لمحات من حياة ألب أرسلان

لمحات من حياة ألب أرسلان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عام 455 هجرياً – 1063 ميلادياً وصل ألب أرسلان إلى سدة الحكم فى واحدة من أكبر وأهم الدول فى التاريخ الإسلامى عبر تاريخه .. الدولة السلجوقية .. فسار على نهج عمه طغرل بك فى رفع راية الجهاد وإعادة توحيد الدولة الإسلامية التى كانت قد تففكت وتحولت إلى دويلات متناحرة ..

فى البداية قسم ألب أرسلان جيوش الدولة إلى ثلاثة أقسام .. أولهم تحرك ناحية الشام وثانيهم تحرك ناحية بلاد العرب لإنتزاع تبعيتهم من الدولة الفاطمية وثالثهم تحرك ناحية بلاد الروم وكان أهم الجيوش بالنسبة إليه حتى أنه وضع نفسه على رأس هذا الجيش ..

مع الوقت تمكن ألب أرسلان من فتح أرمينيا وجورجيا فى الوقت الذى تمكن فيه جيشاه الآخران من السيطرة على حلب والرملة وبيت المقدس ومكة والمدينة .. تلك الإنتصارات والفتوحات أخافت الإمبراطورية الرومانية وحاكمها الإمبراطور ( رومانوس ديوجينيس – Romanos Diogenes ) المعروف بإسم رومانوس الرابع والذى خشى ألا تقف طموحات المسلمين عند هذا الحد فتزيد أطماعهم فى القسطنطينية عاصمة إمبراطوريتهم فقرر تحريك جيشاً عظيماً لردهم .. حدث هذا فى أغسطس عام 463 هجرياً – 1071 ميلادياً .. تحديداً فى مَلاذ كَرْد داخل الحدود التركية حالياً ..

ـــــ

ما فعله جيش الدولة السلجوقية بقيادة ألب أرسلان فى ملاذ كرد يعتبر إعجازاً إذا ما قورنت تجهيزات الجيشين .. جيش المسلمين تكون من خمسة عشر ألف مقاتل وأعلى التقديرات التاريخية رفعت العدد إلى ثلاثون ألف أما جيش الروم فقد إختلفت الأرقام وظهرت عليها بعض المبالغة إلا أن أشهر الروايات قالت إن عددهم قارب على المائتى ألف شملوا كل طوائف النصارى بدءاً من الإمبراطور نفسه مروراً بالبطارقة والكهنة والوزراء والفرسان والمشاة بالإضافة للحفارين والروزجار – المرتزقة الذين يعملون مقابل أجر يومهم – وبخلاف العدد فالتجهيزات الحربية شملت أربعمائة عربة تحمل الأسلحة والدروع ومستلزمات الخيول .. شملت أيضاً عدداً كبيراً من المجانيق منهم منجنيق تكفل به ألف ومائتان رجل دلالة على كبر حجمه وثقل وزنه ..

على الرغم من شجاعة ألب أرسلان إلا أنه لما علم بتجهيزات الروم رأى أن الجنوح للسلم أولى ولكنه أراد أن يجنح لها بكبرياء فقرر أن يقوم بشن عدة غارات سريعة وخاطفة يكبد فيها الروم أكبر خسائر ممكنة وكان يقصد بهذا أن يتفاوض على الصلح من موقع القوى لا الضعيف ويروى أنه بعد أن حقق ما أراد أرسل لإمبراطور الروم يعرض عليه الهدنة فقال :

( إن كنت ترغب فى الهدنة أتممناها و إن كنت تزهد فيها وكَّلنا الأمر إلى الله عز و جل )

فما كان من رومانوس إلا أن رفضها بل وزاد أن قال أنه لا تراجع قبل أن تصل جيوش الروم إلى مدينة الرِى وهى إحدى حواضر السلاجقة فى إيران حالياً ..

ـــــ

بمجرد أن أيقن ألب أرسلان أن الحرب هو خيار الروم بدأ فى تشجيع جنوده وتذكيرهم بالله عز وجل وبالجنة وبلقاء رسول الله ﷺ و كيف أن اليوم هو يوم من أيام الله وشدد على ضرورة الصبر عند لقاء العدو وروى أنه قال لمن حوله :

( أنا ألتقيهم صابراً محتسباً .. فإن سلمت فبنعمة الله تعالى .. و إن كانت الشهادة فإبنى ملكشاه ولى عهدى )

أما عن إختيار ميعاد المعركة فقد خصه إمامه وفقيهه أبو نصر محمد بن عبد الملك البخارى بنصيحة قال له :

( أنت تقاتل عن دين وعد الله بنصره وإظهاره على سائر الأديان وأرجو أن يكون الله قد كتب باسمك هذه الفتح فالقهم يوم الجمعة فى الساعة التى يكون الخطباء على المنابر فإنهم يدعون للمجاهدين )

فلما أتى وقت المعركة صلى ألب أرسلان بالجند ثم دعا ربه وبكى فبكى الجند لبكاؤه فلما انتهى توجه لمن حوله قائلاً :

( من أراد الإنصراف فلينصرف .. فما ههنا سلطان بأمر ولا بنهى )

ثم أخذ سيفه وعقد ذنب فرسه ولبس ملابس بيضاء وتطيب ثم استدار لمن حوله فقال :

( إن قتلت فهذا كفنى )

ـــــ

عبر تاريخ المسلمين هناك معارك يصعب وصفها إذ أن موازين القوى تجعل مهمة المؤرخين فى وصف ما حدث شبه مستحيلة .. كيف يتقبل العقل أن يتغلب أقل من عشرون ألف مقاتل على جيش به التجهيزات السابق ذكرها .. الحقيقة أن معارك مثل تلك وإن سطر أبطال المسلمين فيها ملاحم وبطولات عديدة إلا أن الواقع يقول أنها معية الله التى أحاطت بتلك الفئة المؤمنة .. حجر واحد من أى منجنيق كان كفيلاً بسحق مئات الجنود المسلمين ولكن ذلك لم يحدث .. عدد جند الروم كان كافياً لأن يلتفوا على المسلمين ويحيطوهم من كل جانب لكن ذلك لم يحدث .. إذاً فالأمر كله مرده ومآله إلى الله وأن الله هو الصانع وأن ألب أرسلان وجنوده صدقوا الله فصدقهم وأيدهم بنصر من عنده ..

ما حدث فى المعركة كان معجزة بكل المقاييس .. حاول أن تتخيل معى ما حدث .. ما أن إنقشع غبار المعركة حتى اتضحت الصورة .. جنود الروم يفرون فى كل مكان على غير هدى .. الكثير منهم أخذ فرسه وهرب وفى طريق هروبه يصطدم بزملاؤه فيوقعهم أرضاً .. الكثير منهم يتخفف من دروعه ليسهل عليه الهرب .. الكثير منهم يحتمى بالخيام هرباً من القتل .. الكثير منهم ألقى سلاحه وقرر أن يستسلم .. آلاف القتلى .. و الأهم .. آلاف الأسرى ..

لماذا الأسرى أهم ؟

لأن من بينهم رومانوس ديوجينيس إمبراطور الروم نفسه ..

ـــــ

بعد أن إنتهت المعركة ودفن الموتى من الجانبين طلب ألب أرسلان أن يأتوه برومانوس ففعلوا فضربه ثلاث ضربات بيده ثم قال له :

( ألم أرسل إليك فى الهدنة فأبيت ؟ )

فقال رومانوس بكبرياء الملوك :

( دعنى من التوبيخ وافعل ما تريد )

فقال ألب أرسلان :

( ما كان عزمك أن تفعل بى لو أسرتنى ؟ )

قال :

( أفعل القبيح )

قال :

( فما تظن أننى أفعل بك ؟ )

قال :

( إما أن تقتلنى .. وإما أن تشهرنى فى بلاد الإسلام .. والأخرى بعيدة وهى العفو وقبول الأموال واصطناعى نائباً عنك )

فقال ألب أرسلان :

( ما عزمتُ على غير هذه )

والمقصود أن رومانوس ظن أن القتل أقرب الإختيارات وإن لم يكن فأقرب ما يكون هو أن يبعثه ألب أرسلان إلى بلاد المسلمين فيراه عامة الناس مأسوراً وفى هذا إهانة بالغة له وإن لم يكن هذا أو ذاك فأبعد الإحتمالات أن يتم العفو عنه ويفتدى نفسه وأن يكون نائباً لألب أرسلان على الأراضى التى فتحها الله على يديه وهو ما حدث بالفعل ..

أما عن شروط العفو فكانت كثيرة و جميعها فى صالح المسلمين :

1 – فداء رومانوس لنفسه بمبلغ مليون ونصف المليون دينار

2 – إطلاق سراح كافة الأسرى المسلمين فى أراضى الروم حتى أولائك الذين أسروا فى المعارك السابقة لمعركة ملاذ كرد

3 – معاهدة بين المسلمين والروم مدتها خمسون عاماً يلتزم خلالها الروم بدفع الجزية للمسلمين

4 – إعتراف الروم بسيادة المسلمين على كافة الأراضى التى فتحوها مع التعهد بعدم الإعتداء عليها

شروط دلت على عزة المسلمين فى ذلك الوقت وأظهرت التطور الكبير الذى طرأ على الدولة الإسلامية منذ أن تولى السلاجقة قيادتها وكيف أنهم حولوها من مجموعة من الدويلات المتناحرة إلى قوة لا يستهان بها تنتصر على واحدة من أكبر الإمبراطوريات فى العالم وتفرض عليها الجزية لخمسون عاماً قادمة ..

رحم الله ألب أرسلان .. أبو شجاع .. عضد الدولة .. محمد بن جغرى بك السلجوقى ..

ـــــ

مصادر :
ــــــــــــــــــــ

* الموسوعة الشاملة في تاريخ الحروب الصليبية – سهيل زكار – الجزء الأول ص : 440
* تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام – شمس الدين الذهبى – الطبقة السابعة والأربعون ص : 104
* الكامل فى التاريخ لإبن الأثير – الجزء الثامن ص : 141