الجزء الرابع :
ــــــــــــــــــــــ
عندما فتح المسلمين جبهة القتال مع الروم إحتاجوا إلى المدد فأمدهم الخليفة أبى بكر الصديق بحوالى تسعة آلاف مقاتل من جند العراق وعندما وصل الأمر إلى عمر بن الخطاب ودخلت فتوحات فارس إلى منعطفها الخطر بعد أن جمع الفرس فى القادسية قرابة المائتى ألف مقاتل رأى عمر أن يعيد جيش العراق مرة أخرى لتقوية الصفوف فعاد ستة آلاف مقاتل هم من تبقى من الجيش الأول ..
قام عمر بتولية ( هاشم بن عتبة بن أبى وقاص ) على ذلك الجيش فقام هاشم بتولية ( القعقاع بن عمرو التميمى ) على مقدمة الجيش المكونة من ألف رجل وأمره بأن يسبقهم إلى القادسية .. لا يهزم جيش فيه القعقاع .. هكذا قالها أبو بكر الصديق خليفة رسول الله ﷺ .. سيكون للقعقاع دورٌ كبير عندما يصل لأرض المعركة ..
ـــــ
وصل القعقاع مع طليعة الجيش القادم من الشام فى صبيحة اليوم الثانى من المعركة وقد نال الإجهاد من المسلمين بسبب معارك اليوم الأول وكان رضى الله عنه قد تعلم الكثير من ( خالد بن الوليد ) أثناء ملازمته له وقد تعلم منه أن الروح المعنوية هى أحد أهم العوامل فى تحقيق النصر فصب كل تركيزه أثناء قدومه من الشام إلى العراق على وضع خطة يثبط بها من عزيمة الفرس ويرفع بها من معنويات المسلمين .. قبل القادسية بمسيرة ساعات قرر تقسيم جيشه إلى عشرة فرق فى كل فرقة مائة فارس وأمرهم بأن لا يتحرك إحداها قبل أن تغيب أختها عن النظر فصارت الفرق تدخل متتالية إلى أرض المعركة فيزداد المسلمين ثباتاً ويزداد تخذيل الفرس ..
تحرك القعقاع فى أول فرقة فلما وصل إلى أرض المعركة كبر فعرفه المسلمين وردوا عليه التكبير فبشرهم بقدوم المدد إليهم ومع أول توقف للقتال قرر الخروج للمبارزة فخرج صائحاً :
( من يبارز ؟ )
فخرج له ( بَهمَن جاذويه ) قائد الفرس فى معركة الجسر التى خسرها المسلمون فلما عرفه القعقاع صاح :
( يالثارات أبو عبيد وسَليط وأصحاب يوم الجسر )
فاهتز ( بَهمَن ) بصيحته وعلم أنه الإنتقام .. لم يمر وقت طويل حتى سقط بَهمَن صريعاً فوقف القعقاع منادياً فيهم مرة أخرى :
( من يبارز ؟ )
فخرج له إثنان من قادة الفرس هما ( البيرزان ) و ( البندوان ) فخرج مع القعقاع أحد أبطال المسلمين هو ( الحارث بن ظبيان ) فاستطاعوا قتلهما .. بهذا قتل إثنان من قادة الصف الأول للفرس وقتل قائد من الصف الثانى هو البندوان وهو ما رفع من معنويات المسلمين إلى عنان السماء .. كان هذا وقتاً مناسباً للهجوم فأمر سعد الجيش بالهجوم الشامل فالتحم الفريقان ووقف القعقاع منادياً ليزيد من حماس الجنود :
( يا معشر المسلمين .. باشروهم بالسيوف فإنما يُحصد الناس بها )
وقد استشهد من المسلمين فى ذلك اليوم ألفان من الجنود وقتل من الفرس قرابة العشرة آلاف وسمى ذلك اليوم بيوم أغواث بسبب وصول طليعة جيش الشام فكانوا غوثاً لهم على حرب الفرس ..
ـــــ
فى ليلة اليوم الثالث استمر القعقاع فى إبتكاراته وكرر نفس خطته بالأمس مرة أخرى فأخرج فرقته فى جنح الليل وأمرهم أن يدركوهم قبل بداية المعركة فى الصباح وأن يدخلوا عشرة فرق كل فرقة بها مئة فارس وفعل مثله أخوه عاصم وغير معلوم إذا ما كانا قد اتفقا معاً أم كانت مصادفة فقد أخرج عاصم فرقته هو الأخر مستوحياً فكرة أخيه وعند الصباح صارت فرسان المسلمين تقتحم الميدان على دفعات وكلما دخلت فرقة كلما نال هذا من عزيمة الفرس ..
لم يكتفى القعقاع بهذا بل إبتكر فكرة جديدة عندما سمع بالأفيال التى استخدمها الفرس فقرر أن يواجهها بسلاح فى حدود إمكانيات العرب فأمر بإحضار الإبل والجمال عظيمة الحجم وألبسها صوف الخيام فلم يظهر منها إلا عيونها ثم أحاطها بأجراس وجلاجل وقطع الحديد فكانت كلما تحركت أصدرت صليلاً قريباً لصليل أفيال الفرس وأخيراً أمر بأن تبيت الإبل ليلتها بجوار خيول المسلمين حتى يألفونها ولا يخشونها ثم أمر بإخراجها عند بدء المعركة فخرجت الإبل وقد ركب كل جمل ثلاثة من جنود المسلمين فكانت خيول الفرس تخشاها لغرابة مظهرها .. وبخلاف ما سبق فقد إكتملت أسباب النصر بوصول باقى جيش الشام وهذا من بشائر رحمة الله بالمسلمين حيث إزدادات قوتهم بقرابة خمسة آلاف مقاتل ..
فى المقابل أعاد الفرس تنظيم صفوفهم وأعادوا تسليح أفيالهم بعد أن تكسرت توابيتها فى اليوم الأول وأعدوا خطة جديدة يتلافون بها أخطاء اليوم الاول حيث أحاطوا الفيلة بعدد من الرجال والفرسان لحمايتها بعد أن كانت حرة طليقة فى اليوم الأول وبالرغم من إستعداداتهم إلا أن الله سلط عليهم أنفسهم حيث أنه طبقاً لمعتقدهم كان محرم عليهم دفن موتاهم وإنما كانوا يتركونها على الجبال تنهشها الطيور الجارحة وبما أن الوقت كان ضيقاً فقد تركوا موتاهم طوال الليل بينما قام المسلمين بدفن موتاهم على بعد ثلاثة كيلو مترات من موقع المعركة فصبح الصبح ولا يوجد أثر لقتلى المسلمين بينما كانت قتلى الفرس تملأ الميدان فنال هذا منهم وثبطهم ..
ـــــ
لما رأى ( سعد بن أبى وقاص ) الفيلة وقد تجهزت مرة أخرى خشى من هلاك المسلمين فنادى ببعض الجنود الفرس الذين كانوا قد أسلموا منذ فترة وقال لهم :
( هل للفيلة مَقَاتل ؟ )
فقالوا :
( نعم .. مشافرها وعيونها )
فأرسل للأخان التميميان .. القعقاع وعاصم وقال لهما :
( إكفيانى الفيل الأبيض )
ثم أرسل إلى ( حَمّال بن مالك الأسدى ) و ( الربيل بن عمر الأسدى ) وقال لهما :
( إكفيانى الفيل الأجرب )
وكانت خطة سعد تقضى بأنه إذا قتل المسلمون الفيلان فإن باقى الفيلة ستهرب كون الفيلان المذكوران هما قائدا القطيع وأضخمهما وأكثرهما تسليحاً فإن نجحت الخطة إنفض القطيع وخسر الفرس سلاحهم النوعى وأصبحت المعركة متكافئة مرة أخرى ..
جمع الرجال المختارون بعض اخوانهم وهجموا هجمة رجل واحد على الفيلان فشاغلوهما بينما ركز القعقاع وعاصم وحَمّال والربيل على عيون الفيلة ومشافرها وأمطروهما بالسهام فلما أردوهما اتضح أن سعداً كان يملك بُعد نظر فقد هاجت باقى الفيلة ولم تستدل على قادتها فرجعوا إلى الخلف وفروا عابرين نهر العتيق وقد أصابت عدد كبير من جنود الفرس أثناء فرارها العشوائى ..
بعد فرار الأفيال استوت كفة المعركة مرة أخرى بعد أن كان الضغط أكبر على المسلمين وانتهى اليوم بدون ان ينتصر أحد الفريقين على الأخر .. وقد سمى ذلك اليوم بيوم عَمَاس أى الشديد فى الشر وسمى بهذا لشدته على المسلمين والفرس فى نفس الوقت ولشده ما لاقوا من عنت فى القتال ..
ـــــ
القتال لم يبدأ فى اليوم الرابع .. القتال بدأ فعلياً فى ليلة اليوم الرابع .. المعارك عادة فى ذلك الزمان كانت تحسم فى يوم واحد فإن طالت فيومان على الأكثر .. أما المعارك التى تزيد عن يومان فكانت تعتبر معارك كبيرة وفاصلة وتم الإعداد لها جيداً ولهذا تبرز أهمية معارك مثل اليرموك التى استمرت ستة أيام والقادسية التى استمرت أربعة أيام .. ثلاثة أيام مضت على الفرس لم يستطيعوا فيها حسم المعركة حتى مع تفوقهم العددى وتجهيزاتهم الأعلى ..
فى ليلة اليوم الرابع جهز رستم جيشه و أمر بأن تكون المواجهات جماعية لا فرديه فقد اكتفى من خسارة قادته خلال الأيام الثلاث الأولى فظلت المواجهات مستمرة طوال الليل إلى النهار وإن كانت ليست بقوة الهجوم الشامل .. كان الأمر جدياً حقاً وظهر أن تحضيرات الفرس لذلك اليوم مختلفة عن الأيام السابقة .. وجوه قاسية .. واجمة .. لا يتحدثون إلى بعضهم البعض سوى بالهمهمة .. فى المقابل تعالت همهات ذكر الله من قبل المسلمين فأصبح الميدان أقرب لخلية نحل يُسمع دويها من بعيد .. سميت تلك الليلة بليلة الهرير نسبة إلى تلك الهمهمات .. تركيز كامل لإنهاء المعركة فى تلك الليلة .. لم يصبروا للصباح .. الليلة وإلا فإنها النهاية ..
هكذا فكر رستم ..
ولكم كان محقاً ..
ـــــ
مصادر :
ـــــــــــــ
( * ) الكامل فى التاريخ لإبن الأثير ص 320 ( 2/469 ) : ص 323 ( 2/479 )
( * ) الخلفاء الراشدون لعبد الوهاب النجار – ص 110
( * ) فصل الخطاب فى سيرة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – على محمد الصلابى ص : 511
ـــــ
