الصراع العثمانى المملوكى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الجزء السابع :
ـــــــــــــــــــــــ
العثمانيين إنتصروا فى الريدانية يوم 29 ذى الحجة 922 هجرياً – يناير 1517 ميلادياً .. أول حاجة عملوها بعد الإنتصار كان إقتحام معسكر المماليك .. طومان باى مكانش عامل حساب لخيانة ( جان بردى الغزالى ) و بناءاً عليه كان واخد معاه مؤونة كبيرة تكفى جيشه لفترة كبيرة لإنه كان متوقع حرب طويلة الأمد عشان كده كانت الغنائم عظيمة جداً .. جمال و خيول و أبقار و أسلحة و بارود و قماش و فلوس .. البلد اللى أساساً كان عندها عجز فى السيولة خسرت كل ما تملك تقريباً فى معركة إستمرت من 7 : 8 ساعات بالكتير ..
دخول القاهرة مكانش أقل دموية .. العثمانيين طاردوا فلول المماليك فى كل مكان و اللى كانوا بيطولوه كانوا بيقطعوا راسه فوراً .. نهبوا شون القمح و إقتحموا الإسطبلات و أخدوا منها الخيول اللى فيها حتى جمال السقايين أخدوها .. نهبوا الأسواق و أخدوا منها محتوياتها .. فتحوا السجون عشان يحرروا الأسرى العثمانيين اللى كانوا فيها .. العياق ( البلطجية ) استغلوا اللى بيحصل و نهبوا بيوت الناس .. خلال ساعات كانت القاهرة عبارة عن شوارع فاضية و عثمانيين بيدوروا على مماليك فى كل مكان و جثث مرمية فى الطرق و الحوارى .. الكل قاعد فى بيته خايف على نفسه و أهله .. 3 أيام كاملة من الرعب المقيم عاشها أهل القاهرة .. تخيلوا إن العثمانيين كانوا بيقتلوا الناس على الشبهة .. المماليك ملابسهم كانت مميزة و كتير من أهل مصر كان بيلبس زيهم .. يعنى مثلاً كانوا بيلبسوا حاجة إسمها ( زمط ) و ده كان رداء خارجى لحد الركبة و كانوا بيلبسوا عليه طاقية شبه العمامة كده إسمها ( تخفيفة ) فكان العثمانيين كل ما يشوفوا حد لابس اللبس ده كانوا يتهموه إنه شركسى و يقتلوه حتى لو كان مصرى ..
ـــــ
فى المقابل طومان باى إنسحب و توغل فى القاهرة مع بعض المماليك اللى كملوا معاه و عسكر فى مسجد شيخو ( شيخون ) اللى فى شارع الصليبة قرب القلعة حالياً و بدأ يجهز هناك فرق لصد العثمانيين و حصلت مواجهات كتير أقرب لحرب العصابات .. المواجهات دى شملت كل مناطق مصر القديمة تقريباً .. الجثث من الطرفين غرقت الشوارع فى مناطق القلعة و الخليفة و باب الخلق و الفسطاط و المنيل و فم الخليج و السيدة زينب و المقطم وصولاً لشبرا مصر و الزمالك و جاردن سيتى و رمسيس و بولاق أبو العلا ( المناطق مذكورة بمسمياتها الحالية لتقريب الصورة )
كان عادى جداً إنك تبقى قاعد فى أمان الله فتسمع صهيل الخيول و ضرب النار فتبص من الشباك تلاقى 10 أو 15 جثة مفصولة الرأس تحت بيتك .. أكثر من 10 آلاف جثة كانت حصيلة المواجهات ما بين عثمانيين و مماليك و مصريين غلابة ملهومش فى أى حاجة .. الروايات قالت إن كتير من قادة المماليك جثثهم كانت مرمية فى الشارع و الكلاب بتنهش فيها لدرجة إن زوجاتهم كانت بتضطر تدفع فلوس للعثمانيين عشان يسمحولهم يشيلوا جثثهم و يدفنوها .. كتير من الجوامع تم إقتحامها من العثمانيين عشان يقبضوا على الشراكسة المستخبيين جواها .. الجامع الأزهر .. جامع الحاكم .. جامع ابن طولون .. جامع شيخو .. جامع الإمام الشافعى .. حتى جامع السيدة نفيسة دخلوه و خدوا محتوياته ..
ـــــ
رغم قوة المواجهات إلا إن طومان باى مقدرش يكمل و اضطر إنه يهرب بمماليكه للصعيد .. ناس قالت فى المنيا و ناس قالت فى أسيوط .. و معاها بدأ منادى سليم الأول يلف فى الشوارع و ينادى بالأمان على قادة المماليك المستخبيين .. اللى هيسلم نفسه ليه الأمان .. خرج حوالى 60 مملوك و سلموله نفسهم فأمر سليم إنهم يترحلوا للقلعة على سبيل الإقامة الجبرية و كان فى نيته إستخدامهم كورقة تفاوضية مع طومان باى عند اللزوم ..
لما وصل طومان باى للصعيد بدأ فى جمع الناس حواليه مرة تانى لحد ما بقى عنده الحد الأدنى من القوة العسكرية اللى يقدر يواجه بيها سليم و بدأ فى منع الغلال اللى كانت بتروح من الصعيد للقاهرة فشحت الحبوب من القاهرة بشكل كبير و بدأت الناس تدخل فيما يشبه المجاعة .. منع الغلال كان أخر أوراق الضغط اللى فى إيد طومان باى .. السؤال هنا .. هو كان محتاج أوراق ضغط ليه أساساً ؟
أقولك أنا .. طومان باى مكانش عنده رغبة من اليوم الأول فى محاربة سليم و وضحنا ده فى الأجزاء اللى فاتت .. عشان كده خطط إنه يبعتله رسالة يفاوضه فيها على الصلح لكن الصلح بعد اللى حصل ده كله صعب جداً فكان لازم يستخدم أى ورقة ضغط يحسن بيها موقفه التفاوضى معاه .. منع المؤن كان ورقة كويسة خاصة إذا حطينا فى إعتبارنا إن طومان باى كان له مؤيدين فى إسكندرية فالمنع كان من أكتر من مكان و عشان يقدر سليم إنه يفك الحصار ده لازم يفرغ القاهرة من قواته و يخرج يحارب المماليك فى أكتر من مكان و ده طبعاً كان صعب عليه ..
ـــــ
رسالة طومان باى لسليم الأول قال فيها الآتى :
( إن كنت تروم أن أجعل الخطبة و السكة بإسمك و أكون أنا نائباً عنك بمصر و أحمل لك خراج مصر على حسبما يقع الاتفاق عليه بيننا من المال الذى أحمله إليك فى كل سنة فارحل عن مصر أنت و عسكرك إلى الصالحية و صن دماء المسلمين و لا تدخل فى خطية أهل مصر من كبار و صغار و شيوخ و صبيان و نساء .. و إن كنت ما ترضى بذلك فاخرج و لاقينى فى بر الجيزة و يعطى الله تعالى النصر لمن يشاء منا .. و لا تحسب أنى أرسلت أسألك فى أمر الصلح عن عجز فإن معى ثلاثين أميراً ما بين مقدمين ألوف و أربعينات و عشرات و معى من المماليك السلطانية و العربان نحو عشرين ألفاً .. و ما أنا بعاجز عن قتالك و لكن الصلح أصلح إلى صون دماء المسلمين )
يعمل إيه بقى سليم الأول ؟ .. الراجل وافق .. أه و الله وافق على طلب الصلح .. بصوا يا جماعة و أنا عارف إنى باللى بقوله ده بضرب ثوابت عند ناس كتير .. سليم الأول كان فيه بلاوى كتير بل إن إبن إياس لما وصفه وصفه بإنه سيء الخلق سفاك للدماء سريع الغضب و دى حقيقة وهو كان كده فعلاً .. لكن إحقاقاً للحق فالراجل عمره ما رفض طلب للصلح أبداً .. بالعكس .. هو اللى بعت للغورى فى الأول عشان يتحالف معاه ضد الصفويين .. هو اللى طلب من الغورى عقاب علاء الدولة على عمايله السودة و إكتشف بعد كده إن الغورى كان متحالف مع الصفويين ضده .. هو اللى بعت رسل لطومان باى عشان يصطلح معاه و قاله ليك بلدك و أنا مليش غير الخطبة و السكة إلا إن المماليك رفضوا و قتلوا رسله .. و دلوقت طومان باى بعتله رسالة صلح و وافق عليها .. عارف إن مش دى الصورة المرسومة فى أذهان البعض عن سليم الأول لكن ده الواقع اللى كتب التاريخ ذكرته .. المهم .. نرجع لموضوعنا ..
سليم أول ما شاف رسالة طومان باى وافق عليها و طلب حضور الخليفة العباسى المتوكل على الله و طلب حضور قضاة المذاهب الأربعة و كتب قدامهم رسالة لطومان باى بيوافق فيها على طلب الصلح و طلب من الخليفة المتوكل إنه يروح بيها هو و قضاة المذاهب مع كتيبة من 500 جندى عثمانى عشان يسلموها بنفسهم لطومان باى إلا إن الخليفة إعتذر و بعت مكانه ( برد بك ) الدوادار بتاعه .. لحد هنا كويس أوى .. الحرب هتخلص أهى و كل واحد هيروح لحاله ..
للأسف اللى حصل كان عكس كده تماماً ..
رسل سليم الأول هتتقتل للمرة الثانية ..
ـــــ
وصل الوفد لمعسكر طومان باى و إدوله الرسالة فقرأها على قادة المماليك و كان فيها بيان لرغبة سليم بعدم الإستمرار فى القتال و إنه مش عاوز من مصر إلا الإسم فقط أما الحكم فهو لكم حتى إنه قالهم نصاً :
( و أنتم على ما أنتم عليه و أنتم فى أمان الله تعالى و الله يخون الخائن )
خلص طومان باى الرسالة و بص للقادة و قالهم :
( ما رأيكم يا أغوات ؟ )
فرد عليه واحد إسمه ( شاربك الأعور ) و قاله :
( أما رأيى فقتل هؤلاء الطائفة التى ساقتها الأقدار الإلهية إلينا لنكتفى من شرهم .. و أما أنت فإن مالت نفسك إلى طاعة عدوك فاعلم أن ما بينك و بين الهلاك إلا أن تصل إليه و تقف بين يديه .. فتصير الأمانة خيانة .. و العزة إهانة .. و تكون كالذى ألقى بنفسه إلى التهلكة و طلب منها السلامة و ندم حيث لا تفيد الندامة .. و أما أنا فلا أدخل تحت أمان العدو فى عمرى و لا مرة واحدة )
طبعاً الإجابة كانت واضحة .. طومان باى مقدرش يقول لأ .. اللى حصل إن أغلب الوفد إتقتل و هرب ( برد بك ) و معاه كام واحد و رجعوا على سليم الأول ..
ـــــ
الحقيقة أنا مفهمتش طومان باى عمل كده ليه .. جايز بعت الرسالة و هو مش مالى إيده من رأى رجالته .. جايز بعتها و كان متوقع رفضها بس قال أبعتها و أبقى خلصت ذمتى قدام ربنا .. جايز بعض مماليكه شجعوه على الفكرة و بعدين خانوه و خليوا بيه .. الله أعلم .. بس اللى حصل ده كان ضد مبدأ الرسالة أساساً .. لو إنت هتكمل الحرب فليه تبعت رسالة بالشكل ده و تحفز سليم ضدك أكتر ما هو متحفز .. يا راجل ده لو كانت رغبته إنه يمشى من البلد فبعد اللى عملته ده هيكمل الحرب للنهاية ..
كان ممكن أفهم التصرف ده لو كان طومان باى متأكد من إستعادة الحكم مرة تانية و عنده الأدوات اللى تمكنه من ده لكن ده الكل فى مصر كان شبه متأكد من زوال دولة المماليك بما فيهم طومان باى نفسه .. طومان باى لما شاف العربان ابتدت تتخلى عنه قال للى حواليه :
( إعلموا يا أغوات أن دولتنا قد زالت .. و آجالنا قد مالت .. و ما بقى لنا فى هذه الديار نصيب .. و لكن لنا أسوة بمن كان قبلنا و ما النصر إلا من عند الله )
يبقى المنطق و العقل و المعطيات و موازين القوة كلها كانت بتقول إنك تقبل الصلح كحل مرحلى لحد ما تقف على رجلك تانى و عندها لكل حادث حديث .. مش لاقى أى تفسير لده غير اللى قاله إبن إياس لما حب يوصف خطوات طومان باى فقال :
( و كان السلطان طومان باى ليس له سعد فى حركاته .. كل ما رام أن ينتصر على ابن عثمان ينعكس )
.
بعد اللى حصل ده فالنهاية قربت ..
قربت جداً ..
ـــــ