من عظماء المسلمين .. البراء بن مالك

من عظماء المسلمين .. البراء بن مالك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فى إحدى ديار بنى النجار أحد بطون قبيلة الخزرج أنجبت مليكة بنت ملحان ولدان من زوجها مالك بن النضر هما أنس والبراء .. أما عن أبوهما فمات فى الجاهلية وأما عن أنس فألحقته والدته بخدمة رسول الله ﷺ فظل خادماً له عشر سنين بعد هجرته إلى المدينة المنورة وهو راوٍ مشهور للحديث وصاحب مساهمات فعالة فى الفتوح ..

أما البراء فكان حسن الصوت فالتحق بخدمة النبى يحدو له ناقته – أى يغنى لها – ليحثها على السير .. أسلم بعد الهجرة وحضر كل الوقائع التى حدثت بعد معركة بدر .. حضر أيضاً بيعة الرضوان وبايع النبى على قتال المشركين على ألا يفر أمامهم أبداً .. حَسُن إسلامه حتى أن النبى ﷺ بشره بأنه مستجاب الدعوة فى حديث شريف قال فيه :

( كم من أشعث أغبر ذِى طِمرين لا يُؤبه به لو أقسم على الله لأبره .. منهم البراء بن مالك )

ـــــ

عرف عن البراء أنه كان ذو شجاعة تصل إلى درجة التهور حيث كان يبحث دوماً عن الشهادة فيضع نفسه فى المواضع التى قد تأتيه بها .. يروى أخاه أنس بن مالك فيقول :

( دخلت على البراء بن مالك وهو يَتَغنَّى فقلت له : قد أبدلك الله ما هو خير منه – يقصد القرءان – فقال : أترهب أن أموتَ على فِراشى .. لا والله .. ما كان الله ليحرمنى ذلك – يقصد الشهادة – وقد قتلت مائة منفرداً سوى من شاركتُ فيه )

البراء رضى الله عنه كان على يقين من رحمة الله به وأنه لن يُضيع عليه أجر الشهادة واستدل بذلك أنه قتل مئة من المشركين فى مبارزات فردية دون أولئك الذين قتلهم فى وغى المعارك ..

ـــــ

اشترك البراء فى حروب الردة ضمن قوات خالد بن الوليد ورغم أن خالد تمكن بقدراته العسكرية الفذة فى الإنتصار بكل معاركها إلا أن معركة اليمامة تحديداً صعبت عليه بسبب قوة جيش مسيلمة الكذاب وإنضمام عشرات الآلاف إليه فى حين عانى جيش المسلمين من قلة العدد بالإضافة للإنهاك من كثرة المعارك التى خاضها قبل اليمامة ..

وقد روى أنه لما اشتد القتال حينها وتراجع المسلمين أمام هجمات المرتدين ركب البراء فرسه فحمد الله وأثنى عليه ثم صاح فى الجند :

( أيها الناس .. إنها والله الجنة وما لى إلى المدينة سبيل .. يأهل المدينة .. لا مدينة لكم اليوم وإنما هو الله وحده والجنة )

ثم حَمَل ومن معه فما عادوا إلا والمرتدين متراجعون أمامهم .. ورغم الإنتصار المبدئى للمسلمين فى اليمامة إلا أنه وبسبب طبيعة أرض المعركة تمكن المرتدين من الإنسحاب والإحتماء ببستان واسع له سور عالٍ كانوا يطلقون عليه الحديقة .. الإحتماء بذلك المكان سيفرض على المسلمين ضرب حصار سيطول أمده بسبب الوفرة الزراعية لمنطقة اليمامة وقد يفرض أيضاً ظروف تفاوضية أفضل لمسيلمة وأتباعه .. إذا لم يجد أحدهم حلاً لربما تغيرت النتائج بعدما اقترب المسلمين من تحقيق النصر ..

يجب على أحدهم التصرف .. وبسرعة ..

ـــــ

بعد دقائق من إغلاق باب الحديقة وقف البراء بن مالك بين مقاتلى المسلمين وقال :

( يا قوم .. ارفعونى برماحكم فألقونى إليهم )

نظر بعضهم إلى بعض من شدة تهور الفكرة ولكن لما لا .. لعل البراء ينجح فى مغامرته .. فاحتملوه رضوان الله عليهم بسهولة لأنه كان صغير الحجم هزيل اللحم خفيف الوزن ثم قذفوه إلى الداخل فركض بأسرع ما يمكنه ناحية الباب بغية فتحه مستغلاً عنصر المفاجأة قبل أن يستفيق المرتدين من دهشتهم ويعترضوا طريقه فصبر رضى الله عنه على ضرباتهم محتمياً بدرعه قبل أن يتمكن من فتح باب الحديقة وعندها اندفع المسلمين كالسيل تجاه المرتدين فأثخنوا فيهم حتى استطاعوا قتل مسيلمة الكذاب بحربة وحشى وسيف أبو دجانة رضوان الله عليهم ..

أما عن البراء فقد وجدوه بجوار البوابة مضرجاً فى دماؤه وفى جسده بضعٌ وثمانون جرحاً وقد قام خالد بن الوليد رضى الله عنه على علاجه شهراً كاملاً ..

ـــــ

موقف أخر من مواقف شجاعة البراء بن مالك الغير محدودة هو ما حدث أثناء فتوح العراق وفارس حيث تراجع الفرس للإحتماء فى أحد الحصون فحاصرهم المسلمون فأراد المشركين فك حصارهم خاصة بعد أن طالت فترته فاستخدموا وسيلة دفاع جديدة نسبياً .. كان يلقون من اسوار الحصن سلاسل مثبت فى أطرافها كلاليب من حديد مُحْمَاة على النار ثم يلقونها على المسلمين فإذا أصابت أحدهم إلتصقت بجسده فيرفعونه إليهم فيصعد لهم إما ميتاً و إما على وشك الموت ..

أحد تلك الكلاليب أصابت ذراع أنس بن مالك رضى الله عنه فعلم البراء بما حدث له فانطلق ناحيته وقد بدأ جنود الفرس فى سحبه لأعلى فما كان منه إلا أن تمسك بالسلسلة ونزع الكلاليب من ذراع أخيه ثم وقع على الأرض فإذا بلحم يديه قد ذاب وظهرت منه عظام كفيه وقد ظل يُعالج من أثر تلك الإصابة لفترة طويلة حتى استعاد عافيته ..
يروى إسحاق بن عبد الله بن أبى طلحة فيقول :

( بينما أنس بن مالك وأخوه البراء بن مالك عند حصن من حصون العدو والعدو يلقون كلاليب فى سلاسل محماة فتعلق بالإنسان فيرفعونه إليهم .. فعلق بعض تلك الكلاليب بأنس بن مالك فرفعوه حتى أقلوه من الأرض .. فأتى أخوه البراء بن مالك فقيل : أدرك أخاك وهو يقاتل فى الناس فأقبل يسعى حتى نزل فى الجدار ثم قبض بيده على السلسلة وهى تدار فما برح يجرهم ويداه تُدخنان حتى قطع الحبل ثم نظر إلى يديه فإذا عظامها تلوح قد ذهب ما عليها من اللحم )

تلك الجرأة المبالغ بها هى ما جعلت عمر بن الخطاب رضى الله عنه يكتب إلى قادة جيوشه لما تولى إمارة المؤمنين ويقول لهم :

( لا تستعملوا البراء على جيش من جيوش المسلمين .. فإنه مهلكة من المهالك يقدم بهم )

ـــــ

أما عن وفاته رضى الله عنه فقد روى أنه استشهد فى معركة تَستُر .. وهى إحدى المعارك الكبرى فى فتوح بلاد فارس حيث جمع لها يزدجرد كسرى الفرس جُل طاقته المتاحة بعد سقوط المدائن عاصمة إمبراطوريته ..
أما عن تستر نفسها فقد وصفت أنها أقدم وأحصن مدن بلاد فارس .. محاطة بخندق عميق مملوء بالمياه من ثلاثة جهات والجهة الرابعة على رأسها جيش عظيم للفرس .. تمتاز بالوفرة الزراعية ويمر بجوارها أحد الأنهار وأقام الفرس على أسوارها روافع لرفع الماء إليها بالإضافة لإحتواءها على مخزون كبير من الحبوب يكفيها لتحمل حصار المسلمين مهما طال وقته .. بنيت تستر فى منطقة عالية وأحيطت بسور ضخم مبنى على مرحلتين متوازيتين بالإضافة لإحتواء أسوارها على أبراج عالية جداً يقبع فيها أمهر رماتهم .. فحتى لو تمكن المسلمون من عبور مياه الخندق فإنهم سيواجهون عائق السور الأول ولو عبروه فإنهم سيواجهون عقبة السور الثانى وكل ذلك سيحدث بينما يمطرهم الرماة بالأسهم من كل إتجاه ..

فبأى كلفة سيعبرون ؟

وكيف بالمتبقى منهم أن يتمكنوا من إقتحام المدينة ؟

ـــــ

استمر حصار تستر لعام ونصف تخللها هجمات خاطفة من الفرس ينالون فيها من المسلمين ثم يعودون أدراجهم سريعاً كلما انقلبت الأمور ضدهم حتى ضاق المسلمين ذرعاً مما يحدث فذهب بعضهم إلى البراء بن مالك وقالوا له :

( يا براء .. إن رسول الله ﷺ قال إنك لو أقسمت على الله لأبرك فأقسم على ربك )

فقال :

( أقسم عليك يا رب لَمَا منحتنا أكتافهم وألحقتنى بنبيك )

تمنى النصر للمسلمين والشهادة لنفسه مثلما تمناها دوماً ولكن تلك المرة مختلفة .. تلك المرة دعى بها الله عز وجل وكان حقاً على الله أن يستجيب لدعاؤه تصديقاً لكلام رسوله ﷺ ..

ولكن كيف ينتصر المسلمون مع معطيات مثل التى ذكرناها منذ قليل ؟

ـــــ

دعاء البراء أُستجيب فوراً بأن انتصر المسلمين فى إحدى الوقائع الكبرى بين الطرفين فتراجع الفرس كما هى العادة ليحتموا بأسوار المدينة ولكن فى تلك المرة ألقى الله الرعب فى قلوبهم وانعكس هذا على تصرفاتهم فاختلفوا فيما بينهم .. أحد رجالهم رأى ما بينهم من إختلاف فخشى على نفسه وماله فكتب رسالة قال فيها أنه يعلم طريقاً لدخول المدينة يستطيع أن يدل المسلمين عليه إذا ما أَمّنوه على نفسه وأهله ثم أرفقها فى أحد الأسهم وأطلقه ناحية معسكر المسلمين فنزل السهم بالقرب من أبو موسى الأشعرى أمير جيش البصرة يومئذ فلما قرأها وافق على ما فيها وأَمّن الرجل برسالة مماثلة أطلقها إلى الجهة التى جاءه السهم منها ..

مهمة إنتحارية مثل تلك تصدى لها مجموعة من صفوة مقاتلى المسلمين على رأسهم مجزأة بن ثور والبراء بن مالك رضى الله عنهم فنزلوا إلى النهر حتى وصلوا إلى موضع نفق ضيق شديد الوعورة فاجتازوه بعد عناء حتى وصلوا إلى فتحة النفق المطلة على المدينة من الداخل وكان ذلك قبيل الفجر بقليل .. بعدها توجهوا إلى باب المدينة فقتلوا حراسه وفتحوا الباب ثم كبروا بأعلى صوتهم وكانت إشارتهم لباقى الجيش التكبير ..

مع التكبير اقتحم المسلمون المدينة وصالوا وجالوا حتى تحقق لهم النصر مستغلين عدم توقع الفرس لدخولهم المدينة .. أثناء القتال أراد البراء بن مالك أن يقتل الهرمزان قائد الفرس إلا أن الله أراد له أن يستشهد فى ذلك اليوم إستجابة لدعاؤه فطاشت ضربات البراء على غير العادة فى حين أصابته ضربة من ضربات الهرمزان فسقط شهيداً من فوره ..

فى تلك اللحظات بدا للهرمزان أنهم مهزومون فهرب إلى حجرته المحصنة فى القلعة الوسطى للمدينة ثم أطل من شرفتها وتفاوض على استسلامه على أن يسلمه قائد الجيش إلى عمر بن الخطاب حياً فيقضى فيه ما يراه وللصدفة فإن من سلمه إلى عمر رضى الله عنه هو الصحابى أنس بن مالك وتلك قصة أخرى تستحق الرواية ..

ـــــ

استشهد البراء بن مالك رضى الله عنه فى العام العشرين للهجرة .. كان بطلاً من أبطال المسلمين الذين حملوا على أكتافهم هم تبليغ الدعوة حتى وصلت إلى أيدينا بكل سهولة ويسر .. واحد من العظماء الذين بذلوا دماؤهم فى سبيل إعلاء كلمة لا إله إلا الله فى مشارق الأرض ومغاربها ..

توفى رضى الله عنه وقد عرف عنه أنه كان شديد التواضع .. زاهد فى الدنيا .. شديد على الكافرين رحيم بالمؤمنين .. شجاع .. مقدام .. لا يهاب الموت أبداً ..

رحم الله سيدنا البراء بن مالك ورضى عنه وأرضاه ..

ـــــ