الحاجب المنصور .. ما له و ما عليه ( جـ 2 )

الحاجب المنصور .. ما له و ما عليه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الجزء الثانى :
ــــــــــــــــــــــ

( محمد بن أبى عامر ) ترجع أصوله لقبيلة ( معافر ) اليمنية .. جده الكبير ( عبد الملك المعافرى ) من أوائل اللى دخلوا الأندلس مع جيش طارق بن زياد وإستقر فى منطقة ( الجزيرة الخضراء – Algeciras ) فى أقصى جنوب الأندلس وكان من نصيبهم إدارة حصن إسمه حصن ( طرُّش – Torrox ) قرب ( مالَقة – malaga ) فاستقر الجد هناك وبقى كبير المنطقة ومع الوقت كبر إسم العائلة وذاع صيتهم أكتر وأكتر ..

واحد من جدود ” ابن أبى عامر ” كان إسمه ( عامر بن محمد ) قدر إنه يتصل بقصر الخلافة وتقلد مناصب عليا فى الدولة وللسبب ده تكنت بإسمه العائلة بعد كده لدرجة إن الدولة فى عهد الحاجب المنصور تم تسميتها بالدولة العامرية نسبة إليه .. والد المنصور هو ( عبد الله بن محمد ) وده راجل كان متدين وزاهد ونسبه عظيم لإن والدته اللى هى جدة المنصور كانت بنت ( يحيى بن إسحق ) الوزير والطبيب الخاص لعبد الرحمن الناصر .. أما أم المنصور فكان إسمها ( بُريهة بنت يحيى ) ودى كانت بتنتمى لقبيلة بنى تميم العربية ودى واحدة من أكبر القبائل العربية و سمعتها معروفة طبعاً سواء فى الجزيرة العربية أو حتى فى الأندلس ..

بقول الكلام ده عشان أوضح إن نسب ( محمد بن أبى عامر ) كان نسب أصيل وإنه من أسرة تاريخها عظيم فى الجهاد وكتير من أفرادها تولوا مناصب القضاء بما له من هيبة ووقار لإن فى قصة مكذوبة على الحاجب المنصور بتقول إن أصله وضيع و إنه كان بيشتغل ” حَمَّار ” وإن الصدفة لوحدها هى اللى وصلته لقيادة البلاد وده مش حقيقى طبعاً ..

ـــــ

قضى المنصور طفولته وصباه ما بين الجزيرة الخضراء ومالقة فى مستوى معيشى جيد وده أتاح ليه تعلم الحديث والآداب واللغات واشتغل فى القضاء لفترة زى بقية أسرته .. كل اللى تعامل معاه فى الفترة دى لاحظ عليه علامات الذكاء و النجابة والطموح وخلينا نتفق على حاجة هتتكرر كتير من دلوقت ولحد ما السلسلة تنتهى إن شاء الله وهى إن مفيش حد تعامل مع محمد بن أبى عامر إلا وشهد له بالذكاء الشديد وقوة العزم والهمة والنشاط والقدرة على إستيعاب أشد الأمور صعوبة حتى لو كانت جديدة عليه .. يعنى من الأخر كده إحنا بنتكلم عن شخصية فذة مش بتتكرر كتير ..

طموح محمد بن أبى عامر خلاه يفكر فى الإنتقال لقرطبة .. طبعاً هو كان عايش كويس فى الجزيرة الخضراء لكن الحياة فى قرطبة مختلفة طبعاً .. درة المدن وعاصمة العلوم وأرض الفرص ومنارة الحضارة فى أوروبا .. كان طبيعى جداً إن واحد بطموح المنصور يفكر بالشكل ده ..

ـــــ

وصل المنصور إلى قرطبة وهو أقل من 20 سنة وهناك تلقى العلم على إيد كبار العلماء فبقى حجة فى الآداب والحديث والتاريخ واللغات وبسبب إجتهاده نال الإجازات اللازمة عشان يقدر يشتغل بيها فى زمن قياسى .. مع كل يوم بيعدى طموحه وإمكانياته كانوا بيزيدوا وكل اللى حواليه لاحظوا ده ومش اللى حواليه بس اللى كانوا حاسين بده .. هو نفسه كان عارف قدر نفسه كويس أوى وكان متأكد إن دخوله لقصر الخلافة مسألة وقت مش أكتر .. من القصص اللى دلت على كده قصته اللى ذكرها المراكشى فى كتاب ( المعجب فى تلخيص أخبار المغرب ) واللى قال فيها :

كان ابن أبى عامر جالساً يوماً مع ثلاثة من أصحابه من طلبة العلم فقال لهم :

( ليختر كل واحد منكم خطة أوليه إياها إذا أُفضى إلى الأمر )

فقال أحدهم :

( تولينى قضاء ” كورة رية ” وهى مالقة وأعمالها فإنه يعجبنى هذا التين الذى يجيء منها )

وقال الآخر :

( تولينى حسبة السوق فإنى أحب هذا الإسفنج )

وقال الثالث :

( إذا أفضى إليك الأمر فأمر أن يطاف بى قرطبة كلها على حمار ووجهى إلى الذنب وأنا مُطلى بالعسل ليجتمع على الذباب والنحل )

والثالث ده كان بيقول كده إستهزاءاً بيه .. مكانش مصدق إن المنصور ممكن فى يوم يبقى الآمر الناهى فى الأندلس .. المهم .. إتفرق الأصدقاء وعدت السنين ووصل المنصور لمنصب الحجابة وعندها نفذ لكل واحد منهم طلبه بما فيهم اللى إستهزأ بيه ..

ـــــ

قصة تانية ذكرها المراكشى فى نفس الكتاب رواها ( محمد بن أسحق التميمى ) قال فيها :

كان محمد بن أبى عامر نازلاً عندى فى حجرة فوق بيتى فدخلت عليه فى بعض الليالى فى آخر الليل فوجدته قاعداً على الحال التى تركته عليها أول الليل حين فصلت عنه فقلت له :

( ما أراك نمت الليلة ؟! )

قال : ( لا )

قلت : ( فما أسهرك ؟ )

قال : ( فكرة عجيبة )

قلت : ( فى ماذا كنت تفكر ؟ )

قال : ( فكرت إذا أفضى إلى الأمر ومات محمد بن بشير القاضى بمن أستبدله ؟ .. ومن الذى يقوم مقامه ؟ .. فجلت الأندلس كلها بخاطرى فلم أجد إلا رجلاً واحداً )

فقلت : ( لعله محمد بن السليم )

قال : ( هو والله .. لشد ما اتفق خاطرى وخاطرك )

القصتين دول يعرفوكم حقيقة شخصية الحاجب المنصور .. الأولى بتبين حجم طموحه المهول رغم إنه كان لسه بيدرس ومكانش معروف هو هيوصل لإيه .. والثانية بتبين قد إيه كان ذكى ونهاز للفرص ومنظم الفكر وجيد التخطيط .. واحد قعد طول الليل يتخيل نفسه فى منصب الخلافة وتخيل وفاة قاضى البلاد وحط نفسه مكان الخليفة وفكر فى أنسب واحد يتولى المنصب ده .. عمل ده كله عشان حاجة واحدة بس .. عشان يقرب من الشخصية الجديدة اللى توقع إنه هيبقى قاضى للبلاد واللى عن طريقه هيقدر يدخل القصر ..

اللى فكر فيه المنصور حصل حرفياً ..

محمد بن السليم بيتولى قضاء الأندلس ..

ولك أن تتخيل إن محمد الشاب الصغير هيكون شغال كاتب عنده ..

ـــــ

محمد ابن أبى عامر بيروح للقاضى ابن السليم وبيعرض عليه خدماته وطبعاً مع مؤهلاته اللى ذكرناها فكان طبيعى إنه يشتغل معاه ولما تولى ابن السليم قضاء الأندلس رسمياً فكر محمد فى كيفية الإستفادة من النقطة دى ففتح ما يشبه مكاتب المحاماة فى زماننا الحالى .. دكان صغير كده إختار إنه يفتحه قرب قصر الزهراء .. وحتى المكان ده مكانش إختياره بالصدفة .. المنصور إختار المكان ده بالذات عشان تتاح ليه الفرصة لكتابة العرائض للناس اللى بتقدم شكاويها وطلباتها للخليفة عشان ينظر فيها وبالتالى إسمه يتذكر داخل القصر .. المنصور مكانش بيتحرك خطوة واحدة بدون تخطيط وتفكير فى اللى جاى ..

أسلوب المنصور البلاغى كان غاية فى الروعة فعلاً وده وضح لكل اللى فى القصر بما فيهم الخليفة ” الحكم المستنصر ” نفسه .. المنصور زى ما قلنا كان أديب وشاعر ومؤرخ ودارس فلسفة ولغة وفقه وشريعة وكل اللى تتخيله .. يعنى كان موسوعة ماشية على الأرض .. المهم مع تكرار العرائض اللى بالجودة دى إتعرف إن اللى بيكتبها شاب إسمه محمد إبن أبى عامر شغال مع القاضى ابن السليم فسألوه عليه فالراجل أثنى على علمه وأدبه إلى أخر صفاته اللى قلنا عليها .. مين اللى سأل عنه وقتها ..

حاجب الدولة ( جعفر بن عثمان المصحفى )

ـــــ

منصب الحاجب يعتبر ثانى أهم منصب فى الدولة بعد الخليفة .. حاجة كده شبيهة بمنصب رئيس الوزراء ونائب رئيس الجمهورية دلوقت .. الحاجب هو اللى بينوب عن الخليفة فى إدارة الدولة فى حالة غيابه وكلمته تمشى على الكل .. ( جعفر المصحفى ) أساساً من البربر وبدأ حياته كمُربى للحكم المستنصر وهو صغير ومع الوقت بقى والى على ( جزيرة مايورقة – Mallorca ) ولما الخلافة إنتقلت للحكم المستنصر عينه وزير ورئيس للشرطة وفضل يترقى معاه لحد ما وصل لمنصب الحجابة ..

بعد ما ربنا رزق ” الحكم ” بإبنه الأول ” عبد الرحمن ” أصبح فى ضرورة لتعيين مربى ومدير لأملاكه .. ما هو الطفل فى قصر الخلافة وقتها كان يتولد من هنا ولازم يبقى وراه واحد يعلمه ويربيه ويتابع ممتلكاته لحد ما يكبر ويستلم منه كل ده .. طبعاً الشخص ده لازم يكون صاحب علم ودين ورؤية ثاقبة وكمان عمره يكون صغير عشان غالباً هيبقى المساعد الأول للطفل ده طول حياته ..

الحكم المستنصر طلب من الحاجب جعفر المصحفى يشوفله واحد ينفع للمنصب ده والمصحفى كان لسه متكلم مع القاضى ابن السليم على الشاب اللى بيكتب العرائض العظيمة دى فملقاش أفضل منه عشان يوليه المسئولية دى .. تم عرض الأمر على الحكم فوافق على طول لإنه زى ما قلنا كان محب للعلم والعلماء واللى سمعه عن المنصور شجعه للقبول بيه ..

سنة 354 هجرياً وفى عمر ال 27 بيحط محمد بن أبى عامر رجله لأول مرة داخل قصر الزهراء .. الحلم اللى فضل طول عمره يخططله إتحقق أخيراً ..

ـــــ

فى شخصيات كده أول ما تشوفها تحس إنها بتسيب فى نفسك أثر .. شخصيات بتثير إعجاب كل اللى حواليها .. تكلفها بمهمة فتأديهالك على أكمل وجه .. تأسرك بأدبها وأسلوبها ودقة ملاحظتها للتفاصيل .. أهو المنصور بن أبى عامر واحد من الشخصيات دى .. دخل القصر من هنا وعرف كل حاجة عنه وعرف يدخل لكل واحد فيه من السكة اللى بتعجبه .. عشان توصل فى القصر لازم تنال ثقة 3 أفراد بالأساس .. الحكم المستنصر والحاجب جعفر المصحفى والأهم أم الولد صبح البشكنجية ..

الحقيقة الراجل مقصرش فى ده أبداً .. بجانب أداءه لمهمته الأساسية على أكمل وجه فهو قدر يوصل لثقة الخليفة والحاجب وقدر كمان يوصل لإعجاب صبح البشنكجية .. معاملة رقيقة .. هدايا .. إهتمام مبالغ بالطفل .. إلى أخره .. ده اللى خلاه يستمر فى القصر رغم وفاة الطفل عبد الرحمن .. فضل قاعد لحد ما ربنا رزق الحكم بالطفل التانى ” هشام ” فتولى المنصور رعايته زى ما تولى رعاية أخوه المتوفى ..

كان ممكن الدنيا تمشى عادى ويفضل محمد ابن أبى عامر مجرد واحد من رجال القصر الأقوياء لسنين قدام لكن حصل حاجة غيرت المعادلة وفتحت الباب للمنصور عشان يحقق طموحاته اللى كان مخبيها عن الكل ..

الحكم المستنصر بالله هيتوفى ..

ـــــ

لقراءة الموضوع على التطبيق الخاص بالكاتب على جوجل بلاى‎ : https://play.google.com/store/apps/details?id=com.amkamel.arabyhost

لقراءة الموضوع على التطبيق الخاص بالكاتب على آب ستور‎ : https://itunes.apple.com/app/id1432249734

ـــــ