مآساة الموريسكيين – ( ج 3 )

* البند الرابع من معاهدة إستسلام غرناطة :

( يتعهد جلالتهما وخلفاؤهما إلى الأبد بأن يُترك الملك المذكور أبو عبد الله .. والقادة .. والوزراء .. والعلماء .. والفقهاء .. والفرسان .. وسائر الشعب .. تحت حكم شريعتهم وألا يؤمروا بترك شىء من مساجدهم وصوامعهم وأن تُترك لهذه المساجد مواردها كما هى .. وأن يقضى بينهم وفق شريعتهم وعلى يد قضاتهم وأن يحتفظوا بتقاليدهم وعوائدهم )

* البند الثانى والثلاثون :

( وأنه لا يُرغم مسلم أو مسلمة قط على اعتناق النصرانية )

* البند الثالث والخمسون :

( وأن يكون المأمورون القضائيون الذين يعينون لمحاكم المسلمين مسلمين .. الآن وإلى الأبد )

ـــــ

معاهدة تسليم غرناطة تضمنت 56 بند الغالبية العظمى منهم لصالح المسلمين .. إلتزامات على ملوك إسبانيا الحاليين واللاحقين إلى قيام الساعة بتضمن للمسلمين حرية العقيدة وحرية التجارة وإعفاءات ضريبية لمدة 3 سنين وبعدها يتم مساواتهم بالإسبان فى الإلتزامات المالية .. بنود عظيمة لو تم تطبيقها بجد كان لازال المسلمين عايشين فى إسبانيا ليومنا الحالى ومش بعيد كانت رجعت كلها إسلامية بدون حرب .. كل البنود دى كان قصادها إلتزام واحد ووحيد لا يمكن التفاوض عليه تحت أى ظرف من الظروف تم ذكره فى البند الخامس من المعاهدة :

( نزع سلاح المسلمين الثقيل من المدافع الكبيرة والصغيرة والإبقاء على السلاح الخفيف فقط )

ـــــ

رغم إن بنود المعاهدة كانت ممتازة جداً وبتحقق كل مطالب المسلمين لكن محدش قدر يجاوب على سؤال مهم جداً .. مين اللى يضمن إلتزام فرناندو وإيزابيلا بتنفيذها؟ .. مفيش ولو شخص واحد قدر يأكد على ضمان الجزئية دى .. تم ترك مسألة التنفيذ دى لنبل وإنسانية الملكين المنتصرين واللى للأسف التاريخ أثبت إنهم ونسلهم أبعد ما يكون عن حفظ العهود .. نزع سلاح المسلمين الثقيل وعدم وجود جهة تضمن الوفاء بما ورد فى المعاهدة هو اللى خلى فارس الأندلس ( موسى بن أبى الغسان ) يرفض تسليم المدينة بل إنه قال لأبو عبد الله الصغير وباقى القادة أثناء إجتماعهم :

( لا تخدعوا أنفسكم ولا تظنوا أن النصارى سيوفون بعهدهم ولا تركنوا إلى شهامة ملكهم .. إن الموت أقل ما نخشى .. فأمامنا نهب مدننا وتدميرها وتدنيس مساجدنا وتخريب بيوتنا وهتك نسائنا وبناتنا .. وأمامنا الجور الفاحش والتعصب الوحشى والسياط والأغلال .. وأمامنا السجون والأنطاع والمحارق .. هذا ما سوف نعانى من مصائب وعسف وهذا ما سوف تراه على الأقل تلك النفوس الوضيعة التى تخشى الآن الموت الشريف .. أما أنا فوالله لن أراه )

ودى كانت أخر جملة قالها قبل ما يخرج ومحدش يشوفه تانى .. الرواية الإسبانية قالت إنه خرج على فرسه وواجه فرقة إسبانية مكونة من 15 فارس وقاتلهم لحد ما أصيب حصانه بطعنة قاتلة وهو كمان أصيب بكذا جرح غائر ولما حس بقرب وفاته رمى نفسه فى نهر شنيل ومحدش لقى جثته أبداً .. طبعاً محدش يعرف الحقيقة والرواية نفسها تميل للأسطورة الشعبية أكتر منها لرواية موثقة حتى إن بعض الروايات الإسلامية شككت أصلاً فى وجود ( موسى بن أبى الغسان ) ولكن إجمالاً فكل الروايات أكدت على حماس وشجاعة فرسان المسلمين اللى كانوا محاصرين فى غرناطة وقتها بغض النظر عن أسمائهم ..

ـــــ

المعاهدة نصت إن تسليم المدينة يتم خلال 60 يوم من توقيعها ولكن بسبب بعض الإضطرابات اللى حصلت ورفض كتير من أهل المدينة للإستسلام قرر أبو عبد الله الصغير تسريع تسليمها ليوم 2 يناير سنة 1492 بعد 39 يوم بس من توقيع المعاهدة لإنه كان خايف الإضطرابات تزيد والمعاهدة تفشل .. طب هو كان خايف ليه ؟ .. هو كان خاين مثلاً ؟ .. لأ .. للأمانة مكانش خاين .. هو المعطيات اللى تحت إيده كانت بتؤكد إن سقوط المدينة محتوم ومحدش من كل الجهات اللى خاطبها قرر يقف معاه .. لا المغرب ولا الجزائر ولا تونس ولا مصر ولا حتى الدولة العثمانية .. وبالمناسبة موضوع الدولة العثمانية ده هبقى أتكلم عنه فى بوست لوحده إن شاء الله ..

السقوط المحتوم لغرناطة خلاه ينساق وراء حب الذات والخوف الفطرى على النفس والأهل وبالتالى فضل الدنيا على الموت فى سبيل الدفاع عن أخر حصون الإسلام فى الأندلس .. فرناندو وإيزابيلا عرضوا عليه عرض خاص بيه وبأسرته وبالقادة بتوعه لإغراءهم بالتسليم والعرض ده تم توثيقه فى معاهدة سرية كان فيها إمتيازات مالية كبيرة ليه ولكل أهله وللقادة خاصة الوزيرين الأقرب ليه .. ( أبو القاسم بن المليح ) و ( ابن كماشة الحضرمى ) اللى أكتر من مؤرخ بيتهمهم إنهم العقل المدبر لتمرير معاهدة الإستسلام بسبب ثقة أبو عبد الله الصغير فيهم ..

المهم إن أبو عبد الله وافق على عرض ملوك إسبانيا ورغم محاولاته هو ووزرائه لتخذيل الناس عن الدفاع عن المدينة إلا إنه كان فى أصوات من العامة بتنادى بضرورة رفض المعاهدة وده خلاه خايف من نقضها فى أى لحظة لإن ده معناه خسارته للإمتيازات المعروضة عليه بالإضافة لخسارة حياته وحياة أسرته بالكامل ..

ـــــ

فى أكتر من رواية بخصوص أحداث تسليم المدينة كلهم قريبين من بعض وعشان كده اخترت الرواية الإسبانية جايز لإنها الأقرب للواقع بحكم إن التدوين العربى وقتها مكانش فى حالة جيدة بالإضافة لإن الإسبان هما اللى حضروا الأحداث بنفسهم فحتى لو فى بعض التحريف والمبالغة فهيكونوا هما أقرب للدقة من غيرهم ..

أحداث التسليم بدأت مع فجر يوم 2 يناير سنة 1492 ميلادياً .. خدم قصر الحمراء بيتحركوا بسرعة لتجهيز المتبقى من متاع أبو عبد الله الصغير وأسرته .. الوجوم يعلو الوجوه والحزن يخيم على المكان .. محدش بيتكلم بصوت عالى والحديث كله بالهمس .. كل فترة يدخل الوزير ابن كماشة يتكلم مع أبو عبد الله الصغير عشان يتفق معاه على إجراء هيتم مع تسليم المدينة .. حزن .. وجوم .. صمت .. دموع محبوسة فى العيون .. ودموع تانية سالت على الخدود .. غرناطة هتضيع خلال دقايق ..

تجهز موكب أسرة الملك وأسرته وخرجوا من أحد أبواب القصر ومع خروجهم محدش بيقدر يتمالك دموعه بما فيهم الفرسان وحراس الأبواب .. أبو عبد الله الصغير بيخرج من باب تانى إسمه باب الطباق السبعة ومعاه وزرائه وكام فارس من المقربين ليه وبيروحوا على معسكر ( سانتا فى ) مكان تواجد فرناندو الثانى عشان يسلمه مفتاح المدينة .. لما وصل أبو عبد الله لمعسكر الإسبان ولمح فرناندو كان هينزل من على فرسه دلالة على خضوعه لكن فرناندو طلب منه إنه يفضل على الحصان ومينزلش ولما قرب منه باس أبو عبد الله ذراعه اليمين كدليل على الإستسلام والتبعية .. بعدها قدمله مفتاح المدينة وقال له :

( إنهما مفتاحى هذه الجنة وهما الأثر الأخير لدولة المسلمين فى إسبانيا .. وقد أصبحت أيها الملك سيد تراثنا وديارنا وأشخاصنا .. هكذا قضى الله .. فكن فى ظفرك رحيماً عادلاً )

فاستلم فرناندو المفتاحين وقاله :

( لا تشك فى وعودنا ولا تعوزنك الثقة خلال المحنة .. وسوف تعوض لك صداقتنا ما سلبه القدر منك )

بعدها تحرك الإتنين مع بعض تجاه معسكر إسبانى تانى فى بلدة إسمها ( أرميلية – Armilla ) وده اللى كانت مقيمة فيه إيزابيلا وهناك برضه قدم لها مظاهر الخضوع المعتادة قبل ما يرجع ويجتمع بموكب أسرته ويتحركوا كلهم لمكان إقامتهم قرب قرى ( البُشرات – Las Alpujarras ) وفى طريقه لهناك بيعدوا على ( جبل شُلَير – Sierra Nevada ) وهناك بيحصل موقف بتتداوله الناس لحد يومنا الحالى .. تحديداً عند ممر جبلى أطلق عليه الإسبان إسم ( زفرة المسلم الأخيرة – el último suspiro del Moro ) كوصف لحالة أبو عبد الله الصغير اللى لف وألقى على غرناطة وقصر الحمراء النظرة الأخيرة قبل ما يبكى على فراق مملكته اللى إتولد وعاش فيها قبل ما يوصل لعرشها .. عندها بتقول له والدته الجملة الأشهر لنا كمسلمين واللى بنرددها لحد يومنا الحالى :

( أجل .. فلتبك كالنساء ملكاً لم تستطع أن تدافع عنه كالرجال )

ـــــ

طبعاً الرواية قشتالية بالأساس وفيها ملمح خيالى شوية بحكم إن محدش منهم حضر الموقف ده بالإضافة لعدم ذكر أى مصدر عربى للجملة دى على حد علمى وده بيرجح عدم حدوثها أصلاً ولكن ده لا ينفى شهرة الجملة ولا ينفى برضه إنها بتميل للصحة .. لو إتحد الأندلسيين لمرة واحدة بس بعد سقوط دولة الموحدين كان إختلف كل شيء .. إتحادهم لمرة واحدة بس كان ممكن يسمح بمد عمر الإسلام فى الأندلس لعشرات السنين على الأقل ولكنه قدر الله ولا راد لقضائه ..

( محمد بن علي بن سعد ) المعروف بإسم ( أبو عبد الله ) واللى أطلق عليه الإسبان إسم ( الصغير – El chico ) وأطلق عليه الغرناطيين ( الزغابى ) أو المشئوم مكانش هو السبب فى سقوط الأندلس لكنه بالتأكيد كان أحد معاول الهدم اللى أدت لتسريع وتيرة سقوطه .. هو أبوه وعمه ومن قبله كل الملوك اللى تنازعوا السلطة للإنفراد بيها وعلى رأسهم ملوك الطوائف ..

الأندلس رسمياً ضاع ..

أما أهله فينتظرهم مستقبل أقل ما يوصف به إنه مظلم ..

ـــــ