ما بين خالد بن الوليد ومالك بن نويرة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بعد وفاة رسول الله ﷺ إرتدت جزيرة العرب كلها تقريباً عن الإسلام وقد تزعم أمر تلك الردة ثلاثة من زعماء القبائل هم :
– مالك بن نويرة زعيم بنى يربوع
– سَجَاح بنت الحارث زعيمة بنى تَغلُب
– مسيلمة بن حبيب الكذاب زعيم بنو حنيفة
أما مالك بن نويرة فقد كان زعيماً أصله عريق وكان كريماً وفارساً وشاعراً وكان يملك كل صفات القادة العظام بين العرب وقتها .. زوجته هى ليلى بنت سنان وكُنيتها أم تميم وكانت إحدى أجمل نساء العرب وقتها .. أسلم مالك فى العام التاسع للهجرة ولمكانته بين قومه فقد جعله النبى ﷺ على جمع الزكاة من كل فروع قبيلة بنى تميم فلما مات النبى ﷺ ووصل الخبر إلى مالك وكان قد جمع مبلغ الزكاة بالفعل تراجع عن يمين الولاء الذى أقسمه وأعاد الأموال إلى القبائل مرة أخرى منكراً فرض الزكاة ..
أما سجاح فكانت إمرأة ذات صيت فى قبيلتها بنى تغلب وبعد وفاة النبى ﷺ نمى طموحها فى السيطرة على جزيرة العرب فاستخدمت الحيلة وبعض السحر والتنجيم لتقنع قبيلتها والقبائل المحيطة بها بأنها نبية مرسلة من عند الله فصدقها الناس وهو ما جعل تحت يدها جيشاً كبيراً من الرجال قررت أن تغزو به الجزيرة العربية حتى تصل إلى المدينة المنورة فتقضى على المسلمين فى عقر دارهم وقد كان بينها ومالك بن نويرة صلة قرابة فنزلت به وعرضت عليه أن يتحالف معها فوافق وبالفعل نجحوا فى السيطرة على المنطقة كلها تقريباً ..
أما مسيلمة فكان رجلاً ذكياً يرى فى سَجَاح وقومها خطراً عليه قد يضعف جيشه قبل أن يواجه جيش المسلمين خاصة أنه علم بنيتها التحرك إلى معقله فى اليمامة فأراد أن يأمن شرها فأرسل إليها يطلب لقائها فوافقت وتم لقاءهما فى إحدى الخيام بين جيشيهما وبعد تملق أحدهما للأخر وتلاوة ما ادّعيا أنه قرءاناً أنزله الله عليهما – لعنهما الله – عرض مسيلمة عليها الزواج على أن يكون لها نصف حصاد اليمامة وهى منطقة مشهورة بالخير الوفير الذى لم يتوفر مثله لباقى مناطق الجزيرة فوافقت سَجَاح على الزواج منه وباتت عنده ثلاثة أيام وكان صداقها أن وضع مسيلمة عن تابعية صلاتين مما فرضهما محمد ﷺ على المسلمين فكانوا لا يصلون الفجر والعشاء وبذلك انضمت قواتها إلى قوات مسيلمة وعادت هى إلى قومها بنى تغلب ..
بهذا الإتفاق صار هناك خاسراً واحد ..
مالك بن نويرة أصبح وحيداً فى مواجهة المسلمين بقيادة قائدهم خالد بن الوليد ..
ـــــ
لما وصلت الأخبار لخالد خطط للقضاء على جيش مالك أولاً لأنه الأقرب إليه وأيضاً لأنه صار الحلقة الأضعف قبل أن يتوجه لملاقاة مسيلمة الذى تجمع له أكبر جيش فى الجزيرة وقتها بعد تحالفه مع سَجَاح .. فلما تهيأ خالد للتوجه إلى البُطاح منطقة مالك بن نويرة رفض الأنصار الذهاب معه وقالوا له :
( ما هذا بعهد الخليفة إلينا .. إن الخليفة عهد إلينا إن نحن فرغنا من البُزاخة – منطقة تقع شمال شرق المدينة المنورة – واستبرأنا بلاد القوم أن نقيم حتى يكتب إلينا )
فرد عليهم خالد قائلاً :
( إن يك عهد إليكم هذا فقد عهد إلى أن أمضى .. وأنا الأمير وإلى تنتهى الأخبار .. ولو أنه لم يأتنى له كتاب ولا أمر ثم رأيت فرصة فكنت إن أعلمته فاتتنى لم أعلمه حتى أنتهزها .. كذلك لو ابتلينا بأمر ليس منه عهد إلينا فيه لم ندع أن نرى أفضل ما بحضرتنا ثم نعمل به .. وهذا مالك بن نويرة بحيالنا وأنا قاصد إليه ومن معى من المهاجرين والتابعين بإحسان ولست أكرهكم )
ثم تحرك فلما مضى تجمع الأنصار وتشاوروا فيما بينهم وندموا على تخلفهم وقال أحدهم :
( إن أصاب القوم خيراً إنه لخير حرمتموه وإن اصابتهم مصيبة ليجتنبنكم الناس فأجمعوا اللحاق بخالد وجردوا إليه رسولاً )
ـــــ
فى تلك الأثناء أدرك مالك بن نويرة أنه صار وحيداً وليس له قوة لمواجهة جيش خالد فقرر أن يستسلم ولكنه خشى ألا يستجاب لطلبه بعد ما فعله .. كان يدرك أنه ارتد ومنع الزكاة وتحالف مع مدعية للنبوة وحارب معها .. كان يعلم مدى سوء موقفه فقام بجمع قومه وقال لهم :
( يا بنى يربوع .. إنا قد كنا عصينا أمراءنا إذ دعونا إلى هذا الدين وبطّأنا الناس عنه فلم نفلح ولم ننجح .. وإنى قد نظرت فى هذا الأمر فوجدت الأمر يتأتى لهم بغير سياسة وإذا الأمر لا يسوسه الناس فإياكم ومناوأة قوم صُنع لهم .. فتفرقوا إلى دياركم وادخلوا فى هذا الأمر ) يقصد أنهم تأخروا فى الدخول للإسلام وأن هناك من يُدّبر للمسلمين وأنها ليست أفعال بشر .. وأراد مالك إظهار حسن نواياه فأمر بجمع الزكاة من أهل مدينته وأرسلها إلى خالد قبل دخوله المدينة فلما رآها اندهش من هذا التصرف ودخل المدينة متحفزاً يبحث عن أهلها وعلى رأسهم مالك بن نويرة لكنه لم يجد أحداً لأن اليوم كان يوم ريح ولزم الناس بيوتهم فأرسل بعض فرسانه لتمشيط المنطقة بحثاً عنه ..
كانت عادة المسلمين هى أن يؤذّنوا فى تجمع المرتدين فإن ردوا الآذان بآذان فيُفهم بهذا أنهم قد عادوا إلى الإسلام مرة أخرى فيأمنوا على أنفسهم وأموالهم أما إذا لم يردوا فحينها يتم الهجوم عليهم .. مالك بن نويرة كان له منزلاً خارج المدينة ذهب إليه بعض فرسان المسلمين وكان عليهم ضرار بن الأزور فأذّنوا فيه فلم يسمعوا رداً ما عدا الصحابى أبو قتادة الأنصارى الذى قال أنه سمع منهم آذاناً فأجمع الصحابة على الهجوم وتم أسر مالك وأهله ثم اقتادوهم إلى خالد ..
ـــــ
من وجهة نظر خالد هذا رجلاً منع الزكاة .. وتحالف مع سَجَاح .. وكان يهم بقتال المسلمين .. ولم يرد الآذان .. عوامل كثيرة جعلته يتشدد فى التعامل معه ومالك كان زعيماً لقومه ويملك من الكبرياء ما جعله يرفض التذلل لخالد عندما وجه إليه سؤاله :
( ما خطب منعك للزكاه ؟ )
فقال :
( أنا آتى بالصلاة دون الزكاة )
فقال خالد :
( أما علمت أن الصلاة والزكاة لا تقبل واحدة دون الأخرى )
فقال مالك :
( قد كان صاحبكم يقول ذلك )
فغضب خالد وقال :
( وما تراه لك صاحباً ؟!! .. والله لقد هممت أن أضرب عنقك )
فتجادلا فى الحديث حتى قال له خالد :
( إنى قاتلك )
فقال مالك :
( أو بذلك أمرك صاحبك ؟ )
فقال خالد غاضباً :
( وهذه بعد تلك ؟ )
فى تلك اللحظة تملك الغضب من خالد وتأكد له أن مالك لم يُسلم حقاً فما من مسلم يأتى بالصلاة دون الزكاة ويذكر رسول الله ﷺ بتلك الصيغة مرتين متتاليتين فأمر ضرار بن الأزور بقتله فقتله بالفعل ..
ـــــ
الخلاف بعد ذلك لم يكن على ردة مالك بن نويرة أكثر مما كان على عودته للإسلام مرة أخرى أم لا .. أبو قتادة مثلاً رأى أن مالك كان مسلماً ورفض ما قام به خالد وخالد رأى أن مالك أظهر أفعالاً لا تتسق مع كونه مسلماً فقتله وفوق ذلك تزوج إمرأته ليلى .. أموراً مثل تلك دفعت مُتمم بن نويرة شقيق مالك إلى الذهاب للمدينة ليشتكيه إلى الخليفة أبى بكر الصديق وانتشر الخبر وسمع به عمر بن الخطاب رضى الله عنه فألح على أبى بكر ليعزله وقال :
( إن فى سيف خالد رهقاً )
فقال أبى بكر :
( لا يا عمر .. لم أكن لأُشيم سيفاً سله الله على الكافرين )
وكان رضى الله عنه يرى أن الأمر يحتاج لتحقيق فطلب فى قدوم خالد إلى المدينة فأتى حتى دخل المسجد وكان عليه درع يعلوه بعض الصدأ من أثر دماء المعركة ويرتدى عمامة وقد خرق بها بعض السهام وكانت العرب تعتبر هذا دليلاً على الجهاد ومبعثاً للفخر فما أن رآه عمر حتى قام إليه غاضباً ونزع الأسهم من عمامته وكسرها ثم قال له :
( أرثاء .. قتلت أمرأً مسلماً ثم نزوت على امرأته .. والله لأرجمنك بأحجارك )
فلم يرد خالد ظناً منه أن رأيه ورأى أبى بكر سواء ودخل على أبى بكر الصديق ودار بينهم حواراً اعتذر فيه خالد عن سوء الفهم وأوضح ما رآه من مالك بن نويرة من عناد وصلف ورفض لأداء الزكاة وأوضح أيضاً أنه تزوج بامرأته بعد انقضاء عدتها فعذره أبو بكر الصديق وأمره بالعودة إلى مهمته دون أن يعاقبه ولو كان رأى أبو بكر أن خالد قد إرتكب جريمة قتل أو زنى فما كان تركه دون عقاب لا هو ولا باقى الصحابة وعلى رأسهم عمر بن الخطاب نفسه وهو أشد معارضيه وحاشاهم رضوان الله عليهم أن يجاملوا خالد رضى الله عنه فى حد من حدود الله وأصح الأقوال هى أن خالد تأول واجتهد فإن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر والله أعلى وأعلم ..
ـــــ
أما الروايات التى تتهم خالد بن الوليد بحرق رأس مالك بن نويرة وطبخ اللحم عليها فهى روايات يعتريها الكذب والتأليف دخل فى رواتها كثير من الجُهَّال والمدلسين المتهمين بالكذب والضعف والزندقة مثل سيف بن عمر الضّبّى وشعيب بن إبراهيم الكوفى وحزيمة بن ثابت وغيرهم ممن لا يتسع المقام لذكرهم ..
وقد نالت تلك الروايات شهرة بين عامة الناس للأسف رغم ما بها من عوار وضعف حُجَّة .. نعم كانت طبيعة خالد بن الوليد حادة ربما بسبب نشأته العسكرية ونعم كان كثير الزواج حيث لم تقف الروايات على عدد مؤكد لزيجاته وروى أنه مات له أربعون ولد فى طاعون عمواس ولكن رغم ذلك فإن الروايات التى طعنت فيه لم تكن روايات صحيحة مطلقاً ولم يكن ليسمح له الصحابة المرافقين له بفعلها والإستمرار تحت قيادته بعدها وهم من هم ناهيكم عن قبولها من الخليفة وأكابر الصحابة فى المدينة ؟!
ـــــ
مصادر :
ـــــــــــــ
( * ) البداية و النهاية – الفصل السادس – ص 320 / 321
( * ) تاريخ الطبرى – الجزء الثالث – ص 276 / 277
( * ) شرح الشفا للقاضى عياض – ص 393
( * ) الكامل فى التاريخ لابن الأثير 2 / 358 – ص 287
ـــــ