الصراع العثمانى المملوكى .. الجزء الأخير

الصراع العثمانى المملوكى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الجزء الأخير :
ـــــــــــــــــــــ

( حسن بن مرعى ) كان شيخ عربان البحيرة .. راجل له أتباع و مسيطر على منطقة واسعة من محافظة الغربية و البحيرة حالياً .. فى عهد السلطان الغورى إتقبض على حسن بن مرعى بسبب أعمال النهب اللى كان بيقوم بيها هو و رجالته و من الواضح إنها كانت زايدة عن اللزوم لدرجة إن الغورى كتب على قفل زنزانته كلمة ( مخلد ) .. يعنى مش هيطلع من السجن إلا على القبر إلا إن طومان باى إتشفع فيه و خرجه من السجن .. و مش بس كده .. ده دفع عنه كفالته و ده كان مبلغ كبير جداً بسبب الخراب اللى إتسبب فيه و غالب الظن إن طومان باى عمل كده عشان ميفتحش أكتر من جبهة على عمه الغورى اللى كان بيواجه صعوبات فى إدارة البلاد زى ما حكينا فى الأجزاء اللى فاتت ..
بعد معركة وردان و لما الدنيا ضاقت على طومان باى ملقاش أفضل من اللجوء لحسن بن مرعى عشان يستخبى عنده لحين ترتيب الأمور .. أما بخصوص مكان الإختباء ففى روايتين فى النقطة دى .. إبن إياس قال إن طومان باى قابل حسن بن مرعى فى ضيعة إسمها البوطة ( حوش عيسى فى البحيرة حالياً ) و إبن زنبل قال إنهم إتقابلوا فى سخا ( فى كفر الشيخ حالياً )

ـــــ

وصل طومان باى و رجالته و قابلوا حسن بن مرعى و إبن أخوه ( شكر ) و هناك شرحله طومان باى اللى حصل و طلب منه الأمان بحق اللى كان بينهم زمان .. حسن وافق طبعاً و قعدهم فى مكان أمين .. طومان باى حب يطمن أكتر فجاب مصحف و حطه قدام حسن و إبن أخوه و حلفهم عليه 7 مرات إنهم مش هيخونوه و لا يغدروا بيه فحلفوله و طمنوه إن محدش هيوصلهم أبداً و بعدين إستأذنوا و رجعوا لبيوتهم ..

الصورة فى الوقت ده كانت وضحت بشكل كبير .. فى أغلب المعارك اللى فاتت طومان باى كان بيقدر يجمع مماليك جديدة يواجه بيها سليم إلا إن المرة دى الوضع كان مختلف .. عدد المماليك قل جداً و كتير منهم بقى يخاف أساساً يواجه مدافع العثمانيين و حتى اللى باقيين منهم إتفرقوا فى البلد و ميعرفوش إذا كان طومان باى عايش و لا ميت .. العربان أغلبهم إنضم لسليم و اللى منضمش ميقدرش يواجههم .. مبقاش فيه فلوس لدفع نفقات الجنود و دى نقطة مش هينة .. الفلوس مكانتش رواتب بس .. الفلوس ضرورية عشان الجنود تقدر تشترى سيوف و حراب و سروج و علف للخيول و بالتالى يقدروا يجهزوا نفسهم تجهيز كويس .. فلو الجنود إستغنت عن مرتباتها فمش هتقدر تستغنى كمان عن تجهيزاتها و إلا يبقى إنتحار جماعى ..

ـــــ

رجع حسن بن مرعى لبيته و فكر فى كل اللى فات ده .. سليم خلاص إنتصر و حكم مصر و طومان باى نفسه مش عارف هو هيعمل إيه .. تعمل إيه يا حسن .. تبلغ عنه و تاخد مكافئتك و لا تحميه للنهاية و تستحمل اللى يجرالك .. هو مال لإنه يبلغ عنه بس موضوع الحلفان على المصحف ده هو اللى كان مخليه متردد .. فضل متردد لحد ما حصلت حاجة خلته ياخد قراره بسرعه ..

طومان باى و هو بيهرب من وردان لمحه ( جان بردى الغزالى ) و خمن طريقه .. بعد المعركة ما خلصت و الدنيا هديت خد معاه 5 فرسان و مشى فى نفس الإتجاه اللى مشى فيه و فى السكة بقى يسأل الفلاحين عليه و عرف منهم إنه غالباً إما راح ناحية الغربية أو البحيرة فرجع تانى لسليم و بلغه باللى حصل و طلب إمداده بفرقة عسكرية عشان يطلع وراه و يقبض عليه فوافق سليم و إداله 8000 عسكرى .. خرج ( الغزالى ) و فضل يسأل لحد ما وصل بعد يومين لحسن بن مرعى .. هنا حسن خاف و إفتكر إن العثمانيين وصلهم خبر إنه مخبيهم فعلاً فقالك الأسلم إنى أعترفلهم باللى حصل و أدلهم عليه ..

خلال اليومين دول كان طومان باى قعد مع الكام مملوك اللى فضلوا معاه و بلغهم إنه خلاص مش هيحارب تانى و إنه هيتخلى عن سلاحه و هيرميه فى المياه بناءاً على رؤية شافها فى منامه و إنه بيحِلّهم من أى إلتزام و كل واحد يروح لحال سبيله فاتجادلوا معاه على مدار اليومين لكن طومان باى كان خلاص خد قراره .. وسط ده كله سمعوا أصوات جاية من بره و شافوا جنود العثمانيين محاصرة المكان فخرجوا كلهم ما عدا طومان باى و اشتيكوا مع العثمانيين لحد ما قدر بعضهم إنه يهرب .. الكل هرب و متبقاش غير طومان باى جوه البيت ..

ـــــ

دخل الجنود الأول و دخل وراهم 4 أفراد .. إياس باشا .. خاير بك .. جان بردى الغزالى .. و أخيراً حسن بن مرعى .. طومان باى كان قاعد على الأرض بدون سلاح فلما دخلت الجنود حاوطته من كل الجوانب لحد ما قرب منه إياس باشا و قاله :

( الأمر أمر الله تعالى فقم يا مولانا السلطان .. إجعل يدك اليمنى فوق اليسرى و لا تؤاخذنا فى ذلك )

فربطوا إيديه و ركبوه على بغل و رجعوا بيه على معسكر سليم الأول فى إمبابة .. سليم مقابلش طومان باى فى اليوم ده و أمرهم إنهم يقعدوه فى أحد الخيام و يعرضوه عليه تانى يوم ..

تانى يوم لبس سليم الأول أحسن ملابسه و تم تجهيز مراسم الإستقبال على أعلى مستوى و وقف الإنكشارية صفين فى غاية الإنضباط و بعدها خرجوا طومان باى و مشوه وسط الجنود لحد ما وصل لديوان سليم .. دخل و سلم على سليم الأول سلام الملوك و رد عليه سليم السلام بنفس الإحترام و منقصش من مقامه حتى إن طومان باى بعد السلام قام وقف فرفض سليم إنه يقف و أمره بالجلوس و بدأ كلامه معاه بالعتاب فقاله :

( يا طومان باى .. كم نهيناك عن القتال و عن سفك دماء المسلمين .. أولاً أنا أرسلت لك من الشام أن تجعل السكة و الخطبة بإسمى .. و أنت مقيم على ملك مصر و أنا ظهرك و معين لك على سائر ملوك الأرض فأبيت ذلك و قتلت رسلى و الرسول لا يُقتل .. فسرنا بعساكرنا لقتالك و رفعنا الأعلام و نشرنا العساكر لخراب ديارك فأول مقابلتك فى الريدانية هزمناك إلى الصعيد .. و أرسلت إليك رسلاً إلى الصعيد و معهم قضاة بلادكم فلم تقبل الصلح و قتلت القضاة و تعديت شيم الكرام بقتل الرسل أولاً و ثانياً )

فرد عليه طومان باى و قاله فى رد طويل إنه كان يميل للصلح و لكن قادة المماليك رفضوا و قتلوا الرسل بغير إرادته و بما إنهم هما اللى إختاروه فكان لازم يدافع عنهم و عن حريمهم للنهاية واستمر طومان باى فى جداله لحد ما سليم قال للى حواليه فى الأخر :

( و الله مثل هذا الرجل لا يُقتل و لكن أخروه فى الترسيم – الإقامة الجبرية – حتى ننظر فى أمره )

ـــــ

طومان باى قعد فى معسكر سليم 17 يوم .. خلال الفترة دى وصلت أخبار لسليم إن بعض العامة مش مصدقين إن طومان باى إتقبض عليه و إن الإشاعات كترت و بتقول إن طومان باى هيفضل على حكم مصر و ناس قالت إن سليم هياخده معاه لإسطنبول و ناس قالت إنه هينفيه لمكة .. فاتضايق سليم من شك الناس فى الخبر و حس إن ده تقليل منه .. من ناحية تانية ( خاير بك ) و ( الغزالى ) لما حسوا إن سليم بيميل للعفو عن طومان باى خافوا على نفسهم و قالوا إنه لو عاش فأكيد هينتقم منهم فحذروا سليم من تركه حى و قالوله إن طالما طومان باى حى فالمماليك هتفضل متعلقة بالأمل و عمر ما حكم البلد دى هيستقر ليك فاقتنع سليم بكلامهم و بالفعل أمر بإعدامه ..

فى صباح 22 ربيع أول سنة 923 هجرياً – 24 إبريل 1517 ميلادياً دخل العساكر لخيمة طومان باى و خرجوه و ركبوه على إكديش ( فرس غير أصيل ) و خرجوا بيه بعد ما حاوطوه ب 400 عسكرى و وراهم موكب سليم الأول .. خرجوا بيه من إمبابة و راحوا على بولاق أبو العلا و عدوا على رمسيس ثم باب الشعرية لحد ما وصلوا لباب زويلة .. كل ده و طومان باى ماشى بيسلم على الناس و هو مش عارف إيه اللى مستنيه .. أول ما الموكب وصل لباب زويلة لقى المشاعلى بينزل منه المشنقة فعرف إنه هيموت .. أمرته العساكر بالصعود للباب فمشى بخطوات ثابتة لحد ما وقف قدام المشنقة و بص للناس و قالهم :

( إقروا لى الفاتحة ثلاث مرات )

و فتح كفه و قرأ الفاتحة و الناس قرأت معاه فلما خلص بص للمشاعلى و قاله كلمتين بالظبط :

( إعمل شغلك )

فلف المشاعلى الحبل على رقبته و زقه .. إبن إياس بيقول إن الحبل إتقطع و بالغ و قال إن الحبل إتقطع مرتين و لكن ده مش مؤكد لإن إعدام شخصية بأهمية طومان باى و فى حضور سليم الأول لا يمكن يتم إلا بعد عملية فحص شاملة و أغلب الظن إن إبن إياس ضاف الحتة دى من عنده حباً و إكراماً لطومان باى و كمان لإنه كان شركسى يدين بالولاء لدولة المماليك ..

أول ما طومان باى إتعدم صرخت الناس صرخة ألم عظيمة و عاشت القاهرة فترة طويلة من الكآبة حزناً على فراقه .. بعد 3 أيام أمر سليم بإنزال جثته فنزلوها و غسلوه و دفنوه فى حوش المدرسة اللى أنشأها عمه السلطان الغورى .. بموت طومان باى بتنتهى دولة المماليك تماماً و بتدخل مصر مرحلة جديدة من عمرها تحت راية الدولة العثمانية ..

ـــــ

تعليقى :
ـــــــــــــ

زى ما شفنا فالصراع العثمانى المملوكى كان ممكن ميبقاش موجود أساساً لو كان الطرفين إدوا لنفسهم فرصة لإعمال السياسة و لكن للأسف الشديد تفاصيل صغيرة إتسببت فى نشوء الحرب دى و تفاصيل أصغر إتسببت فى إستمرارها للنهاية ..

دولة المماليك كانت فى نهاية عمرها بسبب الإهمال اللى حصل فيها أخر 50 أو 60 سنة تفرغ الأمراء فيها للدسائس و المكائد و خيانة السلاطين طمعاً فى المناصب و نسيوا الجهاد و الهدف الأساسى من وجودهم فى مصر .. دولة إنتشر فيها الظلم بشكل مهول و ضاعت الحقوق و أكل القوى الضعيف لحد ما الظهير الشعبى للمماليك تآكل تماماً ..

الأستاذ عبد المنعم عامر محقق كتاب آخرة المماليك بيقول فى مقدمة الكتاب :

( و لم يكن هم المماليك بصالح البلاد شيئاً يذكر بجانب ما كانوا يهتمون به من المصالح الذاتية .. و قد دبت فيهم نوازع الحسد و جرت بينهم دوافع الضغن و حب التعالى و الطمع فأبطل كل واحد منهم ما أحكمه الأخر و نقض ما أبرمه .. فتفرقت كلمتهم و ساءت سيرتهم و صاروا شيعاً و أحزاباً تهوى بها رياح الجهالة و الحمق .. فأصبحوا بلا عدة تحفظهم و لا قوة تمنعهم .. و عم الفساد فى البلاد قاصيها و دانيها .. و توالت موجات الغلاء و الأمراض و تعاقب الوباء و أهمل أمر الرى و ساء توزيع المياه فطميت الترع و الخلجان و انقطعت المياه من المزارع و خيفت السبل و سلب الأمن فطمع العثمانيون فى ملك المماليك )

ـــــ

الشخصيتين الرئيسيتين فى القصة ( سليم الأول ) و ( طومان باى ) ليهم و عليهم .. سليم كان دموى جداً و قتل النفس بالنسبة له كان أسهل ما يكون و كان عصبى و خلقه ضيق و عابس الوجه بإستمرار و قول فيه كل اللى إنت عاوزه لكن فيما يخص دخوله لمصر فكل المصادر أكدت إنه مكانش له رغبة فى دخولها و هدفه الأساسى كان حرب الصفويين و لكن بسبب سوء إدارة الملف السياسى من السلطان الغورى قرر سليم دخولها و حتى بعد دخولها عرض سليم الصلح أكتر من مرة على المماليك و لكنهم رفضوا و قتلوا رسله 3 مرات ..

طومان باى واحد من أفضل المماليك فى زمانه إن لم يكن أفضلهم .. المصريين مكانوش بيحبوا المماليك لكن حبوه هو دوناً عنهم لإنه كان عادل و رحيم بيهم و رفع عن كاهلهم أعباء مادية كتير كانت بتتاخد منهم بالقهر .. راجل كان صالح و تقى و زاهد و عشان كده لما حس المماليك بخطر العثمانيين نسيوا أطماعهم و إختاروه لمنصب السلطان فلقى نفسه متصدر المشهد فى لحظة فارقة فى تاريخ مصر .. حاول و إجتهد و لكن إتعرض للخيانة أكثر من مرة و رغم كده كافح فى حدود إمكانياته .. يؤخذ عليه ضعف شخصيته قدام أمراء المماليك و إنه مقدرش يفرض عليهم قراراته سواء بقبول الصلح مع سليم أو حتى خططه العسكرية فى الريدانية على سبيل المثال و يمكن لو كان قدر يسيطر عليهم لكان سيناريو الحرب إختلف تماماً ..

ـــــ