معركة القادسية ( جـ 1 )

الجزء الأول :
ـــــــــــــــــــ

بعد تخليص جزيرة العرب من ردتها وإعادتها مرة أخرى إلى الإسلام توجهت أنظار المسلمين إلى فتح بلاد فارس فحدثت كثير من المواجهات والمعارك الدامية بين المسلمين والإمبراطورية الساسانية نال فيها المسلمين من كبرياء الفرس أيما منال .. معركة ذات السلاسل والثنى والولجة وأُليس جميعهم إنتهوا بإنتصار المسلمين .. فتحت أمغيشيا والحيرة والأنبار .. أذل المسلمين الفرس فى عين التمر والنمارق وكَسْكَر .. حتى عندما انتصر الفرس فى معركة الجسر واستشهد فى ذلك اليوم قرابة نصف جيش المسلمين لم ينعم الفرس بإنتصارهم كثيراً واستطاع المسلمون من الإنتصار عليهم فى معركة البُويب ..

نتحدث هنا عن معجزة عسكرية لم يحدث مثلها فى التاريخ .. هزيمة تلو الأخرى وضربات متتالية تأخذ حظها من جسد الإمبراطورية المتهاوى .. الهزيمة فى البُويب لم تكن متوقعة من قبل الفرس .. لم يتوقعوا أن يتمكن المسلمين من جمع جيش بديل بتلك السرعة وحتى لو تمكنوا من ذلك فإنهم بالتأكيد لن يتمكنوا من جمع من هو بكفاءة قتلاهم فى معركة الجسر .. هزيمة استدعت سادة وكبراء الفرس أن يجتمعوا ب ( رستم ) و ( الفَيرُزان ) وهما ابرز قادة فارس وقتها وسبب الإجتماع انه كان بينهما خلافاً فى الرأى وصراعاً مريراً على السلطة تسبب فى تلك الهزائم المتتالية فكان لابد من وقفة حازمة ..

أثناء الإجتماع قال لهما كبراء فارس :

( ما تنتظرون والله إلا أن يُنزل بنا ونهلك .. والله ما جر هذا الوهن علينا غيركم يا معشر القواد .. لقد فرقتم بين أهل فارس وثبطتموهم عن عدوهم .. والله لولا أن فى قتلكم هلاكنا لعجلنا لكم القتل الساعة ولئن لم تنتهوا لنهلكنكم ثم نهلك وقد اشتفينا منكم )

كان اجتماعهم تنبيهاً لهما بأثر ما فات وتحذيراً لما هو آت وبات ظاهراً لرستم والفيرزان أن تصدرهما للمشهد العسكرى أكثر من ذلك قد يكون فيه هلاكهما وهلاك فارس أيضاً .. أصبحت هناك حاجة لخطة بديلة تضمن لهما موقعيهما وتحميهما أيضاً من المسائلة .. وجد الرجلان نفسيهما وقد تم تحميلهما كافة الخسائر السابقة فأرادا أن يتنصلا من تلك المسئولية مع تحميلها لشخص أخر .. شخص من ذرية كسرى .. ولكن كيف والملك ( شيرويه ) قد قتل كل الذكور من آل كسرى حتى لا ينازعه أحدهم فى الملك .. قتل إخوته السبعة عشر وأبنائهم وكل من يستحق الملك من نسلهم .. رغم ذلك فإنهم لم ييئسا واستمرا فى البحث حتى اهتديا إلى واحد من أبناء شهريار بن كسرى أخفته أمه عند أخواله فى أصطخر .. فأتوه وكان شاباً فى الحادى والعشرين من عمره ..

إسمه كان ( يزدجرد بن شهريار )

أخر الذكور المتبقين من آل ساسان ..

ـــــ

يزدجرد كان يدرك قيمة ما وصل إلى يديه وهو الذى عاش حياته فقيراً فاراً من القتل لذا كانت رغبته عارمة فى الحفاظ على ملكه وملك آباؤه وأجداده .. هو لن يعود فقيراً مشرداً مرة أخرى لذا أمر بإحضار المقاتلين من شتى بقاع الإمبراطورية ولو قسراً .. أراد تجميع عدد مهول لم يتوفر للفرس فى أى معركة سابقة .. أعطى للجيش إهتمامه الأكبر فنظم الصفوف وحمى الثغور ودعم الجيش وأمده بأسلحة جديدة فى أقصر وقت ممكن وساعده فى هذا طاعة قادته وإعانتهم له لأنه كان طرفاً محايداً لا علاقة له بالصراع الدائر بين ( رستم ) و ( الفيرُزان ) وأيضاً لأنه الوريث الشرعى للعرش .. بدأت آثار سياسة يزدجرد فى الوضوح عندما بدأ الدهاقين وبعض الجواسيس فى تحفيز أهل الذمة الذين يقطنون فى الأراضى التى فتحها المسلمون وتزكية روح الثورة والتمرد فى نفوسهم لإشغال المسلمين بالداخل فيقل إستعدادهم للخارج ..

تلك الأحداث شعر بها قائد المسلمين فى العراق ( المُثنى بن حارثة الشيبانى ) فقام بكتابة مخاوفه إلى الخليفة ( عمر بن الخطاب ) فى المدينة فجاءه الرد واضحاً لا لبس فيه :

( أما بعد .. فاخرجوا من بين ظهرانى الأعاجم وتنحوا إلى البر وتفرقوا فى المياه التى تلى الأعاجم على حدود أرضكم وأرضهم .. ولا تدعوا فى ربيعة أحداً ولا مضر ولا حلفائهم أحداً من أهل النجدات ولا فارساً إلا اجتلبتموه .. فإن جاء طائعاً وإلا حشرتموه .. احملوا العرب على الجِد إذ جَد العجم .. فلتلقوا جدهم بجدكم )

على الفور بدأ ( المُثنى ) فى الإنسحاب بجيشه من الأراضى التى فتحها والتراجع إلى أدنى منطقة بعد نهر دجلة وبدأ فى تشكيل نقاط حراسة ومراقبة بطول جبهة القتال المتوقعة مع الفرس يدعم بعضها بعضاً فى حالة حدوث أى هجوم .. فى تلك الأثناء كان عمر يحشد الجيوش ويرسل فى الأمصار كلها لتجنيد المسلمين ولو إجبارياً لمواجهة خطر الفرس المحدق بأمة الإسلام وخرج بنفسه على رأس جيش المدينة وترك عليها ( على بن أبى طالب ) حتى وصل إلى ماء يسمى صرار دون أن يخبرهم برغبته بالخروج حتى إذا ما وصل إلى هناك وقف بين الناس يطلب رأيهم فى أمر خروجه فرد عامة الناس :

( سِر و سِر بنا معك )

فوافق حديثه رأى كبار الصحابة جميعهم ما عدا اثنان .. ( العباس بن عبد المطلب ) و ( عبد الرحمن بن عوف ) حيث قال له العباس :

( لا والله لا أرى ذلك رأياً .. بل تبقى فى المدينة ويخرج على المسلمين أحد صحابة رسول الله ﷺ )

فأكمل عبد الرحمن بن عوف وقال :

( إنى أخشى إن كُسرت أن تضعف المسلمون فى سائر أقطار الأرض .. وإنى أرى أن تبعث رجلاً وترجع أنت إلى المدينة )

فلما سمع كبار الصحابة رأى الصحابيان الجليلان مالوا إلى رأيهما فأصبح عمر فى حيرة من أمره فيمن يولى على الجيش فى تلك المعركة الفاصلة التى حشد لها الفرس جُل طاقتهم فنظر لمن حوله وقال لهم :

( أشيروا على .. من تروا أن نبعث إلى العراق ؟ )

بعد تفكير قال عبد الرحمن بن عوف :

( قد وجدته .. الأسد فى براثنه .. سعد بن مالك الزهرى )

ـــــ

سعد بن أبى وقاص مالك القرشى الزهرى .. أحد أخوال رسول الله ﷺ – ابن خالة والدته تحديداً – وأحد العشرة المبشرين بالجنة وخامس من أسلم فى أمة محمد وأحد الستة الذين ارتضى عمر أن يختاروا من بينهم خليفة للمسلمين من بعده .. كثير من الفضائل كانت فى سعد رضى الله عنه إلا أن ذلك لم يمنع عمر من توصيته قبل توليه مسئولية الجيش حين قال له :

( يا سعد بنى وُهَيب .. لا يغرنّك من الله أن قيل خال رسول الله ﷺ وصاحب رسول الله ﷺ فإن الله عز وجل لا يمحو السيء بالسيء ولكنه يمحو السيء بالحسن .. فإن الله تعالى ليس بينه وبين أحد نسب إلا طاعته .. فالناس شريفهم ووضيعهم فى ذات الله سواء .. الله ربهم وهم عباده .. يتفاضلون بالعافية .. ويدركون ما عنده بالطاعة .. فانظر الأمر الذى رأيت رسول الله ﷺ منذ بُعث إلى أن فارقنا فالزمه فإنه الأمر .. هذه عظتى .. إياك إن تركتها ورغبت عنها كنت من الخاسرين )

فلما أراد فراقه قال له :

( إنك ستقدم على أمر شديد فالصبر الصبر على ما أصابك ونابك تجمع لك خشية الله .. واعلم أن خشية الله تجتمع فى أمرين : فى طاعته واجتناب معصيته .. وإنما طاعة من أطاعه ببغض الدنيا وحب الآخرة .. وإنما عصيان من عصاه بحب الدنيا وبغض الآخرة .. وللقلوب حقائق يُنشئها الله إنشاءً منها للسر ومنها العلانية .. فأما العلانية فأن يكون حامده وذامه فى الحق سواء .. وأما السر فيعرف بظهور الحكمة من قلبه على لسانه وبمحبة الناس .. ومن محبة الناس فلا تزهد فى التحبب فإن النبيين قد سألوا محبتهم وإن الله إذا أحب عبداً حببه وإذا أبغض عبداً بغضه فاعتبر منزلتك عند الله بمنزلتك عند الناس )

ـــــ

خرج سعد حينها بجيش يُقدر بأربعة آلاف مقاتل متجهين إلى العراق وفى أثناء مسيرهم ألم بالمُثنى بن حارثة مرضاً شديداً وقيل أن الإصابة التى أصيب بها فى معركة الجسر قد تفاقمت فلما شعر بدنو أجله طلب بأن يجتمع بأخيه ( المُعَنّى ) وأوصاه وصيته الأخيرة وأمره بأن يسرع بها إلى سعد بن أبى وقاص فقال له :

( أخبر سعداً أن لا يقاتل عدوى وعدوهم إذا استجمع أمرهم وملؤهم فى عقر دارهم وأن يقاتلهم على حدود أرضهم على أدنى حجر من أرض العرب وأدنى مردة من أرض العجم .. فإن يُظهر الله المسلمين عليهم فلهم ما وراءهم .. وإن تكن الأخرى فاؤوا إلى فئة ثم يكونون أعلم بسبيلهم وأجرأ على أرضهم إلى أن يرد الله الكرة عليهم )

حتى قبل وفاته بساعات كان ( المُثنى ) رضى الله عنه يفكر فى نصرة الإسلام والمسلمين ..

ـــــ

ما أن وصل سعد إلى أرض المعركة حتى وصف لعمر الأراضى التى يُحتمل أن تكون هى أرض المعركة وأخبره بأن الكثير من أهل الذمة قد نقضوا عهودهم مع المسلمين وأنهم يمالئون الفرس الآن فما كان من عمر إلا أن أرسل إليه رسالة قال فيها :

( قد جاءنى كتابك وفهمته .. فإذاً لقيت عدوك ومنحك الله أدبارهم .. فإنه قد ألقى فى روعى أنكم ستهزمونهم فلا تَشُكَّن فى ذلك .. فإذا هزمتهم فلا تنزع عنهم حتى تقتحم عليهم المدائن فإنه خرابها إن شاء الله )

أمر ( عمر ) فى رسالته ( سعد ) بأن يبقى فى مكانه حتى يأتى إليه عدوه ثم أمره بأن لا يبادر العدو بالقتال وإنما يترك لهم أمر المبادرة وأخيراً أمره بأن يستمر بملاحقتهم حتى يصل إلى عاصمتهم المدائن فيفتحها بإذن الله .. ولم تكن تلك هى الرسالة الوحيدة حيث تبعتها رسالة أخرى قال ( عمر ) فيها :

( لا يكربنك ما يأتيك عنهم ولا ما يأتونك به واستعن بالله وتوكل عليه .. وابعث إليهم رجالاً من أهل النظر والرأى والجلد يدعونهم إلى الله فإن الله جاعل دعاءهم توهيناً لهم )

فما أن قرأ ( سعد بن أبى وقاص ) رسالة عمر حتى كون وفداً ضم أربعة عشر رجلاً من أفضل الرجال فصاحة وعلماً وإيماناً وأيضاً تتوفر فيهم الصفات الجسدية المطلوبة حيث كانوا من الأضخم والأقوى بدنياً .. أراد عمر بذلك أن يكون الوفد على أعلى مستوى من الناحية البلاغية وهو ما قد يساعد فى إقناع القوم بالإسلام فتحقن دماء الفريقين وعلى أقوى ما يكون من ناحية القوة الجثمانية فيعرف الفرس أى قوم سوف يلاقون ..

عمر كان صاحب رؤية ..

كان يخطط للجيش وهو بالمدينة وكأنه يعيش الأحداث بنفسه فى العراق ..

ـــــ

مصادر :
ــــــــــــ

( * ) تاريخ الطبرى – الجزء الثالث – ص 477 : 490
( * ) البداية والنهاية – الجزء السابع – ص 35 : 37

ـــــ