرف هؤلاء ثم سوقوه حتى يخرج من باب المدائن )
كان يرغب بإهانة الوفد بعد أن رأى منهم تعنتاً فى المفاوضات .. فقام ( عاصم بن عمرو ) وقد تفاءل بهذا التراب بأن الله سوف يمنحهم أرضهم فقال :
( أنا أشرفهم )
ثم حمل التراب وخرج إلى راحلته فركبها فلما وصل إلى سعد قال له :
( أبشر يا سعد .. فوالله لقد أعطانا الله أقاليد – أى مفاتيح – ملكهم )
بعدها أمر يزدجرد جيوشه بالتحرك فجُهزت الجيوش بقيادة ( رستم ) الذى سار حتى عسكر على نهر يسمى نهر العتيق وفى الجهة المقابلة عسكر جيش المسلمين وقبل أن تبدأ المعركة أراد رستم اللعب على العامل النفسى لهزيمة المسلمين فأراد أن يظهر لهم أى عز يعيش فيه الفرس وأى قوة يتحلون بها فأمر بأن يقف الجند فى صفوف على أن يتقدمها أقوى فرسانهم وأضخمهم جثماناً وسلحهم جميعاً بأعلى تسليح ممكن ثم أمر جنوده بإعداد متكئاً له يشمل سرير مطعم بالذهب وبُسُط ووسائد مزخرفة بالذهب والفضة فلما انتهوا من إعداد تلك الزخارف أرسل رستم إلى سعد بن أبى وقاص لكى يرسل له رسولاً يناقشه ويحاوره فوافق سعد على طلبه عسى الله أن يحقن بهذا اللقاء الدماء ويمن على الفرس بالهداية فتقوى بهم شوكة الإسلام ..
سعد بن أبى وقاص قرر أن يرسل لهم واحداً من أدهى رجال العرب وأفصحهم لساناً هو ( ربعى بن عامر التميمى )
ـــــ
ما أن وصل ( ربعى بن عامر ) إلى خيمة ( رستم ) حتى فهم ما يدور فى خُلد الرجل فأراد أن يرد له الصاع صاعين ويُظهر له من هم المسلمون .. فى البداية قرر الدخول عليهم بحصانه ولم ينزل من عليه ثم قرر أن يطأ البساط المرصع بالذهب بأقدام الحصان فاستوقفه الجند طالبين منه أن ينزع سلاحه فرد عليهم قائلاً :
( إنى لم آتكم فأضع سلاحى بأمركم .. أنتم دعوتمونى .. فإن أبيتم أن آتيكم إلا كما أريد وإلا رجعت )
فعل هذا ورستم مضجع على سريره فى أخر البساط ويرى ما يحدث فأمرهم أن يتركوه يعبر فنزل من على فرسه وربطه بوسادتين من الوسائد المنثورة على جانبى البساط بعد أن شقهما شقاً ثم أمسك رمحه فجعل يتوكأ به على البساط قاصداً حتى يُخربه مع كل خطوة يخطوها فلما اقترب من رستم رشق رمحه فى البساط وجلس على الأرض لا يستند إلى شيء فلما دعوه لكى يستند إلى إحدى الوسائد رفض فسألوه عن السبب فقال :
( إنا لا نستحب القعود على زينتكم هذه )
فسأله رستم :
( ما جاء بكم ؟ )
فقال ربعى :
( الله ابتعثنا .. والله جاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه .. فمن قبل منا ذلك قبلنا ذلك منه ورجعنا عنه وتركناه وأرضه يليها دوننا ومن أبى قاتلناه أبداً حتى نفضى إلى موعود الله )
فقال رستم :
( وما موعود الله ؟ )
قال ربعى :
( الجنة لمن مات على قتال من أبى والظفر لمن بقى )
فقال رستم :
( قد سمعت مقالتكم .. فهل لكم أن تؤخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه وتنظروا ؟ )
قال ربعى :
(نعم كم أحب إليكم .. أيوماً أويومين ؟ )
قال رستم :
( لا .. بل حتى نكاتب أهل رأينا ورؤساء قومنا )
فقال ربعى :
( إن مما سن لنا رسول الله ﷺ وعمل به أئمتنا ألا نمكن الأعداء من آذاننا ولا نؤجلهم عند اللقاء أكثر من ثلاث .. فنحن مترددون عنكم ثلاثاً فانظر فى أمرك وأمرهم واختر واحدة من ثلاث بعد الأجل .. اختر الإسلام وندعك وأرضك .. أو الجزاء فنقبل ونكف عنك .. وإن كنت عن نصرنا غنياً تركناك منه وإن كنت إليه محتاجاً منعناك .. أو المنابذة فى اليوم الرابع ولسنا نبدؤك فيما بيننا وبين اليوم الرابع إلا أن تبدأنا .. أنا كفيل لك بذلك على أصحابى وعلى جميع من ترى )
قال :
( أسيدهم أنت ؟ )
قال :
( لا .. ولكن المسلمين كالجسد بعضهم من بعض يُجير أدناهم على أعلاهم )
ثم انصرف ربعى بعد أن أوصل رسالته على أفضل طريقة ممكنة فها هو يستهين بالدنيا وزخارفها وها هو يبلغ رستم رسالة التوحيد وها هو يريه أن كتاب الله وسنة نبيه هى المنهج الذى يسير عليه المسلمين وها هو يتحدث بلسان المسلمين أجمعين ويوضح له مدى توحدهم وكأنهم بنيان مرصوص ..
ـــــ
مصادر :
ـــــــــــــ
( * ) تاريخ الطبرى – الجزء الثالث – ص 498 : 501
ـــــ