قلنا فى أخر جزء إن الكاردينال سيسينروس مش فى أكثر من مسار لتسريع وتيرة تنصير المورسكيين وكان أول مسار هو إستغلاله لبند فى معاهدة إستسلام غرناطة لإستدعاء واستجواب الزوجات المسلمات اللى أصولهم مسيحية وبعدها يتم سجنهم لحد ما ترضخ باقى الأسرة وتتنصر هى كمان لجمع شملهم مرة تانية .. تانى مسار كان الضغط على الأمراء وكبار رجال الدولة وكبار التجار لإنهم كانوا مرتبطين بشبكة مصالح صعب يتخلوا عنها بسهولة .. أما أخر مسار فكان إجبار عامة الشعب .. الناس دى كانت حرفياً ملهاش ظهر .. بالأساس أغلبهم فقراء وفوق ده كان بيتم إخضاعهم لضرائب أعلى بكتير من اللى بتفرض على الإسبان فى مخالفة صريحة لبنود معاهدة غرناطة .. تفتكروا المستضعفين دول ممكن يعملوا إيه وهما شايفين كبار رجال الدولة من الأمراء والوزراء والتجار بيتنصروا .. طبعاً مكانش قدامهم أى مفر ورضخوا للتهديدات اللى كانوا بيتعرضولها بشكل يومى ..
ـــــ
تصعيد الكاردينال سيسنيروس موقفش لحد كده .. وسط كل اللى فات كان فى إجراءات بتمهد للناس إن التنصير هيبقى إجبارى وإن المورسكيين لا يملكوا رفاهية الإختيار .. أمر بإخراج كل الكتب العربية الموجودة فى بيوت المسلمين فى كل المجالات وجمعها فى ميدان إسمه ( باب الرملة ) وحرقها كلها بإستثناء 300 كتاب فى مجالات الطب والعلوم والفلك وفى المقابل حرق كل ما يخص العقيدة الإسلامية بصلة من أول القرءان الكريم مروراً بكتب الفقه والشريعة وصولاً لكتب التاريخ .. بعدها تجرأ على تحويل مسجد حى البيّازين إلى كنيسة وسماها كنيسة ( سان سالبادور – Iglesia Parroquial de Nuestro Salvador ) .. بعدها انتشرت حمى التنصير ..
الموضوع موقفش عند غرناطة .. بعد 7 شهور بس من وصول الكاردينال سيسينروس تنصر ألميرية وبسطة ووادى آش وجزء من أهل البُشرات .. إما بالترغيب وإما بالترهيب .. بالمناسبة التنصير مكانش دايماً بالإختطاف والتعذيب فى سجون محاكم التفتيش بل خلينى أقول إن خطوة محاكم التفتيش دى غالباً كانت بتبقى أخر خطوة خالص وبتستخدم ضد المتمردين صراحة أو اللى بتثبت ضده تهمة الهرطقة أو معاداة العقيدة الكاثوليكية .. أومال إيه اللى حصل ؟ .. السلطات السياسية والكنسية إتفقوا وقتها إن الموضوع يمشى بالترغيب أحياناً وبالترهيب أحياناً .. يعنى فى قرى وبلدات كاملة تم إعفاء أهلها من الأعباء المالية المفروضة على بقية المورسكيين لمدة 6 سنين بشرط إنهم يتنصروا .. أحياء كاملة وأحياناً قرى ومدن بيتعهد لهم الملك شخصياً بإعفاءهم من أى ضرائب أو رسوم لمدة 6 سنين بالإضافة لعدم ملاحقتهم من رجال الشرطة الإسبانية ولا يسلط عليهم جنود محاكم التفتيش .. تفتكروا يعملوا إيه وقتها ؟
أحد الكتاب المعاصرين للفترة دى – وهو كاتب مجهول بالمناسبة – وصف حال المسلمين وقتها فى كتاب ” نبذة العصر فى أخبار ملوك بنى نصر ” وقال :
( ثم دعاهم – أى ملك قشتالة – إلى التنصر وأكرمهم عليه وذلك فى سنة أربع وتسعمائة .. فدخلوا فى دينهم كرهاً وصارت الأندلس كلها نصرانية ولم يبق من يقول فيها ” لا إله إلا الله محمد رسول الله ” جهراً إلا من يقولها فى نفسه وفى قلبه وفى خفية من الناس .. وجعلت النواقيس فى صوامعها بعد الأذان .. وفى مساجدها الصور والصلبان بعد ذكر الله تعالى وتلاوة القرآن .. فكم فيها من عين باكية وكم فيها من قلب حزين .. وكم فيها من الضعفاء والمعدومين لم يقدروا على الهجرة واللحوق بإخوانهم المسلمين .. قلوبهم تشتعل ودموعهم تسيل سيلاً غزيراً مدراراً وينظرون أولادهم وبناتهم يعبدون الصلبان .. ويسجدون للأوثان .. ويأكلون الخنزير والميتات .. ويشربون الخمر التى هى أم الخبائث والمنكرات .. فلا يقدرون على منعهم ولا على نهيهم ولا على زجرهم ومن فعل ذلك عوقب بأشد العقاب .. فيالها من فجعة ما أمرها .. ومصيبة ما أعظمها .. وطامة ما أكبرها .. وانطفأ من الأندلس نور الإسلام والإيمان فعلى هذا فليبك الباكون ولينتحب المنتحبون فإنا لله وإنا إليه راجعون )
أما المؤرخ شهاب الدين أحمد المقرى ذكر فى كتابه ” نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب ” رسالة بتروى أحداث عملية التنصير قال فيها :
( وتعرفنا من غير طريق وعلى لسان غير فريق أن قطر الأندلس طرق أهله خطب لم يُجد فى سالف الدهر .. وذلك أنهم أُكرهوا بالقتل إن لم يقع منهم النطق بما يقتضى فى الظاهر الكفر ولم يقبل منهم الأسر .. وكان الابتداء فى ذلك من أهل غرناطة وخصوصا أهل واسطتها لقلة الناس وكونهم من الرعية الدهماء مع عدم العصبية بسبب اختلاف الأجناس .. وعلم النصارى بأن من بقى بها من المسلمين إنما هم أسارى فى أيديهم وعيال عليهم .. وبعد أن انتزعوا منهم الأسلحة والمعاقل وعتوا فيهم بالخروج والجلاء فلم يبق من المسلمين طائل .. ونقض اللعين طاغية النصارى عهوده ونشر بمحض الغدر بنوده )
ـــــ
الكلام ده كله حصل خلال 6 شهور بس من وصول الكاردينال سيسنيروس .. 6 شهور كانت كافية ليه عشان يبعت رسايله للبابا فى روما ولفرناندو وإيزابيلا يقولهم فيها إن أغلب أهل غرناطة تحولوا للمسيحية وإن مبقاش فى المدينة ولو مسجد واحد بل تحولت كلها إلى كنائس .. لكن تفتكروا ده حصل بدون مقاومة ؟
عشان محدش يظلم أهل المدينة أو يتهمهم بعدم الدفاع عن عقيدتهم لازم أولاً تعرفوا إن التحول للمسيحية وقتها مكانش نابع من إيمان حقيقى .. الإجبار وإن كان هيخلى الصورة العامة إن المدينة تنصرت بالكامل لكن فعلياً السكان كانوا مسلمين زى ما هما .. كاتب إسبانى معاصر لما حب يوصف الوضع ساعتها قال الآتى :
( كان الموريسكيون يشعرون دائماً بالحرج من الدين الجديد .. فإذا ذهبوا إلى القداس أيام الآحاد فذلك فقط من باب مراعاة العرف والنظام وهم لم يقولوا الحقائق قط خلال الاعتراف .. وفى يوم الجمعة يحتجبون ويغتسلون ويقيمون الصلاة فى منازلهم المغلقة وفى أيام الآحاد يحتجبون ويعملون .. وإذا عُمّد أطفالهم عادوا فغسلوهم سراً بالماء الحار ثم يُسمون أولادهم بأسماء عربية .. وفى حفلات الزواج متى عادت العروس من الكنيسة بعد تلقى البركة تنزع ثيابها النصرانية وترتدى الثياب العربية ثم يقيمون حفلاتهم وفقاً للتقاليد العربية )
ـــــ
ثانياً لازم تعرفوا إن الخضوع لمسألة التنصير دى مجاتش بدون مقاومة .. بعد 6 شهور من ممارسات الكاردينال سيسنيروس وإنتهاكات جنود محاكم التفتيش حصل موقف أشعل الثورة فى نفوس المسلمين ..
حى البَيّازين .. غرناطة .. 18 ديسمبر سنة 1499 ..
شرطى قشتالى إسمه ( فيلاسكو دى باريو نويبو – Velasco de Barrio Nuevo ) ومعاه المساعد بتاعه كانوا بيقبضوا على زوجة مسلمة من أصل مسيحى كالعادة لإستجوابها من أعضاء محكمة التفتيش .. طبعاً الست شافت النماذج اللى قبلها وتأكدت إنها مش هترجع بيتها تانى فقررت إنها تعمل حاجة جديدة ألا وهى الإستجارة بشهامة مسلمى الحى .. قررت إنها تصرخ بأعلى صوتها وهى بتمر فى أحد ميادين الحى وتقول إنها مختطفة من الشرطى ومساعده وسيتم إجبارها على التنصر ..
الناس بطبيعة الحال كانت فاهمة والموضوع مكانش جديد لكن صراخ الست بالشكل ده خلى الناس دمها يفور وفى لحظة إتلموا على الشرطى ومساعده .. قتلوا الشرطى لكن مساعده نجح فى الهروب بعد ما لجأ لأحد البيوت واللى بالمناسبة صاحبته كانت ست مسلمة وافقت إنها تخبيه عندها لحد ما الدنيا تهدى ..
ـــــ
خلال ساعات كان الخبر انتشر والثورة اللى كانت مستنية عود الكبريت عشان تنفجر إنفحرت بصرخة الست المسكينة .. أهل البيازين سلحوا نفسهم باللى قدروا عليه وقفلوا الشوارع وعلى طول إتحركوا على بيت الكاردينال سيسنيروس .. حاولوا يقتحموه طبعاً لكن مقدروش لإن الثورة مكانتش لسه إتنظمت وكمان لإن بيته كان عليه حراسة مشددة .. مين اللى كان يقدر يهدى الناس وقتها ؟ .. الإتنين اللى كانوا متوليين الأمور قبل سيسنيروس .. القس تالافيرا وحاكم المدينة الكونت دى تندليا ..
بحكم إن الشخصين دول كانوا أكثر رحمة بالناس على مدار سبع سنين قبل وصول سيسنيروس فالناس وافقت على وساطتهم لحل الأزمة .. بعد 10 أيام تم تسليم أسلحة المسلمين وتسليم قتلة الشرطى وتم تنفيذ فيهم حكم الإعدام .. فى المقابل تم إستدعاء سيسنيروس للمثول أمام فرناندو وإيزابيلا لكن وكما هى العادة لم يعاقب .. بل إن ملكى إسبانيا تمادوا فى ظلمهم وعرضوا على سكان حى البيازين العفو عنهم بشرط إنهم يتحولوا كلهم للمسيحية .. ولثانى مرة بيقع المسلمين فى فخ المفاوضات الزائفة بعد ما بيتم نزع سلاحهم بعد ما وقعوا فيه فى معاهدة إستسلام غرناطة ..
ـــــ
طبعاً مش كل أهل الحى قبلوا بعرض الإسبان وعليه خرج شوية منهم ناحية جبال البُشرات بحكم إنها منطقة ريفية تضاريسها وعرة وبالتالى الوصول ليهم هناك أصعب نسبياً .. هناك تجمع أهل البيازين مع أهل البشرات ونظموا صفوفهم وانتظروا خطوة الإسبان .. بعد أسبوعين بالظبط وتحديداً فى أوائل فبراير سنة 1500 تم حشد 80 ألف جندى إسبانى للسيطرة على منطقة البشرات وإنهاء التمرد تماماً ..
الإنتفاضة من كتر ما هى كانت قوية اضطر فرناندو الثانى إنه يروح بنفسه للبشرات فى أول مارس لقيادة المعارك .. الموضوع مش هيكون صعب على خيالك .. جيش كبير منظم محاصر مجموعة من سكان القرى والمتمردين من عوام الناس .. بلا فرسان .. بلا رجال سياسة .. بلا دبلوماسيين يقدروا يتفاوضوا .. بلا قيادة مركزية لو حبينا نختصر .. النتيجة كانت حرب عصابات بتكبد الإسبان خساير كبيرة لكن لو قستها بإجمالى جيشهم هتلاقيها خساير مقبولة طبعاً .. مجموعة من ضعاف الناس بتدافع عن دينها بكل ما تملك من قوة لكن الظروف مش فى صفهم إطلاقاً ..
مع الوقت طبيعى إن الإسبان ينتصروا .. القرى والمدن اللى كانت على حدود البُشرات هى اللى سقطت فى الأول .. بعدها بدأ التوغل للمركز .. اللى بيستسلم قدامه خيارين لا ثالث لهما .. إما التنصر أو القتل .. أما اللى بيقاوم للنهاية فملوش مصير إلا الموت .. على سبيل المثال أحد المعارك فى قرية إسمها ( لاوخار دى أنداراكس – Laujar de Andarax ) قرب ألميرية .. أهلها رفضوا الإستسلام فاتقبض على 3000 منهم واتعدموا ذبحاً .. مئات من السيدات والأطفال إحتموا بمسجد المدينة وظنوا إنهم فى أمان على إعتبار إنه دار عبادة وكده فضربه الإسبان بالمدافع واللى نجى من الإنفجار إتقتل لو كانت سيدة أما لو اللى نجى ده طفل فكان بيتاخد بالإجبار على قشتالة وليون عشان يعاد تربيته من جديد كمسيحى ..
الإنتفاضة منتهتش هنا وهتستمر لفترة لكن للأسف نهايتها محتومة ومعروفة .. ـــــ