أيام عمر بن الخطاب الأخيرة


الجمعة .. الحادى والعشرون من ذى الحجة .. العام الثالث والعشرين للهجرة ..

عمر بن الخطاب أمير المؤمنين يخطب فى الناس ويقول :

( رأيت كأن ديكاً نقرنى .. ولا أراه إلا حضور أجلى .. وإن قوماً يأمروننى أن أستخلف .. وإن الله لم يكن ليضيع دينه وخلافته والذى بعث به نبيه .. فإن عجل بى أمر فالخلافة شورى بين هؤلاء الرهط الستة الذين توفى رسول الله ﷺ وهو عنهم راض )

ـــــ

الثلاثاء .. الخامس والعشرين من ذى الحجة .. العام الثالث والعشرين للهجرة ..

عمر بن الخطاب أمير المؤمنين يمشى فى السوق يتفقد أحوال الرعية كما العادة فيستوقفه فيروز أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة قائلاً له :

( يا أمير المؤمنين .. أعدنى على المغيرة بن شعبة فإن على خراجاً كثيراً )

فقال عمر :

( وكم خراجك ؟ )

قال :

( درهمان فى كل يوم )

فقال عمر :

( وما صناعتك ؟ )

قال :

( نجار وحداد ونقاش )

فقال عمر :

( ما أرى خراجك بكثير على ما تصنع من الأعمال .. وقد بلغنى أنك تقول لو أردت أن أعمل رحى تطحن بالريح فعلت )

قال أبو لؤلؤة :

( نعم )

فقال عمر :

( فاعمل لى رحى )

فنظر أبو لؤلؤة إلى عمر نظرة لها معنى ثم قال :

( لإن سلمت لأعملن لك رحى يتحدث بها من بالمشرق والمغرب )

ثم انصرف عنه .. فقال عمر لمن كان معه :

( لقد توعدنى العبد آنفاً )

ـــــ

الأربعاء .. السادس والعشرين من ذى الحجة .. العام الثالث والعشرين للهجرة ..

يخرج عمر بن الخطاب من بيته متوجهاً إلى المسجد ليصلى بالمسلمين صلاة الفجر فيدخل رضى الله عنه إلى المسجد ويمر بين الصفوف قائلاً :

( استووا )

استوت الصفوف وأخذ عمر مكانه وبدأ بالقراءة .. بعد لحظات يظهر شخص بجانبه ممسكاً خنجر له نصلان فيكيل له ثلاث طعنات – وقيل ستة – أكثرهن فداحة تلك التى نالها تحت سرته فيسقط على الأرض متألماً وهو يقول للمصلين :

( قتلنى – أو أكلنى – الكلب )

ثم سقط على الأرض وهو يتلو :

( وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا ) #الأحزاب_38

حاول المصلون التصدى له إلا أن الخنجر ذى النصلين كان قد تم إعداده لموقف مثل هذا فأصيب كل من حاول الإقتراب من القاتل .. ثلاثة عشر من المصلين أصيبوا توفى منهم ستة من أثر الجراح .. وبينما يحاول القاتل الفرار إذا بأحد المسلمين يلقى عليه رداءه فيعيقه عن الهرب فتكتل عليه الناس لإمساكه فأدرك القاتل أنه مأخوذ فنحر نفسه بخنجره .. كشف الناس عنه فإذا هو فيروز أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة ..

ـــــ

تجمع المسلمون حول عمر محاولين إسعافه إلا أن تلك الطعنة يبدو أنها قد وصلت لمبتغاها ونالت بالفعل منه فلم يستطع القيام فاستخلف عبد الرحمن بن عوف لإكمال الصلاة بالناس ثم سقط مغشياً عليه من شدة النزيف فنقلوه إلى داره فلما أفاق كان أول ما نطق به :

( أصلى الناس ؟ )

فأجابوه أن نعم .. فقال :

( لا إسلام لمن ترك الصلاة )

ثم دعا بماء فتوضأ وصلى وجروحه تنزف ثم عاد إلى سريره فسأل عن هوية قاتله فأجابوه أنه غلام المغيرة فقال :

( ما له قاتله الله ؟ .. والله لقد كنت أمرت به معروفاً .. الحمد لله الذى لم يجعل ميتتى بيد رجل يدعى الإسلام )

ثم قال :

( قد نهيتكم أن تجلبوا علينا من علوجهم أحداً فعصيتمونى )

ثم نظر لابن عباس وقال :

( لقد كنت أنت وأبوك تحبان أن تكثر العلوج فى المدينة )

قال ابن عباس :

( إن شئت فعلنا )

فقال عمر :

( أبعدما تكلموا بكلامكم وصلوا بصلاتكم ونسكوا نُسككم )

وكان رضى الله عنه لا يأذن للسبايا أن تقيم فى المدينة المنورة عاصمة الخلافة الإسلامية لأنه كان يعتقد أن هؤلاء السبايا لابد وأن الحقد يملأ قلوبهم تجاه هذا الدين وأنهم مهيئون للتآمر والكيد ضد الإسلام والمسلمين ولكن بعض الصحابة ألح عليه بالموافقة على إقامتهم فى المدينة لإحتياجهم لهم فى قضاء أعمالهم فقبل عمر طلبهم على مضض وحدث ما كان يتوقعه بالضبط ..

ـــــ

أراد الصحابة أن يتأكدوا من مدى خطورة إصابته فأتوا له بالنبيذ ( ماء منقوع فيه بعض التمر ) فلما شربه خرج من جرحه أحمر اللون فلم يتيقنوا من حجم الإصابة فجاءوا له بلبن فلما شربه خرج من جرحه أبيض اللون فتيقن الجميع أنه ميت لا محالة فقال له الطبيب :

( اعهد يا أمير المؤمنين )

أول ما فعله عمر بعد التيقن من قضاء الله نادى على ابنه عبد الله فقال له :

( انظر ما على من الدين .. إن وفى به مال آل عمر فأده من أموالهم وإلا فسل فى بنى عدى بن كعب فإن لم تف أموالهم فسل فى قريش ولا تعدهم إلى غيرهم فأدّ عنى هذا المال )

ثم أكمل :

( وانطلق إلى عائشة أم المؤمنين فقل يقرأ عليك عمر السلام ولا تقل أمير المؤمنين فإنى لست اليوم للمؤمنين أميراً وقل يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه )

فلما ذهب وجدها جالسة تبكى فأخبرها بالخبر فقالت :

( كنت أريده لنفسى ولأؤثرنه به اليوم على نفسى )

وكانت رضى الله عنها كلما أرسل لها أحدٌ من الصحابة يطلب منها أن يدفن بجوار رسول الله ﷺ ترفض وتقول :

( لا والله لا أؤثرهم بأحد أبداً )

فرجع عبد الله إلى أبيه مرة أخرى فلما رآه عمر آتياً طلب ممن حوله أن يرفعوه فأسنده رجل إليه فقال :

( ما عندك )

قال عبد الله :

( الذى تحب يا أمير المؤمنين .. أذنت )

فقال عمر :

( الحمد لله .. ما كان من شيء أهم إلى من ذلك .. فإذا أنا قضيت فاحملنى ثم سلم فقل : يستأذن عمر بن الخطاب فإن أذنت لى فأدخلونى وإن ردتنى ردونى إلى مقابر المسلمين )

ـــــ

إن حسبت أن الأمر انتهى عند هذا فأنت مخطىء .. نحن نتحدث عن عمر بن الخطاب .. عمر امتد عمره منذ لحظة طعنه بالخنجر حتى فاضت روحه إلى بارئها ثلاثة أيام .. ثلاثة أيام يعانى عمر آثار الجراح وويلات الألم وبالرغم من ذلك لم يشغله سوى مستقبل الأمة من بعده ..

وضع عمر نظاماً جديداً وفريداً لإختيار الخليفة من بعده .. نظاماً كان هو الأصلح لظروف الأمة وقتها يضمن به ألا ينفرط عقدها بعد وفاته .. لقد إتخذ عمر مبدأ الشورى سبيلاً لإختيار الخليفة القادم ولكنها كانت شورى مشروطة فقد حدد ستة من الصحابة يختاروا فيما بينهم واحداً منهم .. ليس هذا فقط .. فقد حدد لهم طريقة الإنتخاب .. ومدته .. وعدد الأصوات الكافية للإنتخاب إلى أخر الأمور التنظيمية الأخرى ..

وقد اختار لهذا عثمان بن عفان وعلى بن أبى طالب وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبى وقاص والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله .. أما عن طريقة الإنتخاب فكانت بإجتماع الستة فى بيت أحدهم فلا يخرجوا منه إلا وهم متفقين على واحد منهم .. أما عن مدة الإنتخاب فلا تزيد على ثلاثة أيام وإلا اضطربت أوضاع المسلمين لتأخر إختيار الخليفة .. أما إن تساوت الأصوات بأن يكون كل ثلاثة متفقين على أحدهم فيعودون إلى عبد الله بن عمر ورأيه هنا يكون إستشارياً لا إلزامياً .. أما إن لم يرضى أى الفريقين برأى عبد الله بن عمر فترجح الكفة التى فيها عبد الرحمن بن عوف ..

إضافة لما سبق فقد أمر أبو طلحة الأنصارى والمقداد بن الأسود بأن يجمعها رهطاً من الناس فيراقبون عملية الشورى ليضمنوا إتمامها على الشكل الذى أقره عمر .. وأمر صهيب الرومى بأن يصلى بالناس ريثما يتم إختيار الخليفة الجديد وأخبره أنه إذا ما اجتمع هؤلاء الستة على إسم أحدهم فلا يخالفهم أحد ومن خالفهم فى رأيهم تضرب عنقه فذلك أحرى ألا يتفرق رأى المسلمين وتُشَق عصاهم ..

تخيل أن كل هذا أتمه عمر وهو طريح الفراش يعانى جراحاً قاتله وألاماً مبرحة يكاد لا يغمض جفنه بسببها .. ولم يكتفى بكل ما سبق بل كتب وصية شاملة جامعة ووجهها إلى الخليفة الذى سيأتى من بعده ينصحه فيها ويوصيه فجاء فى جزء منها :

( أوصيك بتقوى الله لا شريك له .. وأوصيك بالمهاجرين الأولين خيراً أن تعرف لهم سابقتهم .. وأوصيك بالأنصار خيراً فاقبل من محسنهم وتجاوز عن مسيئهم .. وأوصيك بأهل الأمصار خيراً فإنهم ردء العدو وجباة الأموال و الفيء لا تحمل فيئهم إلا عن فضلٍ منهم .. وأوصيك بأهل البادية خيراً فإنهم أصل العرب ومادة الإسلام أن تأخذ من حواشى أموال أغنيائهم فتُرَد على فقرائهم .. وأوصيك بأهل الذمة خيراً أن تقاتل من وراءهم ولا تكلفهم فوق طاقتهم إذا أدّوا ما عليهم للمؤمنين طوعاً أو عن يد وهم صاغرون .. وأوصيك بتقوى الله وشدة الحذر منه ومخافة مقته أن يطلع منك على ريبة .. وأوصيك أن تخشى الله فى الناس ولا تخشى الناس فى الله .. وأوصيك بالعدل فى الرعية والتفرغ لحوائجهم وثغورهم ولا تؤثر غنيهم على فقيرهم فإن فى ذلك – بإذن الله – سلامةٌ لقلبك وحَطٌ لوزرك وخير فى عاقبة أمرك حتى تُفضى من ذلك إلى من يعرف سريرتك ويحول بينك وبين قلبك )

وجاء فى جزء أخر منها :

( وأنشدك الله لَمّا ترحمت على جماعة المسلمين فأجللت كبيرهم ورحمت صغيرهم ووقرت عالمهم .. ولا تضربهم فيذلوا .. ولا تستأثر عليهم بالفيء فتغضبهم .. ولا تحرمهم عطاياهم عند محلّها فتفقرهم .. ولا تَجمُرَهم فى البعوث فتقطع نسلهم .. ولا تجعل المال دُولة بين الأغنياء منهم .. ولا تغلق بابك دونهم فيأكل قويهم ضعيفهم .. هذه وصيتى إياك وأشهد الله عليك وأقرأ عليك السلام )

ـــــ

فى ساعته الأخيرة دخل عليه عثمان بن عفان فوجده ممداً ورأسه فى حجر ابنه عبد الله فسلم عليه وانتظر عنده فإذا بعمر يقول لابنه :

( ضع خدى بالأرض )

فقال عبد الله :

( فهل فخذى والأرض إلا سواء ؟ )

فقال :

( ضع خدى بالأرض لا أم لك )

فوضعه عبد الله فشبك عمر بين رجليه وقال :

( ويلى .. وويل أمى .. إن لم يغفر الله لى )

وكانت تلك أخر كلماته وظل يكررها حتى فاضت روحه إلى بارئها ..

ـــــ

مصادر :
ـــــــــــــ

( * ) أنساب الأشراف للبلاذرى – الجزء 7 – ص 119
( * ) الخلفاء الراشدون لعبد الوهاب النجار – ص 172
( * ) طبقات ابن سعد – الجزء الثالث – ص 313 : 321
( * ) سيرة عمر بن الخطاب لابن الجوزى – الباب 63
( * ) البيان والتبيين للجاحظ – الجزء الأول – ص 31 / 32
( * ) طبقات ابن سعد – الجزء الثالث – ص 334

ـــــ