معركة القادسية ( جـ 3 )

الجزء الثالث :
ــــــــــــــــــــــ

رستم سمع حديثاً عجيباً من ( ربعى بن عامر ) ومن قبله وفد المسلمين إلى يزدجرد .. ما بال هؤلاء القوم لا يخشون عددنا ولا يهتمون بزخارفنا ولا يقيمون وزناً لقوتنا .. ما رآه جعله يريد أن يسمع أكثر فطلب من ( سعد بن أبى وقاص ) أن يرسل إليه نفس الرجل الذى جاءه أمس إلا أنه أرسل إليه رسول أخر هو ( حذيفة بن محصن ) فقال له رستم :

( ما بالك جئت ولم يجئ صاحبنا بالأمس ؟ )

فقال حذيفة :

( إن أميرنا يحب أن يعدل بيننا فى الشدة والرخاء .. فهذه نوبتى )

فقال رستم :

( ما جاء بكم ؟ )

قال حذيفة :

( إن الله عز وجل مَنّ علينا بدينه وأرانا آياته حتى عرفناه وكنا له منكرين .. ثم أمرنا بدعاء الناس إلى واحدة من ثلاث فأيها أجابوا إليها قبلناها .. الإسلام وننصرف عنكم .. أو الجزاء ونمنعكم إن احتجتم إلى ذلك .. أو المنابذة )

فقال رستم :

( والمواعدة إلى متى ؟ )

فرد حذيفة :

( نعم  .. ثلاثاً من أمس )

ملمح أخر يضيفه حذيفة إلى ما سبق وأضافه ربعى .. ها هو يظهر لهم مدى عدل الإسلام حتى بين عامة الجنود والمساواة بينهم فى الحقوق والواجبات .. وها هو يوضح لرستم أن المُهلة تحتسب منذ زيارة أول رسول إليه ولا تعاد من البداية مع كل زيارة .. لديك ثلاثة أيام فقط .. فإما الإسلام وإما الجزية وإما الحرب ..

ـــــ

إندهش رستم مما رأى من رسل المسلمين وكان كلما غادر رسول تشاور مع أصحابه فى أمرهم وكان يرى أن فيهم علماً ومنطقاً بالإضافة لبراعتهم القتالية بينما رأى قادته أنه يعطيهم أكبر من حجمهم .. رستم أراد أن يتعرف أكثر على عدوه القادم فأرسل إلى سعد كى يرسل إليه رسولاً أخر فبعث له ( المغيرة بن شعبة ) الذى ما أن وصل إلى رستم حتى جلس معه على سريره المذهب واتكأ على وسادته فلما رآه الحرس دفعوه دفعاً شديداً ليبعدوه عن السرير فقال لهم المغيرة :

( كانت تبلغنا عنكم الأحلام ولا أرى قوما أسفه منكم .. إنا معشر العرب سواء لا يستعبد بعضنا بعضاً إلا أن يكون محارباً لصاحبه فظننت أنكم تواسون قومكم كما نتواسى .. وكان أحسن من الذى صنعتم أن تخبرونى أن بعضكم أرباب بعض وأن هذا الأمر لا يستقيم فيكم فلا نصنعه .. ولم آتكم ولكن دعوتمونى .. اليوم علمت أن أمركم مضمحل وأنكم مغلوبون وأن مُلكاً لا يقوم على هذه السيرة ولا على هذه العقول )

فنظر القادة لبعضهم وقال دهاقينهم فيما بينهم :

( صدق والله العربى .. والله لقد رمى بكلام لا يزال عبيدنا ينزعون إليه .. قاتل الله أولينا .. ما كان أحمقهم حين كانوا يصغرون أمر هذه الأمة )

بعدها بدأ رستم حديثه مع المغيره بتعظيمه لتاريخ الإمبراطورية الساسانية وكيف أن فارس كانت لها السيطرة على ممالك عظيمة ثم أكمل حديثه بتحقيره من شأن العرب ومعايرته لهم بضيق حالهم وبداوتهم التى نشأوا فيها وكيف أن فارس كانت تساعد العرب بإمدادهم بالطعام فى مواسم القحط وكيف أنهم كانوا قبائل متناثرة يُغير بعضها على بعض ويستعبد قويهم ضعيفهم ثم قال للمغيرة إنه يعلم أن ما أخرجكم من دياركم إلا ما لاقيتم من ضيق الحال هناك وعليه فإنه سيأمر لقائدكم بكسوة وبغل وألف درهم ولكل جندى من جنود المسلمين بحمل تمر وبثوبين ثم تنصرفوا جميعاً عائدين لدياركم .. فلما انتهى من حديثه قال له المغيرة بعد أن حمد الله وأثنى عليه :

( أما الذى ذكرت به نفسك وأهل بلادك من الظهور على الأعداء والتمكن فى البلاد وعظم السلطان فى الدنيا فنحن نعرفه ولسنا ننكره .. فالله صنعه بكم ووضعه فيكم وهو له دونكم .. وأما الذى ذكرت فينا من سوء الحال وضيق المعيشة واختلاف القلوب فنحن نعرفه ولسنا ننكره والله ابتلانا بذلك وصيرنا إليه .. والدنيا دول .. ولم يزل أهل شدائدها يتوقعون الرخاء حتى يصيروا إليه ولم يزل أهل رخائها يتوقعون الشدائد حتى تنزل بهم ويصيروا إليها .. ولو كنتم فيما آتاكم الله ذوى شكر كان شكركم يقصر عما أوتيتم وأسلمكم ضعف الشكر إلى تغير الحال .. ولو كنا فيما ابتلينا به أهل كفر كان عظيم ما تتابع علينا مستجلباً من الله رحمة يرفه بها عنا .. ولكن الشأن غير ما تذهبون إليه أو كنتم تعرفوننا به .. إن الله تبارك وتعالى بعث فينا رسولاً …. ثم ذكر مثلما ذكر صاحبيه الأوليان حتى قال : وإن احتجت إلينا أن نمنعك فكن لنا عبداً تؤدى الجزية عن يد وأنت صاغر وإلا فالسيف إن أبيت )

وكان المغيرة يريد تأديب رستم بسبب تكبره وصلفه لذلك استفزه فى نهاية حديثه فاستشاط لذلك رستم وقال :

( إرجع إلى قومك لا شيء لكم عندى .. وإنى أقسم بالشمس أن أدفنكم غداً فى القادسية )

ـــــ

فشلت المفاوضات بين الجانبين وبدا واضحاً أنها الحرب ولا شيء سواها .. ولما كان سعد بن أبى وقاص مريضاً بعرق النسا وبعض الدمامل التى أعاقته عن قيادة المعركة من الميدان فقد جعل له نائباً هو ( خالد بن عُرفُطة ) يقوم سعد بتوجيه الرسل إليه ويأتمر الجند بأمره فى الميدان .. قسم سعد جيش المسلمين إلى أربعة أقسام فكان على الميمنة عبد الله بن المعتم وعلى ميمنة القلب عاصم بن عمرو التميمى وعلى ميسرة القلب زهرة بن الحوية وعلى الميسرة شُرَحْبيل بن السمط وكان على الخيل قيس بن مكشوح العبسى وعلى المشاة المغيرة بن شعبة ..

بعد اصطفاف الجيش أمر سعد قادة المسلمين ووجهائهم أن يستثيروا همم المجاهدين وأن يخطبوا فيهم ويحرضوهم على القتال ففعلوا فزادت حماستهم واشتياقهم إلى الجهاد فى سبيل الله ثم وجه بيانه للجيش قائلاً :

( يا معشر المسلمين .. الزموا مواقفكم .. لا تحركوا شيئاً حتى تُصلُّوا الظهر .. فإذا صليتم الظهر فإنى مُكبِّر تكبيرة فكبروا واستعدوا .. واعلموا أن التكبير لم يُعْطه أحد قبلكم .. واعلموا أنما أُعطيتموه تأييداً لكم .. ثم إذا سمعتم الثانية فكبروا .. ولتستتم عُدَتكم .. ثم إذا كبرت الثالثة فكبروا .. ولينشط فرسانكم الناس ليبرزوا وليطاردوا .. فإذا كبرت الرابعة فازحفوا جميعاً حتى تخالطوا عدوكم وقولوا لا حول ولا قوة إلا بالله )

بعد أن ألقى البيان أمر قراء القرءان أن يكون كل واحد منهم على رأس كتيبة ليتلوا سورة الأنفال فلما انتهوا منها لانت قلوب الجند وهشت وفاضت أعينهم وتجهزوا نفسياً ومعنوياً للقتال ..

فى المقابل جمع الفرس لتلك المعركة جُل ما يملكون من قوة .. بعض الروايات تقول أن تعداد جيش الفرس كان مئتى ألف مقاتل وأقل التقديرات قالت إن تعداده مئة وعشرون ألف .. لم يكتفوا بذلك وإنما أحضروا جميع القادة العسكريين من الصف الأول والثانى .. جمعوا أشد القادة وأكثرهم عزاً وكبرياءاً .. القادسية كانت معركة فاصلة بالنسبة إليهم .. ففى القيادة العامة للجيوش كان هناك ( رستم فرخزاد ) أما عن تقسيم الجيش فقد قسمه الفرس إلى خمس أجزاء .. قلب وجناحين وميمنة القلب وميسرة القلب .. وضع رستم على الميمنة ( الهرمزان ) ثم فى ميمنة القلب وضع ( الجالينوس ) ثم فى القلب وضع أشد قادتهم ( بَهمَن جاذويه ) أو ذو الحاجب كما أُطلق عليه لأنه كان يربط رأسه بعصابة فيظل حاجباه مرفوعان غروراً وكبرياءاً .. فى ميسرة القلب كان هناك ( البيرزان ) ثم فى الميسرة كان هناك ( مهران رازى )

بدأ القتال بالمبارزات فأخرج الفرس العديد من أبطالهم وخرج لملاقاتهم أبطال المسلمين مثل عاصم بن عمرو التميمى وعمرو بن معد يكرب وغالب بن عبد الله الأسدى فما قتل أو جرح أحد من أبطال المسلمين وفى المقابل قتل وأسر كل من خرج من صفوف الفرس وبينما أبطال المسلمين فى كر وفر ومنازلات رأى رستم أن الدائرة تدور عليه وكلما مر الوقت نالت الهزائم من عزيمة جنوده فأمر ميسرته بالهجوم على أحد قطاعات ميمنة المسلمين وكان فيه قبيلة بُجيلة .. جيش الفرس كان يملك بين صفوفه ثلاثة وثلاثون فيلاً .. هذا الهجوم وحده تضمن ثمانية أفيال وكانت العادة عند الفرس أن يكون كل فيل على رأس كتيبة مكونة من أربعة آلاف مقاتل .. وضع صعب .. إن استمر ضغط الفرس على هذا الجناح فلن يحتملوا وقد يخترق جيش المسلمين ..

على سعد أن يتصرف ..

وفى أسرع وقت ..

ـــــ

لما رأى سعد هجوم الفرس الضاغط على بُجيلة بعث إلى بنى أسد يأمرهم بمساعدة إخوانهم وأن يميلوا على جيش الفرس فيفرقوه فخرجت أربعة كتائب من بنى أسد يتقدمهم واحد من أبطال المسلمين .. واحد ممن أشركوا بالله قديماً .. لم يكن مشركاً عادياً بل إنه واحد ممن ادعوا النبوة بعد وفاة رسول الله ﷺ .. طليحة بن خويلد الأُسدى .. عاد للإسلام بعد إنتهاء حروب الردة وحسن إسلامه وها هو الآن يهب لنجده إخوانه من بُجيلة .. غاصت الأربعة كتائب فى صفوف الفرس مشتبكين معهم ومحدثين أكبر خسائر ممكنة فى صفوفهم فخف الضغط كثيراً عن بُجيلة ورجالها وكان لطليحة مواقف بطولية شهد لها كل من رآها وشهد بأن الرجل كان يطلب الشهادة فى هذا اليوم مثلما لم يطلبها أحد .. وبالرغم من ذلك ظلت الأفيال هى العقبة الكبرى أمام المسلمين حيث نالت منهم بشدة .. كان هذا يستدعى تدخلاً سريعاً من سعد رضى الله عنه ..

تصرف سعد كان سريعاً بالفعل .. أرسل إلى عاصم بن عمرو التميمى وقال له :

( يا معشر بنى تميم .. ألستم أصحاب الإبل والخيل ؟ أما عندكم لهذه الفيلة من حيلة ؟ )

قالوا :

( بلى والله )

فنادى عاصم فى قومه قائلاً :

( يا معشر الرماة ذُبُّوا ركبان الفيلة عنهم بالنبل )

ثم قال :

( يا معشر أهل الثقافة – أى الذكاء – استدبروا الفيلة فقطِّعوا وضُنُها – أى أحزمتها – لتسقط توابيتها التى تحمل المقاتلين )

وبينما تهاجم بنى تميم الفيلة وتسقطها واحداً تلو الآخر أمر رستم كل قطاعات جيشه بالهجوم وعندها كبر سعد بن أبى وقاص تكبيرته الرابعة فالتحمت كل قطاعات الجيش مع الفرس فانشغلوا عن إمداد جناحهم الذى مال على بُجيلة وأسد فخف عنهم الضغط واعتدلت الكفة مرة أخرى وظل الإشتباك قائماً حتى غروب الشمس .. سُمى ذلك اليوم بيوم أرماث نسبة إلى إختلاط صفوف الجيشن مع عدم القدرة على تحديد منتصر فيه وإن كانت الكفة مالت نسبياً إلى الفرس بعد الهجوم على بجيلة وأسد .. استشهد من المسلمين قرابة الخمسمائة مقاتل فى ذلك اليوم أغلبهم من الأربع كتائب الأسدية التى ساندت طليحة بن خويلد فى نصرته لبُجيلة وقتل من الفرس قرابة الألفان وخسروا فى ذلك اليوم ثلث أفيالهم تقريباً ..

ـــــ

مصادر :
ـــــــــــــ

( * ) تاريخ الطبرى – الجزء الثالث – ص 519 : 540

ـــــ