سيرة صلاح الدين الأيوبى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الجزء السادس :
ــــــــــــــــــــــــــ
الأندلس .. عام 1085 ..
وسط أمواج خنوع و ذل و خيانة ملوك الطوائف يتسلم ألفونسو السادس ملك قشتالة و ليون مفاتيح طليطلة من القادر بالله يحيى بن إسماعيل بن ذى النون بعد حصار دام ثلاث سنوات فتسقط بهذا أحصن ثغور المسلمين وسط الأندلس ..
بهذا السقوط تحولت طليطلة إلى حاضرة لمملكة قشتالة يجمع فيها ألفونسو السادس الجزية من المسلمين بعد أن كان عبد الرحمن الناصر يجمعها من بلاد النصارى .. ذلاً أورثه ملوك الطوائف لأنفسهم قبل أن يدركوا عواقب هذا الذل .. ألفونسو بدأ التجهيز للإنقضاض عليهم مستغلاً تفرقهم .. الخوف على أنفسهم و ممالكهم دعاهم للتكاتف بعد أن أقنعهم المعتمد محمد بن عبد الله ملك إشبيلية بضرورة الإتحاد .. قرارهم كان إرسال وفد لواحد من أبطال المسلمين لنجدتهم من هجوم ألفونسو الوشيك عليهم ..
أبو يعقوب يوسف بن تاشفين ..
أمير دولة المرابطين فى أقصى غرب الدولة الإسلامية ..
ـــــ
الأندلس .. عام 1086 ..
يقف يوسف بن تاشفين على رأس جيش مكون من إتحاد جيش المرابطين و جيوش الممالك الأندلسية يقابله جيش عظيم تم جمعه من شتى أقطار أوروبا بقيادة ألفونسو السادس .. نتحدث هنا عن معركة الزلاقة التى إنتهت بإنتصار جيش المسلمين و هزيمة ألفونسو السادس و قتل أكثر من ثلث جيشه ..
يمكن القول أن تلك المرحلة كانت أفضل مراحل الدولة الإسلامية خلال أخر قرنين .. السلاجقة فى الشرق كونوا دولة قوية و قائدهم ألب أرسلان استطاع الإنتصار على الإمبراطورية البيزنطية فى موقعة ملاذ كرد عام 1071 و بعد 15 عام أخرى تمكن يوسف بن تاشفين من إلحاق الهزيمة بجيوش اوروبا فى الزلاقة قبل أن ينهى حكم ملوك الطوائف و يوحد جنوب الأندلس كله تحت راية دولة المرابطين ..
ـــــ
تفوق عسكرى واضح على الأرض شرقاً و غرباً .. تفوق علمى يظهر أيضاً بشدة فى أراضى المسلمين فبينما كانت أوروبا ترزح تحت نيران الفقر و المجاعة كان التطور يصل لكل حواضر الدولة الإسلامية .. فنون .. شعر .. فلسفة .. فلك .. طب .. تفوق إقتصادى يظهر فى منافسة الأساطيل الإسلامية لأساطيل أوروبا فى أماكن نفوذهم .. نتحدث عن تفوق إسلامى فى كل شيء و هو لا يعنى إلا شيئاً واحداً .. مزيد من النمو و التطور للمسلمين و مزيد من التأخر و التخلف لأوروبا و هو ما كان يدعو لإتخاذ إجراء سريع لإنقاذ ما يمكن إنقاذه .. لكن كيف تفعل ذلك و السلاجقة فى الشرق تحت قيادة السلطان ملك شاه يمدون حدود دولتهم لأقصى إتساع لها و المرابطين فى الغرب وحدوا جنوب الأندلس و اسسوا دولتهم القوية تحت قيادة يوسف بن تاشفين ..
كل ما علينا هو أن نتأهب جيداً ثم ننتظر الفرصة المناسبة ..
فى الواقع تلك الفرصة لن تتأخر ..
ـــــ
بغداد .. عام 1092 ..
يتوفى جلال الدولة مَلِك شاه بن ألب أرسلان فيدخل البيت السلجوقى بوفاته فى صراع مرير على السلطة ينتهى بتقسيم الدولة إلى دويلات صغيرة متناحرة و معها تفقد الدولة الإسلامية حائط صدها الأقوى فى المشرق بعد أن إنقسمت إلى خمس دول أصغر فى الحجم و القوة قبل أن تبدأ تلك الدول فى الإنقسام و التفتت هى الأخرى فتتحول إلى دويلات و مقاطعات يتناحر قادتها فيما بينهم فهذا بركياروق يحارب أخاه محمود و والدته تُركان خاتون ثم يحارب عمه تُتُش بن ألب أرسلان فيقتله ثم يحارب أخواه محمد و سنجر لاحقاً .. أما فى أراضى سلاجقة الشام فيتصارع رضوان و دُقاق أبناء تُتُش بعد أن ورثا حكم فرع الشام من والدهم .. دمشق .. حلب .. حمص .. شيزر .. حماه .. كلها تحولت إلى ممالك منفصلة .. أما أراضى سلاجقة الروم فكانت المواجهات بين قلج أرسلان الأول و غازى بن الدانشمند دامية بما يكفى لتنقسم المملكة إلى نصفين ..
واقع مزرى عاشته الدولة الإسلامية و كان على أحدهم أن يستغله ..
ألكسيوس كومنينوس إمبراطور الروم البيزنطيين لن يتأخر بالتأكيد ..
ـــــ
ألكسيوس كومنينوس كان يتابع حجم التفكك و التفسخ الذى أصاب الدولة الإسلامية بعد وفاة ملك شاه و أدرك أنها فرصة ذهبية لابد من إستغلالها و لكنه كان يعانى من نقص فى الموارد البشرية فقرر أن يقوم بخطوة رآها الكثيرين جريئة جداً فى ذلك الوقت ألا و هى مخاطبة أوربانوس الثانى بابا الكنيسة الكاثوليكية لمساعدته فى غزو أراضى الدولة الإسلامية ..
و قبل أن نكمل و حتى تكون الصورة أوضح علينا فهم طبيعة العلاقة الدينية بين ممالك أوروبا حيث كانت أوروبا كلها تخضع للكنيسة الكاثوليكية قبل أن تنفصل أوروبا الشرقية عنها و تتبع المذهب الأرثوذكسى بعد خلاف مذهبى عميق و ذلك عام 1054 و استمرت القطيعة بين الطرفين قرابة أربعين عاماً قبل أن يقوم ألكسيوس بالإستغاثة بالكاثوليك لمساعدته فى حربه ضد المسلمين .. على أى حال إستقبل أوربانوس الثانى بابا الفاتيكان رسالة ألكسيوس بكثير من السعادة و الترحاب و أقسم على مساعدته فى حربه حتى و إن إختلفت مذاهبهم ..
ـــــ
رغم أن الصورة السابقة توحى بأن مسيحيى أوروبا قد تجاوزوا خلافاتهم و أصبحوا على قلب رجل واحد إلا أن الواقع الفعلى يكشف كثيراً من الإختلاف فى الرؤى بين الطرفين :
* فى الشرق لم يرغب الروم و إمبراطورهم الإرتماء فى أحضان الكاثوليك و إنما أرادوا أن يستأجروا مقاتلين مهرة من غرب أوروبا و هو أسلوب كان متبع فى تلك الحقبة الزمنية بسبب إتساع رقعة الإمبراطورية و وجوب الدفاع عنها ضد أى أخطار متوقعة .. ما أجبر البيزنطيين على اللجوء إلى الكاثوليك هو سيطرة المسلمين على جزء من آسيا الصغرى بالإضافة لدول القوقاز و دول ما وراء النهر و بهذا أصبحت غالبية بلاد المشرق تحت سيطرتهم و هو ما أضعف من قدرة الروم على الإستعانة بمرتزقة من تلك الدول فقرروا التوجه غرباً .. أى أن اللجوء للكاثوليك من وجهة نظرهم لم يكن تقارباً مذهبياً فى المقام الأول و إنما تقارب سياسى مع فئة هى أقرب لهم من غيرهم ..
* على الجانب الآخر رأى البابا أوربانوس الثانى أن طلب الروم الأرثوذكس جاء من منطلق ضعف و أنهم فى إحتياج لمساعدته و أنه إذا ما وافق فستكون فرصة ذهبية له للسيطرة على أوروبا الشرقية مذهبياً و سياسياً و جدير بالذكر أن أوروبا فى ذلك الوقت كانت تخضع للكنيسة بشكل تام و منصب البابا يعتبر على رأس السلطة الدينية و السياسية بل إن رأيه يسبق رأى ملوك و أمراء الدول و هو عكس ما نحن عليه الآن حيث تخلصت أوروبا من سيطرة الكنيسة عليها تماماً ..
* لم يكن هذا هو السبب الوحيد فى مسارعة البابا أوربانوس فى دعم الروم و إنما اشتمل الأمر على عدة أسباب منها الدينى و منها الدنيوى فمن الأسباب الدينية على سبيل المثال :
– رغبته فى السيطرة على مدينة القدس بما لها من منزلة روحية عند المسيحيين و هو ما يعزز سلطته على العالم المسيحى و يمدها إلى مناطق كانت حتى وقت قريب بعيدة المنال
– حرب المسلمين بالنسبة لمسيحيى أوروبا هى حرب عقائدية لأن المسلمين حسب عقيدتهم كفار يجب قتالهم و من يقوم بتلك الحرب فإنه يحصل على النعيم الدنيوى فى حالة إنتصاره عليهم و الغفران الأبدى و الجنة فى حالة إذا ما قتل أثناء الحرب .. جدير بالذكر أن صكوك الغفران إنتشرت بشدة وقت الحملات الصليبية بغية دعم الجيوش بمزيد من الجنود
* أما عن الأسباب الدنيوية فمنها على سبيل المثال :
– أراد أوربانوس الثانى السيطرة على منطقة آسيا الصغرى و الشام و تولية أمراء أوروبا الكاثوليك عليها و هو ما يعنى توطين مئات آلاف المسيحيين الأوروبيين بها و ضمان مستوى معيشة أفضل لهم خاصة إذا ما وضعنا فى الحسبان إمتلاك تلك المنطقة لثروات و موارد هائلة
– إنعاش الإقتصاد الأوروبى بالسيطرة على طرق التجارة الرئيسية فى العالم القديم و التى كانت تقع فى نطاق سيطرة المسلمين فلا يمكن بلوغ ممالك الشرق الأقصى إلا عبر بلاد ما وراء النهر و لا يمكن التوغل جنوباً إلى ممالك إفريقيا إلا عبر أراضى المسلمين فى الشمال الإفريقى كل ذلك يبدأ بالتأكيد مع سيطرتهم على منطقة الشام و الأناضول
– توحيد الصف المسيحى الأوروبى بعد أن كانت الصراعات الداخلية تمزقه فإن وحد البابا كل تلك الجهود و وجهها تجاه المسلمين عاشت أوروبا مرحلة من الإستقرار الداخلى و إنتقل الصراع إلى أراضى المسلمين
ـــــ
فرنسا .. المجمع الدينى فى كليرمونت ..
27 نوفمبر عام 1095 ..
البابا أوربان الثانى يقف وسط جموع غفيرة من مسيحيى أوروبا و الذين جاءوا من شتى بقاعها ليستمعوا إلى خطبته الحماسية التى دعاهم إليها و التى قال فى جزء منها :
( يا شعب الله المحبوب المختار .. لقد جاءت من تخوم فلسطين و من مدينة القسطنطينية أنباء محزنة تعلن أن جنساً لعيناً أبعد ما يكون عن الله قد طغى و بغى فى تلك البلاد .. بلاد المسيحيين فى الشرق .. قلب موائد القرابين المقدسة و نهب الكنائس و خربها و أحرقها و ساقوا بعض الأسرى إلى بلادهم و قتلوا بعضهم الآخر بعد أن عذبوهم أشنع تعذيب .. دنسوا الأماكن المقدسة برجسهم و قطعوا أوصال الإمبراطورية البيزنطية و انتزعوا منها أقاليم بلغ من سعتها أن المسافر فيها لا يستطيع اجتيازها فى شهرين كاملين .. على من إذن تقع تبعة الانتقام لهذه المظالم و استعادة تلك الأصقاع إذا لم تقع عليكم أنتم .. أنتم يا من حباكم الله أكثر من أى قوم آخرين بالمجد فى القتال و بالبسالة العظيمة و بالقدرة على إذلال رؤوس من يقفون فى وجوهكم ؟ )
ثم توقف لحظات و نظر إلى الجموع و كأنما ينتظر منهم رداً قبل أن يكمل :
( و من ثم فإننى لست أنا من أدعوكم .. و لكن الرب هو الذى يحثكم باعتباركم وزراء المسيح أن تحضوا الناس من شتى الطبقات )
قبل أن يستخدم نصاً من إنجيل لوقا ” 14 : 27 ” يقول :
( و من لا يحمل صليبه و يأتى ورائى فلا يقدر أن يكون لى تلميذاً )
ـــــ
فى الواقع خطبة أوربان الثانى كانت خطبة مؤثرة و الرجل كان مفوهاً و خطيباً فذاً فضلاً عن كونه ذكياً .. إستطاع عن طريق رجاله أن يحشد عدداً كبيراً ليحضر خطبته و استجاب له عدد هائل رغم برودة الجو فى اليوم المحدد لها .. إستطاع أن يحشد كافة أطياف المجتمع بدءاً من الملوك و الأمراء و الوزراء مروراً بالقساوسة و الرهبان و رجال الإقتصاد و التجارة وصولاً إلى عامة الشعب من الفقراء و المحتاجين ..
خطبة من شدة روعتها و أثرها فى نفوس الحاضرين قرر فى نهايتها كل من حضر و بالإجماع أن يخرجوا لحرب المسلمين .. لم ينتظروا حتى يدرسوا الأمر من كل الأبعاد و حساب تكلفة الترحال من أقصى غرب أوروبا إلى القسطنطينية فى أقصى شرقها .. لم ينتظروا أن يعرفوا حجم الجيش و تدريبه و تجهيزه .. بمجرد أن أنهى أوربان الثانى خطبته رفع الجميع صلبانه و إرتفع صياحهم تأييداً لما قاله و على الفور بدأوا فى الإستعداد للتحرك ..
أيها المسلمون .. تلك حرب من أجل الله ..
تلك حرب لنصرة الصليب .. و نحن لها بالتأكيد ..
ذلك ما كان يدور فى أذهان الحاضرين وقتها ..
ـــــ
لقراءة الموضوع على التطبيق الخاص بالكاتب على جوجل بلاى :
https://play.google.com/store/apps/details?id=com.amkamel.arabyhost
لقراءة الموضوع على التطبيق الخاص بالكاتب على آب ستور :
https://itunes.apple.com/app/id1432249734
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ