كولونيا ديجنيداد – ( جـ 2 )

( بول شيفر – Paul Schäfer ) كان يمينى متطرف بيكره الشيوعية جداً .. أحد أهم الأسباب اللى أقنع بيها أتباعه إنهم يسيبوا ألمانيا ويروحوا على تشيلى هو إحتمالية سيطرة الإتحاد السوفييتى على ألمانيا وبالتالى إحتمالية حدوث حرب عالمية ثالثة ..

بعد تسع سنين من وصوله على تشيلى كانت المستعمرة تطورت وحققت شهرة كبيرة هناك .. طبعاً شيفر واجه صعوبات هناك زى هروب بعض أتباعه وتبليغهم عن التجاوزات اللى بتحصل هناك سواء التحرش بالأطفال أو تعذيبهم الغير مبرر أو ظروف العمل الغير آدمية أو جلسات العقاب العلنية للعصاة وغيرها .. ورغم إن التحقيقات إتفتحت وتم إصدار أمر بالقبض على شيفر إلا إنه ومن خلال علاقاته النافذة بالسياسيين وقتها قدر يغير حكم القضاء اللى كان غير مستقل بالمرة واتحكم لصالحه بل وتم الحكم على الأتباع اللى هربوا بالسجن .. كلها مشاكل كان مقدور عليها طبقاً للواقع وقتها ..

الرعب كله حصل لما الواقع ده إهتز ..

ـــــ

سنة 1970 بينجح المرشح الإشتراكى ( سلفادور آييندى – Salvador Allende ) فى الفوز بمنصب الرئاسة فى تشيلى .. أمريكا عملت المستحيل عشان تسقطه وبالفعل نجحت فى إسقاطه فى 3 إنتخابات متتالية لكنها فشلت فى 1970 بسبب ظروف سياسية إستثنائية ده مش وقت شرحها ..

آييندى وبحكم إنه كان إشتراكى فكان بيمثل أسوأ كوابيس شيفر .. كان معرض فى أى لحظة إنه يخسر حلمه اللى بيتمثل فى مستعمرته مهولة المساحة .. إحنا بنتكلم عن 7400 فدان يا جماعة .. مساحة لازم تزغلل عين أى إشتراكى بيحترم نفسه .. المستعمرة كمان وقتها كانت وصلت لدرجة عالية من الإكتفاء الذاتى .. حقول زراعية .. ورش حدادة وخراطة .. ورش نجارة .. مصانع طوب .. أنشطة إقتصادية متعددة غطت نفقات الأفراد فيها بل وكانت بتمثل مصدر دخل لشيفر كمان .. حتى لما إتهامات التحرش والتعذيب ظهرت للعلن شيفر قرر يبنى مستشفى ومدرسة عشان يخدموا أهالى القرى اللى جنبها بالمجان فخلق رابط نفسى بين المستعمرة وبين السكان المحليين عشان يبقى ليه ظهير شعبى لو حد إتهمه بحاجة تانية .. كل المكتسبات دى كان إحتمال يخسرها لو الشيوعية تمكنت من تشيلى ..

ـــــ

آييندى قعد فى السلطة 3 سنين كانوا أصعب 3 سنين مروا عليه بسبب تآمر الولايات المتحدة ضده بمعاونة الخوانتا ( المجلس العسكرى التشيلى ) .. تفجيرات لمحطات الكهرباء وتفجير أنابيب النفط وحرق لمخازن الوقود مع تمويل الإضرابات العمالية وتغذية الإضطرابات الداخلية عن طريق دعم منظمات يمينية متطرفة زى ( جبهة الحرية والقومية – Patria y Libertad ) .. عوامل حولت حياة آييندى لجحيم وخلته دايماً محط إنتقاد رغم إنه عمل المستحيل عشان ينجح .. مع الوقت زادت المواجهات الدامية فى الشوارع بين أطراف الصراع ( اليمينيين واليساريين ) وكل ما المواجهات تزيد كل ما الخوانتا كان بيرفض التدخل بحجة ترك الحرية للشعب وعدم قمعه ..

فى الوقت ده بول شيفر كان على إتصال بقادة من الجيش التشيلى وأعضاء من المنظمات اليمينية المتطرفة وكان حابب إنه يكون حليف معاهم بأى شكل وعرض عليهم إقامة إجتماعاتهم فى المستعمرة فكانت الوفود بتيجى بطيارات خاصة وتنزل مباشرة فى المستعمرة لإن كان فيها مهبط طائرات .. شيفر كان بيستهدف من ورا ده إمداد الجيش ليه بأسلحة وذخائر لحماية نفسهم فى حالة إن الشيوعيين قرروا يهجموا على المستعمرة وكمان السماح ليه بإستيراد أسلحة من ألمانيا وإعادة تصنيعها عن طريق أتباعه وتوريدها للجيش بعد كده ..

استمر الوضع كما هو عليه لحد ما الإعتداءات بين الطرفين بقت تتكرر بشكل يومى وعندها خرج وزير الدفاع ( أوجستو بينوشيه – Augusto Pinochet ) اللى كان لسه متعين من فترة قصيرة وأعلن مواجهته للرئيس فى محاولة لإجباره على ترك الحكم .. آييندى رفض التنازل وتمسك بمنصبه ووصف اللى بيحصل إنه محاولة إنقلاب وفضلت المفاوضات جارية بينهم لحد ما بينوشيه أعلن يوم 11 سبتمبر سنة 1973 إن فى حالة تمسك الرئيس آييندى بمنصبه فهو هيضرب القصر الجمهورى بالطيران .. بالفعل ده اللى حصل ومات فى اليوم ده سلفادور آييندى .. البعض قال إنه إنتحر والبعض قال إن بعض جنود الجيش دخلوا عليه مكتبه وأعدموه .. الله أعلم .. المهم إنه مات فى اليوم ده واتقفل ملف الشيوعية من وقتها ..

ـــــ

طبعاً مش محتاج أوصفلكم مدى فرحة بول شيفر بالإنقلاب ده قد إيه .. فترة حكم بينوشيه كانت العصر الذهبى الحقيقى لشيفر ومستعمرته .. صداقة مباشرة وشخصية مع الديكتاتور شخصياً .. زيارات متكررة بينهم سواء فى المستعمرة أو فى القصر الجمهورى .. عقود تجارية ضخمة .. إمتياز تنقيب عن الذهب .. تجارة أخشاب .. مصانع بتقنيات حديثة مع السماح لهم بإستيراد كل اللى يحتاجوه مع إعفاء حتى من تفتيش الجمارك .. ( كولونيا ديجنيداد – Colonia Dignidad ) فى الوقت ده إتحولت من مؤسسة خيرية غير هادفة للربح إلى كيان إقتصادى كبير جداً بينافس أكبر الشركات فى تشيلى .. وكل ده تم بأيدى عاملة ألمانية ماهرة بتشتغل 16 يومياً بلا أجر مقابل وجباتها الرئيسية ويوم واحد أجازة سنوياً .. والله يا جماعة ده اللى كان بيحصلهم .. يوم واحد بس أجازة فى السنة ..

المهم .. نسيب اللى حصل للضحايا دول للجزء الجاى ونكمل حكايتنا .. العلاقة بين شيفر والنظام الحاكم وقتها تطورت جداً .. من ناحية شيفر مؤيد للنظام وبيهدف للحماية الشخصية ليه ولإستثماره ومن ناحية النظام بيستخدم المستعمرة كمصنع سلاح وكمعتقل لمعارضيه السياسيين .. شيفر كانت ميوله نازية .. لو سمعتوا تسجيلاته هتلاحظوا إنه كان متقمص لشخصية أدولف هتلر .. أسلوبه الخطابى شبيه جداً للى كان بيستخدمه هتلر ..

شيفر نفسه كان على علاقة مع عدد من رؤوس النظام النازى اللى كانوا هربانين فى أمريكا الجنوبية .. كان علاقة مع ( جوزيف مينجيلى – Josef Mengele ) المعروف بإسم ” ملاك الموت ” واللى كان مسئول عن التعذيب والتجارب على المعتقلين فى معتقل أوشفيتز النازى .. كان علاقة كمان مع ( والتر راوف – Walter Rauff ) أحد المسئولين عن إنشاء غرف الغاز المتنقلة اللى تسببت فى قتل أكتر من 100 ألف إنسان أثناء الحرب العالمية الثانية .. الناس دى وغيرهم كانوا بينقلوا خبراتهم فى إجراء التجارب على البشر لبول شيفر اللى بدوره عرضها على النظام الحاكم التشيلى فتلاقت رغباتهم عند النقطة دى .. أنا هوفرلك الحماية وهفتحلك المجال لتوسيع إستثمارك وهغض الطرف تماماً عن أى إنتهاكات بتعملها فى أتباعك وفى المقابل إنت هتحولى مستعمرتك لمعتقل تعذيب للمعارضين اللى هبعتهوملك ..

ـــــ

طبعاً النظام الحاكم كان يقدر يعذب المعتقلين بمعرفته لكن الواضح إنهم حبوا يجربوا فيهم بعض التجارب النازية وكمان عشان التجارب دى تحصل فى مكان غير حكومى .. هما طبعاً مكانوش خايفين ولكن زيادة الإحتياط مش هتضر .. وبدأت شحنات المعتقلين توصل .. طبعاً بتدخل فى الخفاء من غير ما حد من الأتباع العاديين يشوفهم عشان محدش يغلط بكلمة .. بيتشحن المعتقلين لغرف تحت الأرض ملهاش غير مدخل سرى ومتسقفة بأسمنت عشان يحجب أصواتهم قدر الإمكان ..

تعذيب يومى كان بيقوم بيه قادة المستعمرة وبيشرف عليهم شيفر بنفسه .. تعذيب بالكهرباء ونزع الأظافر وغيرها من الأساليب المروعة بغرض إنتزاع إعترافات تفيد النظام .. مئات إن لم يكن آلاف من المعتقلين مروا بالتجارب دى .. بعضهم نجى وأغلبهم مات من أثر التعذيب فكان اللى بيموت منهم بينقلوه بالعربيات ويتدفنوه فى مقابر جماعية كانت متوزعة فى أرض المستعمرة .. الوضع ده استمر لسنين لحد ما استقر الوضع لنظام بينوشيه تماماً ..

ـــــ

مع إنهيار الأوضاع الإقتصادية فى أواخر الثمانينات تم الضغط على بينوشيه للقبول بإستفتاء شعبى لإستمراره فى الحكم .. وقتها كان إنتهى عهد الرعب والإعتقالات وبسبب سوء حالة الإقتصاد الناس فاض بيها وبدأ إعتراضهم يظهر على السطح مرة تانية ودعاوى إسقاط بينوشيه لاقت رواج كبير بين الناس .. وبالفعل نجحت حملات المعارضة وفازوا فى الإستفتاء اللى نتيجته أظهرت إن الأغلبية من الشعب رافضة لإستمرار بينوشيه فى منصب الرئاسة ..

بسقوط بينوشيه خاف بول شيفر على نفسه لإن مصدر حمايته إتشال من منصبه .. طبقاً لشهادة الشهود فشيفر أمرهم بإستخراج الجثث على مدار شهر كامل .. كل يوم كانوا بيخرجوا 40 جثة فى المتوسط .. الجثث كان بيتم حرقها بمادة النابالم عن طريق قاذفات لهب وبعد كده بيجمعوا بقايا العظام مع بعض وبيطحنوها لحد ما تتحول لتراب وأخيراً بيتم رميها فى النهر اللى بيمر فى أرض المستعمرة .. بسبب الإجراءات دى كولونيا ديجنيداد بقت هى المكان الوحيد فى تشيلى اللى تم إستخدامه لتعذيب السجناء لكن ملقوش فيه أثر على أى مقابر جماعية .. الحاجة الوحيدة اللى تثبت تورطهم فى المجازر دى هى إعتراف أعضاء الطائفة اللى شاركوا فيها ..

لحد النهاردة وبعد 50 سنة من وفاتهم أهالى المعتقلين لسه بيدوروا على أى دليل يقودهم لجثث ذويهم مش عشان يحاكموا بول شيفر أو اللى شاركوا معاه فى الجرائم دى لإنهم إما إتحاكموا أو ماتوا ولكن عشان يدفنوا أقاربهم بشكل يليق بيهم .. طبعاً الموضوع ده مكلف جداً لإنك لازم تحفر لمسافة كبيرة تحت الأرض وتحلل التربة عشان توصل لنتائج دقيقة وده طبعاً صعب جداً يتطبق على أرض مساحتها 7400 فدان .. الحكومة التشيلة والحكومة الألمانية مفترض يساهموا بالجزء الأكبر فى التكاليف دى لكن للأسف ده محصلش لإن فى النهاية الإنفاق ده كله مش هيفيد إلا أهالى الضحايا بس وده مكانش حافز كبير بالنسبة لهم عشان يصرفوا المصاريف دى كلها ..

قصة كولونيا ديجنيداد لسه مخلصتش لكن قربت جداً على النهاية ..

ـــــ