سيرة صلاح الدين الأيوبى ( جـ 5 )

سيرة صلاح الدين الأيوبى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الجزء الخامس :
ـــــــــــــــــــــــــ

أحد أبرز سلاطين السلاجقة .. أخر السلاجقة العظام .. أخر حائط صد أمام سقوط الدولة السلجوقية و تفككها .. نتحدث اليوم عن جلال الدولة ملك شاه بن ألب أرسلان ..

قبل أن يتوفى ألب أرسلان كان قد أعد ابنه ملك شاه لتولى المسئولية من بعده و بعد وفاته جاء وقت تنفيذ رغبته .. جلس ملك شاه على سرير والده و نظر إلى أمراء الدولة و قال :

( الأكبر منكم أبى .. و الأوسط أخى .. و الأصغر ابنى .. و سأفعل معكم ما لم أسبق إليه فأمسكوا )

تمر دقيقة صمت لا ينطق فيها أحد فينظر لهم ملك شاه معيداً مقولته مرة أخرى فلم يجد الأمراء مفراً من المبايعة و الوعد بالسمع و الطاعة .. تردد الأمراء فى المبايعة كان بسبب أن ملك شاه كان شاباً فى السابعة عشر من عمره و الدولة السلجوقية كانت أقوى دول زمانها فكيف بهذا الفتى أن يقوم بأعبائها و هناك ضمن الأمراء من هو أكبر سناً و أكثر خبرة من وجهة نظرهم ..

كاد كل شيء يضيع لولا وجود شخص ما بجواره ..

شخص يدعى قوام الدين الحسن بن على الطوسى ..

أو كما عرفه الناس بإسم .. نظام الملك ..

ـــــ

نظام الملك كان الوزير الأول للسلطان ألب أرسلان ثم أصبح الوزير الأول لابنه السلطان ملك شاه و كان شديد الوفاء لهما .. لولا وجود هذا الرجل بجوار ملك شاه لتفككت الدولة و تقسمت .. وجوده أطال عمر الدولة لعشرون عاماً قادمة ..

الفتنة بدأت منذ لحظة المبايعة .. خرج أمراء الدولة من عند ملك شاه و هم يستصغرونه و يرونه غير أهلاً للقيادة و بدأت مشاوراتهم عن وجوب خلعه و استبداله بغيره فلما بحثوا لم يجدوا أفضل من قاورد بك بن شغرى بك داوود شقيق السلطان الراحل ألب أرسلان و حاكم إقليم كرمان فراسلوه و أغروه بالخروج على ابن أخيه و إن انتصر فسيعترفون به سلطاناً و لن يقفوا أمامه أبداً ..

وصلت رسائل الأمراء إلى قاورد بك فقرر الخروج على طاعة ملك شاه و أرسل إليه يخبره بخلعه ثم جمع جنوده و تحرك لمواجهته و هنا يأتى أول دور للوزير نظام الملك حيث حث السلطان ملك شاه على مواجهة عمه و الدفاع عن حقه فى خلافة والده فاستجاب له و تحرك بجيشه لمواجهة تمرد عمه حتى التقى به فى همذان و استطاع هزيمته ..

هل إقتصر الأمر على الهزيمة ؟

بالطبع لا .. فقد نجح ملك شاه فى أسر عمه قاورد بك شخصياً ..

ـــــ

بعد إنتهاء المعركة جيء بقاورد للسلطان ملك شاه ليقضى فيه فحاول أن يعتذر معللاً ذلك بأن غالبية أمراء الدولة رفضت وجوده – أى ملك شاه – و أنهم راسلوه بهذا و أنه لم يخرج إلا بعد أن رأى إجماعهم على هذا فسأله ملك شاه عن دليل حديثه فأخرج له رسائل الأمراء فناولها السلطان إلى الوزير نظام الملك ليقرأها لكنه فاجىء الجميع و لم يفتحها و زاد على ذلك أنه ألقى بها فى أحد كوانين النار فاحترقت .. و هنا تظهر حكمة الوزير نظام الملك مرة أخرى حيث لاحظ بخبرته أن أمراء الدولة ظهر عليهم التوتر منذ أن جيء بقاورد و كلما نطق حرفاً كلما بدا عليهم التوتر أكثر فأيقن أنهم مشتركين بهذا التمرد و أنه لو قرأ الرسائل لتورط الأمراء و لخسرت الدولة أبرز قادتها بالإضافة لعدم ضمان ولاء عشائرهم مستقبلاً إذا ما رأوا قادتهم قد قتلوا و هو ما يهدد السلطنة على المدى البعيد فقرر أن يضحى بقاورد بك فقط بدلاً من التضحية بالدولة كلها ..

ما أن ألقى نظام الملك بالرسائل فى الكانون حتى تأكدت ظنونه بعد أن رأى الإرتياح بادياً على وجوه الحاضرين و حينها أشار على السلطان بإعدام عمه المتمرد ليكون عبرة لكل من يحاول شق عصا الطاعة فأمر بإعدامه خنقاً فقتل بواسطة وتر قوسه و حدث هذا أمام الأمراء الحاضرين تنفيذاً لخطة الوزير المحنك نظام الملك ..

ـــــ

إنهاء التمرد بهذه الطريقة تسبب فى استقرار سلطان ملك شاه تماماً فدانت له الأقاليم بالطاعة و فتحت المدن واحدة تلو الأخرى و بلغت الدولة السلجوقية فى عهده أقصى إتساع لها فكان ضمن نطاق سيطرته بلاد ما وراء النهر و خراسان و أذربيجان و أرمينيا و جورجيا و بلاد الروم فى آسيا الصغرى أو تركيا حالياً و العراق و الشام و أرض الحجاز و إيران و أفغانستان و بحر الهند ..

و بخلاف التوسع الجغرافى فقد إتسمت الدولة فى عهده بالنهضة العلمية فكثرت المدارس النظامية و برز العلماء و المخترعين و الفقهاء و ازدادوا .. أما على المستوى الإنشائى فقد تطورت الدولة على مستوى البنية التحتية فازدهرت العمارة و بنيت المساجد و حفرت الأنهار و القنوات و أنشأت القناطر و عبدت الطرق .. على المستوى المالى رفع ملك شاه فى أجور العمال و زاد عطاياهم و هباتهم و ألغى المكوس و هو نظام شبيه بالجمارك فى زماننا الحالى .. عشرون عاماً من الإزدهار و الإنتشار و التوسع .. عشرون عاماً من الإستقرار و الوحدة لا تجرؤ أمة من الأمم على المساس بشبر واحد من اراض المسلمين .. عشرون عاماً إنتهت بوفاة السلطان ملك شاه أخر السلاجقة العظام ..

فى قصة وفاته يُروَى أنه كان من محبى الصيد و فى عام 1092 و أثناء وجوده فى بغداد التى إتخذها كعاصمة جديدة للدولة بدلاً من أصفهان قرر الخروج فى رحلة صيد جديدة و خلالها نجح فى إصطياد فريسة فطلب من معاونيه أن يأكل منها فأجابوه و ما أن إنتهى من طعامه حتى بدأ يشعر بآلام فى بطنه و استمرت آلامه حتى عاد إلى بغداد فزادت فى ليلته و توفى فى اليوم التالى عن عمر ناهز 37 عاماً فقط و لم يعرف السبب الحقيقى لذلك إلا أن أقرب التفسيرات قالت أنه خلل أسنانه بعد الطعام بخلال مسممة فتسببت بوفاته ..

ـــــ

بوفاة السلطان ملك شاه أصابت الدولة السلجوقية فتنة عظيمة فالسلطان توفى صغيراً و لم يسمى أحداً من بعده مثلما فعل والده ألب أرسلان و نظام الملك كان قد توفى قبل وفاة ملك شاه بفترة وجيزة حيث طالته يد الإغتيال عن طريق أحد الصبية المنتمين للباطنيين الشيعة فلم يعد هناك من يدبر الأمر بحكمته فى هذا الظرف العصيب فاشتد النزاع بين الأسرة السلجوقية على الملك ..

السلطان ملك شاه كان عنده أربعة أبناء هم بركياروق و محمد و سنجر و محمود و إن سارت الأمور فى مسارها الوراثى الطبيعى لكان بركياروق هو الأحق بولاية العهد أو على أبعد الفروض لكان أحد إخوة ملك شاه إلا أن ما حدث كان عكس هذا تماماً .. السلطانة تُركان خاتون – ذكرت أيضاً بإسم تركمان خاتون – زوجة ملك شاه الأخيرة أرادت أن تبايع لابنها الصغير محمود ذو الأربعة أعوام فكتمت خبر الوفاة عن الجميع و أغدقت الأموال على الأمراء الموجودين فى بغداد و طلبت منهم مساعدتها فى مسعاها و بالفعل وافقها عدد منهم على رأسهم قوام الدين أبو سعيد كربوقا و هذا الرجل تحديداً سيكون له دور فى رعاية عماد الدين زنكى مؤسس الدولة الزنكية سنأتى على ذكره لاحقاً ..

بدأت خطة تُركان خاتون بأن أرسلت بعض الجند سراً إلى أصبهان للقبض على بركياروق حتى لا ينازعها الملك إذا ما علم بوفاة والده و بالفعل قبض عليه و حبس ثم خاطبت الخليفة العباسى للإعتراف بإبنها الصغير سلطاناً على الدولة فوافق و لكن بشرط أن يتولى أحد أمراء أبيه إدارة الأمور لحين وصوله للسن الذى يسمح له بالإدارة فوافقت على مضض .. فى تلك الأثناء وصلت أنباء وفاة السلطان ملك شاه إلى أصبهان فأدرك جنود بركياروق مخطط تُركان خاتون فثاروا على حبس زعيمهم و تمكنوا من تحريره من محبسه قبل أن ينظموا صفوفهم و يتوجهوا للقاء جيش السلطان محمود و والدته و بالفعل استطاعوا الإنتصار عليهم و لكنه كان إنتصار غير كامل فانقسمت الدولة به إلى قسمين .. بعد أقل من عامين سيتوفى السلطان محمود بمرض الجدرى و ستلحق به والدته السلطانه تُركان خاتون و هو ما سيفتح باباً جديداً من الصراعات داخل البيت السلجوقى ..

ـــــ

لم يقف الصراع عند ما سبق ذكره فلاحقاً حدثت حرب بين السلطان بركياروق و عمه تاج الدولة تتش بن ألب أرسلان و الذى أسس دولة سلاجقة الشام إنتهت بمقتل تتش و إغراقه فى نهر دجلة .. حرباً أخرى حدثت لاحقاً بين السلطان بركياروق و أخيه محمد بن ملك شاه انتهت بهزيمة محمد فهرب إلى أخيه الثالث سنجر فأمده بأموال و تعاهدا سوياً على حرب أخاهم الذى اضطر للتراجع أمامهم بسبب نقص جنوده ففر إلى همذان ثم إلى خوزستان حتى وصل إلى بغداد و منها هرب إلى واسط قبل أن يتصالح الأشقاء الثلاثة عام 1103 بعد أن قسموا الدولة فيما بينهم .. بعد عامين بالتمام سيموت بركياروق فيستغل شقيقه محمد الفرصة و يستولى على أملاكه و يضمها إليه ..

حروب و صراعات تسببت فى إنقسام الدولة السلجوقية إلى دويلات صغيرة عادت بالدولة الإسلامية إلى الوراء و بدأت مظاهر الضعف تظهر عليها مجدداً حيث بدأ كل فرع من الدولة فى تأسيس دولة خاصة به فتأسست دولة سلاجقة الشام على يد تاج الدين تتش كما ذكرنا و أيضاً تأسست دولة سلاجقة الروم على يد سليمان بن قتلمش أحد أقارب السلطان ملك شاه بالإضافة لدول أخرى هى دولة السلاجقة الكبرى و دولة سلاجقة العراق و كردستان و دولة سلاجقة كرمان و كل دولة منهم تغنى على ليلاها و صار التعاون بينهم غائباً فانفرط عقدهم بالتدريج ..

ـــــ

ضعف السلاجقة أسس فى مرحلة لاحقة ما عرف تاريخياً بإسم دولة الأتابكة و الأتابك لفظة تركية تعنى مربى الأمير و قد أطلقها السلطان ملك شاه لأول مرة على وزيره نظام الملك إعترافاً بفضله فى حفظ أركان دولته و من بعدها سار العرف أن يطلق الإسم على الوزراء الكبار و الأمراء البارزون و قادة الجيوش و كل من يراه السلاجقة معيناً لهم ..

إعتاد السلاجقة على إختيار هؤلاء الأتابك للإعتناء بأبناء الحكام فكان كلما ولى حاكماً إبناً له على أحد الأقاليم أرسل معه مجموعة من الاتابك لإعانته و حفظ سلامته و مع الوقت و بسبب تراجع الدولة السلجوقية زاد نفوذ الأتابك و بدأوا فى شراء ولاء الجنود حتى سيطروا على الأمور فى كثير من أقاليم الدولة فأسسوا بهذا دولهم الخاصة مثل أتابكة الشام و أتابكة أذربيجان و أتابكة فارس و اتابكة الموصل ..

برز على الساحة فى عهد السلطان ملك شاه واحد من أولائك الأتابكة .. كان حاجباً لوزيره الأول نظام الملك .. رجلاً أحسن آداء عمله فنال إستحسان السلطان حتى أطلق عليه لقب قسيم الدولة .. رجلاً يدعى آق سنقر بن عبد الله آل ترجان .. ذلك الرجل هو والد القائد عماد الدين زنكى و جد القائد نور الدين محمود أبرز أعلام الدولة الزنكية ..

الدولة الزنكية التى ستسمح بظهور بطلنا صلاح الدين الأيوبى ..

ـــــ

لقراءة الموضوع على التطبيق الخاص بالكاتب على جوجل بلاى‎ :
https://play.google.com/store/apps/details?id=com.amkamel.arabyhost

لقراءة الموضوع على التطبيق الخاص بالكاتب على آب ستور‎ :
https://itunes.apple.com/app/id1432249734

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ